وأَينَ هو الخُيرُ، يا صاحِبِي!  (أُقصُوصَة)  

      

– سمير، رِضَى الله عليكَ يا بُنَيَّ، تَدَبَّر بعضَ الفَعَلَةِ واقطِفِ الزَّيتونَ، فقد بَدَأَت تتساقطُ حُبُوبُه على الأرض.

– غَدًا، إِن شاءَ الله. ولكن، هل يَفِي ما يَدُرُّ المَوسِمُ بِأُجُورِ العُمَّالِ، وتَكلِفَةِ الأَسمِدَةِ وغيرها، يا أُمَّاه؟! إِنَّها تِجارَةُ عَذابٍ، وحاصِلُ تَعَبِنا هَباءٌ، وإِضاعَةُ وَقت.

– وما العَمَلُ يا حَبِيبِي؟ هل نَترُكُ غَلَّةَ رِزقِنا طَعامًا لِلأَرض؟

وتَنَهَّدَت أُمُّ سَمِيرٍ، وهي مُنكَبَّةٌ على رِداءٍ تَخِيطُهُ لامرَأَةٍ جارَتِها.

مُنذُ تَوَفَّى اللهُ أَبا سَمِير وهي تَكِدُّ جاهِدَةً لِتُوَفِّرَ لابنِها الوَحِيدِ البالِغِ عَشْرَ سِنِينَ حَياةً مَقبُولَة. فَقِطعَتا الزَّيتونِ اللَّتانِ تَرَكَهُما زَوجُها لِلعائِلَةِ لا تَكفِيان أُمُورَ العَيشِ، فكانت تَعمَلُ في خِياطَةِ الأَلبِسَةِ لِلنِّساءِ في قَريَتِها. وذاعَ صِيتُها لِصِدقِها، وأَمانَتِها، واقتِناعِها بِأَجْرٍ مُعتَدِلٍ كانت تَتَقاضاهُ ساعَةَ تَشاءُ زَبُونَتُها، وكَثِيرًا ما يكون على دُفُعات. وكان ما يُروَى عنها مِن كلامٍ عَطِرٍ دافِعًا لِلكَثِيراتِ مِن القُرَى المُجاوِرَةِ كَي يَأتِينَ إليها.

بَلَغَ سَميرُ السَّادِسَةَ عَشرَةَ، وأُمُّهُ تَقطَعُ عن نَفسِها جُلَّ احتِياجاتِها لِتُؤَمِّنَ له بُحبُوحَةً تَتَعَدَّى قُدُراتِها في كَثِيرٍ مِن الأَوقاتِ، كي لا يُحِسَّ بِاليُتْمِ، أَو يَبدُوَ ذَلِيلًا بين رِفاقِه.

ولكنَّ عَجَلَةَ التَّعَلُّمِ مع هذا الوَلَدِ المُدَلَّلِ تَوَقَّفَت عِندَ عَتَبَةِ الشَّهادَةِ المُتَوَسِّطَةِ، وعَجَزَ عن الحُصُولِ على الوَرَقَةِ السِّحرِيَّةِ المَمهُورَةِ بِخَتمِ الدَّولَةِ، فتَرَكَ المَدرَسَةَ رُغمًا عن دُمُوعِ أُمِّهِ وتَوَسُّلاتِها.

وراحَ يَهتَمُّ بِأَرضِهِم الصَّغِيرَةِ، ويَقضِي أَيَّامَهُ في لَعِبِ الوَرَقِ، والتَّسَكُّعِ في القَريَةِ، مع أَترابٍ له تَشابَهَت مَصائِرُهُم ونَزَعاتُهُم.

