لا يزال «الربيع العربي» موضع اهتمام ودراسات سياسية واجتماعية، سواء لجهة الأسباب التي أدت إلى اندلاع انتفاضاته في أكثر من قطر عربي، أو لجهة النتائج والمآلات التي انتهت إليها معظم بلدانه. ولأن هذا الربيع لم يختم مساره بعد، فإن أي قراءة له تظل قراءة راهنية تستقي مادتها من الأحداث مباشرة وليس من الذاكرة. يأتي كتاب «المقاومة المدنية في الربيع العربي» ليضيء على الانتفاضات العربية، من منظور محللين غربيين لهم طرقهم المنهجية في التحليل والدراسة، قد تكون متمايزة عن نظرة الباحثين العرب، المنخرطين في الانتفاضات أو من الذين يراقبونها من بعد. صدر الكتاب عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت.
لا يكتفي الكتاب بتغطية الأشهر الأولى من الانتفاضات، والتي كانت معظمها ذات طابع سلمي، بل يغطي الأزمة الطويلة التي نشأت عن هذه الانتفاضات، فتحول بعضها إلى حروب أهلية لم تخمد نارها حتى الآن، وتسببت بتهجير الملايين من السكان وبتدمير البنى التحتية وأماكن السكن. لذا يندفع الباحثون في التساؤل عن السبب الذي دفع ببلدان الانتفاضات ان تسلك الطريق الذي سلكته؟ وهل كانت المشكلة تكمن في أساليب وقيادة وأهداف الحركة الشعبية، ام في ظروف المجتمعات التي كانت هذه الحركات تحاول تغييرها؟ ولماذا اختلفت انتفاضتا تونس ومصر عن انتفاضتي ليبيا وسوريا؟ أسئلة يحاول الباحثون الغوص في غمارها للحصول على أجوبة، فوضعوا كتاباتهم في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية وربطوها بالرواية الأوسع للمقاومة المدنية، من دون أن ينسوا السمات المحددة لتاريخ العالم العربي في مرحلة الاستعمار وبعد زواله وقيام الاستقلالات لدوله.
يسعى الباحثون لتفنيد تلك المقولة حول «الخصوصية العربية» وإظهار خرافيتها. هذه المقولة التي سادت طويلا في الفكر الاستشراقي الغربي تقول ان العوامل الثقافية الدفينة جعلت العالم العربي مهئا لقبول الحكم الديكتاتوري بالفطرة. فيذهب الباحثون إلى أن الأشكال اللاعنفية للمقاومة قد استخدمت منذ فترة طويلة في العمل السياسي وفي النقاش العام، في كل البلدان العربية من دون استثناء. فواقع الديكتاتوريات في الشرق الأوسط والممتدة على ستة عقود بين عامي 1950 و2010، يمكن تفسيره من خلال مختلف الأحداث التاريخية والجيوسياسية، وبالتالي، لا حاجة إلى المقولة السائدة لذلك التفسير الثقافي القائل أن العرب والمسلمين لديهم استعداد عميق لقبول الاستبداد.
يشير الباحثون الى ان بلدان الشرق الأوسط قد سادها، في معظمها حكم ديكتاتوري، سواء أكان ملكياً أم جمهورياً. وقد شهدت جميعها مقاومات سلمية مختلفة الأشكال، لا يقلل من أهميتها أنها لم تتمكن من تغيير هذه الأنظمة. أما الأشكال التي عرفتها هذه المقاومة فتتراوح بين رفض التصرفات القمعية لأجهزة النظام، وبين العمل الجماعي من خلال تنظيمات المجتمع المدني بمختلف تجلياته، وبين مجموعات الضغط من النقابات العمالية والمهنية، ومن اعتراضات النساء وسائر المحرومين من حقوقهم المدنية والسياسية.
في تونس ومصر، البلدان اللذان سقط فيهما رأس النظام بقليل من العنف، ولكن ليس بقوة السلاح. سقط الرئيسان بتحرك المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع وهم لا يحملون السلاح. بمجرد أن أوقفت القوى الأمنية قمعها، بعد المحاولات العابثة التي سعت فيها إلى سحق التظاهرات، حتى انهار النظامان. فنقطة التحول في الثورة، من منظار الحركة اللاعنفية، تكون في اللحظة التي لا يعود فيها بإمكان المستبد الاعتماد على أجهزته القمعية لإطلاق النار على الحشود التي تملأ الشوارع. تمثل النجاحات المتحققة مبكرا في كل من تونس ومصر واليمن (قبل دخولها في حرب أهلية)، حالات نموذجية لطريقة عمل المقاومة المدنية على مستوى عالمي، استفاد فيها بعض الناشطين من تدريب وتوجيه وفّرهما «المركز الدولي للنزاع اللاعنفي»، الذي دأب خلال عقدين على رسم مثل هذه الخطط والتشجيع عليها. لا تعني هذه الواقعة ان انتفاضات الربيع العربي هي صنيعة البلدان الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، كما روّج لذلك مناهضو الانتفاضات من الحكام العرب ومن يواليهم.
في تونس، أواخر عام 2010، انطلق الربيع العربي عبر احتشاد الجماهير في الشوارع وإجبار رئيس البلاد على الهرب. ومن تونس انطلقت الشعارات السياسية التي استلهمتها معظم الانتفاضات لاحقا، خصوصا شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» او «ارحل ارحل». وانتفاضة تونس هي الأقل سفكا للدماء، عبر دخولها في التغيير السياسي. لعل ذلك يعود أن البلاد يسود فيها تقليد وتفضيل للتغيير السلمي واستنكار العنف. على رغم ذلك، لم تنج تونس بعد الانتفاضة من أعمال عنف تجلت خصوصاً في اغتيال بعض الزعماء السياسيين من اقطاب المعارضة. كما أن تونس تضم مجتمعاً مدنياً ومؤسسات سياسية ومنظمات مهنية ديمقراطية أمكن لها أن تشكل قوة الضغط الأساسية لإسقاط رأس النظام.
في مصر انطلقت التظاهرات مطلع عام 2011، على شكل مقاومة مدنية تطالب بإسقاط الرئيس ونظامه التسلطي. سعى النظام إلى استخدام العنف بعد ان استفحلت الانتفاضة، وشهدت شوارع المدن المصرية منوعات من أساليب العنف التي لجأت اليها أجهزة الأمن. بدا للحظات أن مصر سائرة إلى حرب أهلية طاحنة، لا أحد يعرف نتائجها. ما منع اندلاع هذه الحرب هو تدخل الجيش وإجبار الرئيس على التنحي. كانت الانتفاضة تطمح لان تتحول مصر إلى دولة مدنية وديموقراطية، لكن هيمنة حركة الإخوان المسلمين ومعها تنظيمات الإسلام السياسي حرم المصريين من تحقيق طموحاتهم. عادت مصر في زمن سيطرة الإسلام السياسي لتقف على شفير الحرب الأهلية واندلاع العنف فيها، ما جعل الانقلاب العسكري الذي قاده الجيش