***

جَلَسَ سَمِير مع صَدِيقَيهِ في ظِلِّ شَجَرَةٍ يَتَحَدَّثُونَ في كُلِّ شَيءٍ، ويَتَأَفَّفُونَ مِن حَياتِهِم الرَّتِيبَةِ في القَريَةِ حيث لا أَمَلَ في مُستَقبَلٍ مُرِيحٍ، ولا مَجالَ مَفتُوحًا أَمامَ تَحصِيلِ ثَروَةٍ مَقبُولَةٍ تَسمَحُ بِبِناءِ غَدٍ أَفضَل. وانبَرَى أَحَدُهُم يقول: أَوَلَيسَ علينا بعضُ الذَّنبُ في هذا؟ فَها هو التَّاجِرُ أَبُو عَفِيفٍ في بَلدَةِ جَملُونَ يَروُونَ أَنَّهُ كان فَقِيرًا في شَبابِهِ، فَنَزَلَ إِلى طَرابُلُسَ وفَتَحَ دُكَّانًا صَغِيرًا، ومَرَّت السَّنواتُ فإِذا هو مِن الأَثرِياءِ، يَملِكُ مَتجَرًا كَبِيرًا، وأَراضِيَ واسِعَةً في بَلدَتِهِ، وباتَ مِن وُجهاءِ قَومِهِ، ومَرجِعًا لِلكَثِيرِين. أَمَّا نحن فَإِنَّنا نَلُوكُ أَيَّامَنا في هذه القَريَةِ الفَقِيرَةِ، ونَنتَظِرُ أَن يَهبِطَ علينا اليُمْنُ مِن السَّماء.

وارفَضَّ جَمعُهُم بعدَ ساعَتَينِ مِن التَّحادُثِ والتَّذَمُّرِ والأَحلامِ الجَهِيضَةِ، وعادَ كُلٌّ إِلى عَرِينِهِ، ورَتابَةِ عَيشِه.

اختَمَرَ حُلْمُ النُّزُولِ إِلى المَدِينَةِ في بالِ سَمِير، وخالَ فيه خَلاصًا مِن سِجنِ القَريَةِ ووَضاعَةِ العَيشِ فِيها، فَأَتَى والِدَتَهُ يَومًا عارِضًا عليها: أُمَّاه، إِنَّ حَياتَنا الرَّاهِنَةَ لا تُبَشِّرُ بِفَرَجٍ، ولَن تَسمَحَ بِبِناءِ مُستَقبَلٍ لِي تَرضَينَهُ وتَطمَحِينَ إِلَيه. فَلْنَبِعْ قِطعَةَ زَيتُونٍ ونَفتَحْ مَتجَرًا صَغِيرًا في طَرابُلُسَ، وسَيَفتَحُ اللهُ أَمامَنا دُرُوبًا جَدِيدَة.

أَجفَلَتِ الأُمُّ، وهالَها ما سَمِعَت، ورَفَضَت الأَمرَ بِحَزمٍ، وقالت في حِدَّةٍ: أَنَسِيتَ أَنَّ إِمكاناتِنا مَحدُودَةٌ، لا تَسمَحُ بِالمُغامَرَةِ الَّتي قد تُودِي بِنا إِلى فُقدانِ رِزقِنا والقَلِيلِ الَّذي لَدَينا؟ ثُمَّ هل أَتَخَلَّى عن زَبُوناتِي العَدِيداتِ، وعَمَلِي النَّاجِحِ في الخِياطَةِ، وهو، كما يَجِبُ أَن تَعلَمَ، المَصدَرُ الرَّئِيسُ لِمَدخُولِنا؟ فَبِالله عليكَ، يا بُنَيَّ، دَعْ هذه الأَحلامَ الواهِيَةَ، وتَخَلَّى عن أَفكارٍ يُسَمِّمُكَ بها رِفاقُكَ لِيَزُجُّوكَ في داهِيَةٍ، وهم قابِعُونَ هُنا لا يَتَحَرَّكُون. فاترُكِ الأُمُورَ لله، فهو كَرِيمٌ مع عِبادِهِ، وتَرَأَّفْ بي، فَلَن أَتَحَمَّلَ المَزِيدَ مِن الضَّغْط.

– لا يا أُمِّي، لَن أَستَطِيعَ المُتابَعَةَ هكذا، وقد بَلَغتُ الرَّابِعَةَ والعِشرِينَ مِن عُمرِي وليسَ في أُفُقِي ما يَعِدُ بِفَرَجٍ، وقد أَوشَكتُ أَن أَضِيقَ ذَرْعًا بِحَياتِي، فَلا تَقِفِي حائِلًا دُونِي. أَمَّا بِخُصُوصِ عَمَلِكِ في الخِياطَةِ، فَإِنَّهُ سَيَتَحَسَّنُ في مُجتَمَعِ المَدِينَةِ الثَّرِيِّ الواسِعِ، ولا تَظُنِّي البَتَّةَ أَنَّ رِفاقِي هُم مَن يُحَرِّضُونِي، ولكِنَّنِي أَرَى أَمامِي أَمثِلَةً مِن ناسٍ رَفَعَتهُمُ المَدِينَةُ مِن دَرَكٍ كانوا فيه، ومِنهُم، مِثالًا، أَبُو عَفِيفٍ مِن جَملُونَ، وأَنتِ تَعرِفِينَ جَيِّدًا تَفاصِيلَ حَياتِهِ. ثُمَّ هذا ابنُ عَمِّي هانِي، يَعِيشُ في المَدِينَةِ في حالٍ يُحسَدُ عليها، وما رَأَيتُهُ يَومًا يَشكُو مِن العَيشِ فيها، وهو لَن يَترُكَنِي بَل سَيَمُدُّ لِي يَدَ المُساعَدَةِ في البِدايَةِ.

تَنَهَّدَت طَوِيلًا، وقالت: أَنتَ حالِمٌ يا بُنَيَّ. أَلا لَيتَكَ اتَّخَذتَ ابْنَ عَمِّكَ مِثالًا تَحتَذِيهِ، فهو تَعَلَّمَ ونالَ شَهادَةً عالِيَةً، فَتَوَظَّفَ في شَرِكَةِ التَّابلاين، بِمَعاشٍ مُحتَرَم. ولَكَم أَسدَى إِلَيكَ النُّصْحَ كَي تَجِدَّ وتَدرُسَ لِتَنجَحَ في مَدرَسَتِكَ، وكان يُبدِي استِعدادَهُ لِمُساعَدَتِكَ في دُرُوسِكَ، وقد حَضَنَكَ كَأَخِيهِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ كَصَدِيقِهِ الأَقرَبِ والأَوفَى بِالرُّغمِ مِن أَنَّه يَزِيدُكَ بِسِتِّ سَنَوات. ولَن أُعَدِّدَ على مَسمَعِكَ أَسماءَ الكَثِيرِينَ مِمَّن لم يُلاقُوا في المَدِينَةِ إِلَّا الخَيبَةَ، وعادُوا أَدراجَهُم بَعدَ أَن فَقَدُوا الكَثِيرَ مِمَّا كانُوا يَقتَنُون. فَتَبَصَّرْ، وَ “على قَدّْ بساطَكْ مُدّْ رِجلَيْك”، وإِلَّا أَوقَعتَنا في داهِيَةٍ قَد لا نَخرُجُ مِنها سالِمِين.

مَرَّت أَيَّامٌ عَصِيبَةٌ على البَيتِ الوادِع. أَلإِبنُ في حالٍ مِن الإِحباطِ، يُلازِمُ غُرفَتَهُ فَلا يُكَلِّمُ والِدَتَهُ إِلَّا لِيُجِيبَ على أَسئِلَتِها بِاقتِضابٍ، والأُمُّ في هَمٍّ دائِمٍ، تَتَخَبَّطُ في دُوَّامَةِ التَّفكِيرِ، وتَأكُلُها الوَساوِسُ وهي تَرَى ابنَها وقَد هَجَرَت الابتِسامَةُ شَفَتَيهِ، واستَحالَت حَياتُهُ غَمًّا بادِيًا على قَسماتِهِ، واختَفَى زَهْوُ الشَّبابِ مِن عَينَيهِ الذَّابِلَتَين.

كَلَّمَ سَمِيرُ ابنَ عَمِّهِ في أَمرِ نُزُولِهِ إِلى طَرابُلُسَ، وطَلَبَ إِلَيه إِقناعَ أُمِّهِ بِالأَمرِ، فَأَبدَى هاني تَحَفُّظًا شَدِيدًا لِما فيه مِن مُغامَرَةٍ، واحتِمالِ فَشَل. وحاوَلَ أَن يَثنِيَهُ فَلَم يُفلِحْ، ورَفَضَ طَلَبَهُ في التَّدَخُّلِ مع أُمِّهِ، لِعَدَمِ اقتِناعِهِ، وخَشيَتِهِ مِن مَسؤُولِيَّةِ قَرارٍ كَبِيرٍ كهذا؛ ثُمَّ أَفشَى له سَعيَهُ الدَّائِمَ لِيَجِدَ له وَظِيفَةً حيث يَعمَلُ هو مِن دُونِ أَن يُوَفَّق.

بَعدَ أَيَّامٍ داكِنَةٍ لَفَّعَت حَياةَ العائِلَةِ الشَّقِيَّةِ، لم تَجِدِ الأُمُّ مَناصًا مِن الانصِياعِ لِرَغبَةِ ابنِها، خَوفًا عليه، فَبِيعَت قِطعَةُ الزَّيتُونِ الكُبرَى لِثَرِيٍّ مِن القَريَةِ، وانطَلَقَ اليافِعُ المُتَّقِدُ أَمَلًا إِلى قِبلَتِهِ يُفَتِّشُ عَن كَنزٍ رَسَمَهُ في خَيالِهِ طُمُوحُ الشَّباب.

اكتَرَى مَنزِلًا أَرضِيًّا بِغُرفَتَينِ، في حَيٍّ مُكتَظٍّ في طَرابُلُسَ، وفَتَحَ في غُرفَةٍ منه دُكَّانًا صَغِيرًا، وراحَت أُمُّهُ تَعمَلُ في الخِياطَةِ وإِصلاحِ الثِّياب.

كان مَحصُولُ الدُّكَّانِ لا يَكفِي إِيجارَ المَنزِل. ولولا المالُ الَّذي بَدَأَت تُحَصِّلُه الأُمُّ مِن عَمَلِها مَدَى نَهارِها وهَزِيعٍ مِن لَيلِها لَنَفِدَ ما بَقِيَ لَدَيهِما مِن دَراهِمَ، ولَسارَ الوَضعُ مِن سَيِّئٍ إِلى أَسوَأ. وما كانتِ الأُمُّ لِتَشتَكِيَ أَمامَ ابنِها مِن قَرارِهِ الخاطِئِ كَي لا يَشعُرَ بِذَنْبٍ، أَو يَدخُلَ الهَمُّ واليَأسُ إِلى قَلبِه. بل كانت تُرَدِّدُ أَمامَهُ دائِمًا: لا رَيْبَ مِن أَن تَنجَلِيَ الأَزْمَةُ، وكُلُّ بِدايَةٍ لا بُدَّ أَن تَكونَ عَسِيرَةً، فَلْنَتَوَكَّلْ على الله!

***

رَئِيفَة فتاةٌ نَصِيبُها مِن الجَمالِ زَهِيدٌ، وَطِئَت عَتَبَةَ الثَّالِثَةِ والثَّلاثِينَ ولَمَّا يَأْتِ فارِسُ الأَحلامِ بَعدُ. مَضَت عَشْرُ سَنَواتٍ على وفاةِ أُمِّها إِثْرَ مَرَضٍ لَم يُمهِلْها كَثِيرًا، وكانت في الخامِسَةِ والأَربَعِينَ، فَتَرَكَت رَئِيفَة وَحِيدَةً مع والِدِها التَّاجِرِ الثَرِيٍّ الَّذي يَكبُرُها بِخَمسَةَ عَشرَ عامًا.

عاشَت الإِبنَةُ عِيشَةَ دَلالٍ في كَنَفِ أَبِيها الَّذي ما رَفَضَ لها طَلَبًا. وكانت أَحلامُها تَكبُرُ، وتَستَيقِظُ في جَسَدِها مَشاعِرُ لا تَقوَى على كَبتِها، ولا تَجِدُ لها مُتَنَفَّسًا عِندَ شَبابِ الحَيِّ الَّذي تَقطُنُ فيه. فما استَطاعَت ثَروَةُ والِدِها أَن تُجَوِّزَها عائِقَ بَشاعَةٍ صَعُبَ عليها تَموِيهُها بِكُلِّ ما أَنجَزَ العِلمُ مِن مَساحِيقِ تَجِمِيل.

ها هي سَنَةٌ مَرَّت على وفاةِ والدِها، وهي تَعِيشُ في وَحدَةٍ قاتِلَةٍ، وتَشعُرُ بِالسِّنِينَ تَنزَلِقُ مِن على جِذْعِ عُمرِها، فَلا تَرَى في أُفُقِ الأَيَّامِ إِلَّا سَوادًا يُنذِرُ بِوَحشَةٍ سَتَسحَقُ رُوحَها. لَقَد باعَت حِصَّةَ والِدِها لِشَرِيكِهِ في المَتجَرِ الضَّخمِ الَّذي يَملِكانِهِ، بَعدَ أَن لاحَظَت أَنَّهُ “يَأكُلُ البَيضَةَ وتَقشِيرَتَها”، فَتَوَفَّرَت لها ثَروَةٌ كَبِيرَةٌ في المَصرِفِ، تَدُرُّ عليها فائِدَةً مَرمُوقَة.

مَرَّت ذاتَ يَومٍ، وهي عائِدَةٌ إِلى بَيتِها، بِدُكَّانِ سَمِيرٍ الكائِنِ في شارِعٍ قَرِيبٍ مِن مَنزِلِها، تَبتَغِي شِراءَ حاجَةٍ ما، فَاستَقبَلَها بِتَرحابٍ، وَوَجهٍ بَشُوشٍ، ورَأَت فيه فَتًى جَمِيلَ الطَّلعَةِ، بِقامَةٍ مُستَقِيمَةٍ كَالرُّمحِ، وصَدرٍ مُرتَفِعٍ شامِخٍ، فَأَحَسَّت، لِلوَهلَةِ الأُولَى، بِانجِذابٍ إِليه، وشامَت فيه فارِسًا تَطِيبُ رُفقَتُهُ، ويَطِيبُ الرُّكُونُ إِلى حِضنِهِ الدَّفِيء.

لاحَظَ سَمِيرُ أَنَّ زِياراتِ رَئِيفَة إِلى دُكَّانِهِ بَدَأَت تَزدادُ، وأَحيانًا لِأَسبابٍ واهِيَة. وإِذا بِها تَدخُلُ في خُصُوصِيَّاتِهِ، فَتَسأَلُ عن حَياتِهِ بِاهتِمامٍ، وتُشِيرُ، تَلمِيحًا، إِلى ما تَملِكُ مِن ثَروَةٍ بَعدَ رَحِيلِ والِدِها.

وكانت تُلاطِفُهُ، فَبَدَأَ يَشعُرُ نَحوها بِالعَطفِ الَّذي غَدا، مع الأَيَّامِ والمُعاشَرَةِ، مَيلًا لَطِيفًا، وهو الشَّابُّ المَحرُومُ مِن حَنانِ الأُنُوثَةِ، تَغلِي دِماؤُهُ في عُرُوقِهِ فَلا يَجِدُ لها مُبتَرَدًا. وساهَمَ المَلَلُ مِن مُلازَمَةِ الدُّكَّانِ طَوالَ النَّهارِ وبَعضَ اللَّيلِ في تَحَوُّلِ عَلاقَتِهِ بِرَئِيفَةَ إِلى حُبٍّ مُعتَدِل. ثُمَّ وَجَدَ فيها زَوجَةً مُناسِبَةً تَحمِلُ عنه أَعباءَ يَكادُ يَنهارُ تحت ثِقَلِها، فَاتَّفَقَ معها على الزَّواجِ، على أَن يُعَرِّفَها، بَداءَةً، إِلى أُمِّه.

قالت الأُمُّ، لَمَّا عادَ سَمِيرُ بَعدَ أَن أَوصَلَ رَئِيفَة إِلى مَنزِلِها: تَبدُو لَطِيفَةً، وإِن كان يَنقُصُها جَمالُ المَنظَر. فَفاتَحَها، حِينَئِذٍ، بِرَغبَتِهِ بِالزَّواجِ مِنها، بَعدَ أَن عَدَّدَ لها الكَثِيرَ مِن صِفاتِها الحَسَنَةِ. لَم تُبْدِ رَأيًا خاصًّا في هذا الشَّأنِ، بَل أَسَرَّت إِلَيه: هي حَياتُكَ، وأَنتَ أَعرَفُ بِمَصلَحَتِك.

لم تَمضِ أَسابِيعُ قَلِيلَةٌ حتَّى تَزَوَّجا، واشتَرَت العَرُوسُ مَحَلًّا كَبِيرًا في حَيٍّ راقٍ، وفَتَحاهُ مَتجَرًا عامِرًا بِالبَضائِع، وانتَقَلَ رَئِيف مع والِدَتِهِ لِلعَيشِ في مَنزِلِ العَرُوسِ الواسِع.

سارَت أَعمالُ سَمِير على ما يُرامُ، واستَمَرَّت الأُمُّ بِالخِياطَةِ، وكَثُرَت زَبائِنُها، ورُزِقَ الزَّوجانِ بابنَتَين.

مَرَّت سَنَواتٌ هَنِيئَةٌ، لا يُكَدِّرُها مُكَدِّر. فَحالُ المَتجَرِ جَيِّدَةٌ، والأُمُّ تَدُرُّ مالًا على العائِلَةِ، ولو بَدَت آثارُ الزَّمَنِ بارِزَةً في غُضُونِها، وشَعرِها الَّذي هَجَرَهُ السَّواد.

أَحَسَّتِ الأُمُّ يَومًا بِأَلَمٍ في يَدِها اليُسرَى، فَلَم تُعِرْهُ انتِباهًا، وعَلَّلَتهُ بِعَمَلِها الدَّؤُوبِ. ثُمَّ بَدَأَ الأَلَمُ يَزدادُ وتَتَمَدَّدُ رُقعَتُهُ، وهي تَكتُمُهُ على ابنِها وكِنَّتِها، حتَّى شَمَلَ يَدَها كُلَّها، ولم يَطُلْ حتَّى تَطَوَّرَ إِلى شَلَلٍ في كامِلِ اليَد.

اصطَحَبَها ابنُها إِلى طَبِيبٍ مَشهُورٍ في المَدِينَةِ، فَأَجرَى لها كُلَّ الفُحُوصاتِ اللَّازِمَةِ، فإِذا بِالصُّورَةِ الشُّعاعِيَّةِ تُظهِرُ جَيْبًا في النُّخاعِ الشَّوكِيِّ، تَستَحِيلُ مَعهُ الجِراحَة. فَوَصَفَ الطَّبِيبُ لها جُملَةَ أَدوِيَةٍ، ومِنها ما هو غالِي الثَّمَنِ، عليها تَناوُلُها بِاستِمرارٍ.

لازَمَتِ الأُمُّ المَنزِلَ على مَضَضٍ إِذ تَعَذَّرَ عليها العَمَل. وأَخَذَت حالَتُها الصِّحِّيَّةُ تَتَدَهوَرُ فَإِذا بِها تُعانِي مِن فَرْطِ ضَغطٍ في الدَّمِ، وباتَت في حالَةٍ مِن الإِحباطِ النَّفسِيِّ جَعَلَها لا تَبتَسِمُ إِلَّا لِحَفِيدَتَيها.

اعتادَ سَمِيرُ، كُلَّما عادَ إِلى البَيتِ في المَساءِ، أَن يَقضِيَ بَعضَ الوَقتِ يُلاعِبُ طِفلَتَيهِ، ويَستَمِعُ بِشَغَفٍ لِأَخبارِهِما البَرِيئَةِ، ثُمَّ يَجالِسُ زَوجَتَهُ، يَتَحادثانِ في شُؤُونِ العائِلَةِ، وما مَرَّ بِهِ خِلالَ عَمَلِهِ في المَحَلِّ، ثُمَّ يُلازِمُ والِدَتَهُ، يُكَلِّمُها في كُلِّ شَيءٍ لِيُسَرِّيَ عنها، ويُنسِيَها، ما أَمكَنَ، حالَتَها الصَّعبَةَ، فكانَ هذا الوَقتُ تَقضِيهِ مع ابنِها لَذَّتَها الباقِيَةَ، وعَزاءَها الوَحِيد.

بَدَأَت عَلاقَةُ رَئِيفَة بِحَماتِها يَشُوبُها الفُتورُ، والأُمُّ صابِرَةٌ، سِلاحُها الصَّلاةُ، والتَّضَرُّعُ لِلَّه، مِن دُونِ أَن تَذكُرَ شَيئًا لابنِها، مُحافَظَةً على حَياتِهِ الزَّوجِيَّةِ مِن التَّصَدُّع.

بَدَأَ تَبَرُّمُ الزَّوجَةِ يَتَفاقَمُ، وكانت، مَدَّ النَّهار، تَبتَكِرُ الأَسالِيبَ في إِغاظَةِ العَجُوزِ المَغلُوبَةِ على أَمرِها، مِن دُونِ أَيَّما شَفَقَةٍ، أَو مُراعاةٍ لِشُعُورِ زَوجِها المُحِبّ. وعِندَ رُجُوعِهِ، في أَوَّلِ اللَّيلِ، تَرُوحُ تَتَشَكَّى مِن تَصَرُّفاتِ أُمِّهِ المَزعُومَة، وتَختَلِقُ الأَكاذِيب.

ويَومًا، انفَرَدَت به، ثُمَّ راحَت تُلاطِفُهُ وتَتَوَدَّدُ إِلَيه على نَحْوٍ غَيرِ اعتِيادِيٍّ، ثُمَّ قالت، والرَّوْغُ والخُبثُ يَنضحانِ مِن كَلامِها: ما رَأيُكَ، يا حَبِيبِي، أَن نَضَعَ أُمَّنا في مَأوًى تابِعٍ لِــ “جَمعِيَّة البِرِّ بِالعَجَزَة”، وما ذلك إِلَّا لِراحَتِها، وتَسلِيَتِها مع مَثِيلاتِها في الجَمعِيَّة. وهَوَّنَتِ الأَمرَ عليه، بِأَنَّ امرَأَةً نافِذَةً، لها بِها صِلَةُ قُرْبَى، سَتُساعِدُ في قَبُولِها.

رَفَضَ سَمِيرُ العَرْضَ بِإِصرارٍ، كاتِمًا غَيظًا كادَ أَن يَتَفَجَّرَ في أَعماقِه.

تَحَوَّلَ جَوُّ المَنزِلِ إِلى جَحِيم. وباتَت رَئِيفَة، في غِيابِه، لا تَكُفُّ عن مُعاكَسَةِ الأُمِّ الصَّابِرَةِ، وإِزعاجِها بِشَتَّى الطُّرُقِ، والأُمُّ تَلتَزِمُ الصَّمتَ مَخافَةَ تَهدِيمِ العُشِّ الزَّوجِيّ.

وكانت لَيلَة ُسبَتٍ، أَقفَلَ سَمِيرُ عَمَلَهُ وعادَ إِلى المَنزِلِ، فَوَجَدَ زَوجَتَهُ مُقَبَّضَةَ الوَجهِ، تَتَحاشاهُ، فَراحَ يُسأَلُها عَن سَبَبِ عُبُوسِها فَلا تُجِيبُ، إِلى أَن ساوَرَهُ الغَضَبُ أَخِيرًا، فَانفَجَرَت في وَجهِهِ تَبكِي وتَصِيحُ، وتُهَدِّدُ بِأَنَّها سَوفَ تَنفَصِلُ عنه إِذا لَم يُرسِلْ أُمَّهُ إِلى المَأوَى. وكُلَّما حاوَلَ تَهدِئَةَ غَضَبِها، كانت تَعلُو سَورَتُها، ويَشتَدُّ صُراخُها، وتُعِيدُ طَلَبَها بِإِلحاح. ثُمَّ فَجَأَتهُ بِطَرْحِها: احْسِبْ أَنَّكَ تَدفَعُ إِيجارَ المَحَلِّ الَّذي اشَتَرَيتُهُ أنا بِمالِ والِدِي، تَرَ أَنَّ تَكلِفَةَ المَأوَى سَتَكُونُ أَقَلَّ بِكَثِيرٍ، ولا أَظُنُّ أَنَّ الدَّفْعَ سَيَطُولُ كَثِيرًا، فَأُمُّكَ كَبِيرَةٌ في السِّنِّ، وإِن كانت الأَعمارُ بِيَدِ الله.

عِندَئِذٍ، اعتَرَت سَمِيرُ نَوبَةُ جُنُونٍ، فَرَفَعَ كَفَّهُ في وَجهِها، وهَمَّ أَن يَصفَعَها، ولكنَّهُ عادَ فَأَرخَى يَدَهُ واستَرسَلَ في الشَّتائِمِ بِصَوتٍ مَخنُوقٍ بِغَضَبٍ مَرِيرٍ، ونَظَراتُهُ تَكوِي وَجهَها بِالحِقدِ والكَراهَة. ثُمَّ خَرَجَ وصَفَقَ البابَ.

كانت الأُمُّ تَسمَعُ مِن رُكنِها كُلَّ ما جَرَى، ودُمُوعٌ جامِدَةٌ تَحتَرِقُ في عَينَيها، وضِيقٌ يُطبِقُ على صَدرِها.

قَصَدَ سَمِيرُ مَنزِلَ قَرِيبِهِ هاني، صَدِيقِ عُمرِهِ، وكاتِمِ أَسرارِه. ولَمَّا انفَرَدا التَمَعَت عَيناهُ بِالدَّمعِ، فَاستَوضَحَهُ قَرِيبُهُ الأَمرَ، فَأَفضَى إِلَيهِ بِذاتِ صَدرِه. وبَكَى أَمامَهُ كَطِفلٍ لِأَنَّهُ عاجِزٌ عن التَّصَرُّفِ مع هذه الزَّوجَةِ العَنِيدَةِ الحَمقاءِ، ويَستَحِيلُ عليه الطَّلاقُ مِنها لِما يَتَرَتَّبُ على ذلك مِن أَزْمَةٍ مالِيَّةٍ قاتِلَةٍ، في وقتٍ تَتَوَجَّبُ عليه مَدفُوعاتٌ كَثِيرَةٌ أَقَلُّها ثَمَنُ الأَدوِيَةِ لِأُمِّه العَجُوزِ المَرِيضَةِ. وبِالمُقابِلِ هو لا يَسَعُهُ التَّخَلِّي عن أُمِّهِ الَّتي رَبَّتهُ بِسَهَرِ الأَهدابِ ودُمُوعِ المآقِي، والَّتي حَضَنَتهُ في كُلِّ أَيَّامِ مِحنَتِه. فَكَيفَ لَهُ أَن يَزُجَّها في مَأوًى، وَيَرتَعَ هو في المَنزِلِ الوَثِير؟!

مَكَثَ سَمِيرُ عند صَدِيقِهِ أَكثَرَ مِن ساعَتَينِ، راحَ فيها هذا الصَّدِيقُ الوَفِيُّ يُخَفِّفُ عَلَيهِ غُلواءَهُ، ويُمَنِّيهِ بِحَلٍّ يَأتِيهِ مِن حَيثُ لا يَدرِي، فَلِكُلِّ شِدَّةٍ فَرَجٌ، وَ”أَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ”*، والصَّبرُ كَفِيلٌ بِتَذلِيلِ العَقَبات. وَوَعَدَهُ أَنَّهُ سَيَزُورُهُ في الغَدِ، ويُحاوِلُ مع رَئِيفَة إِيجادَ مَخرَجٍ لائِق.

عادَ سَمِير فَوَجَدَ الجِيرانَ مُجتَمِعِينَ في مَنزِلِهِ، يُخَيِّمُ عليهم صَمتُ القُبُورِ، وعلى وُجُوهِهِم تَقطِيبٌ وذُهُول. وما لَمَحَتهُ زَوجَتُهُ حَتَّى أَلقَت نَفسَها عليهِ، وهي تَصرُخُ بِتَصَنُّعٍ بادٍ: لَقَد ماتَت أُمُّنا يا سَمِير، رَحِمَها الله.

دَفَعَها عنه بِشِدَّةٍ، ودَخَلَ حيث أُمُّهُ مُسجَّاةٌ، فَارتَمَى على وَجهِها يُقَبِّلُها ويَشهَقُ في بُكاءٍ حادٍّ، ويُناجِيها بَينَ فَينَةٍ وأُخرَى: لِماذا تَرَكتِنِي يا أُمَّاه، لِماذا؟!

ثُمَّ لَفَّهُ صَمتٌ عَمِيقٌ، فَبَقِيَ ساهِمَ الوَجهِ، يُحَدِّقُ إِلى لاشَيءٍ بِعَينَينِ فارِغَتَينِ مَلِيئَتَينِ بِالأَسى.

بَقِيَ هكذا لِفَترَةٍ، ثُمَّ وَلَجَ غُرفَتَهُ، وأَغلَقَ البابَ وَراءَهُ، وَأَمسَكَ بِسَمَّاعَةِ الهاتِفِ وطَلَبَ قَرِيبَهُ هانِي:

– آلُو.

– آلُو، هانِي.

– أَهلًا سَمِير. خَيْرٌ ان شاءَ الله.

وسادَ سُكُوتٌ قَصِيرٌ تَبِعَهُ نَشِيجٌ عَمِيقٌ، ثُمَّ صَوتٌ مُتَلَجلِجٌ: وَأَينَ هو الخَيرُ، يا صاحِبِي، وأُمِّي قَد ماتَت…

ثُمَّ رانَ صَمتٌ يُمَزِّقُهُ بُكاءٌ وتَنَهُّدات!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عِلْمًا بِأَنَّ اصْطِبَارِي مُعْقِبٌ فَرَجًا          فَأَضْيَقُ الأَمْرِ إِنْ فَكَّرْتَ أَوْسَعُهُ (إِبنِ زُرَيْقِ البَغدَادِي)

 

اترك رد

%d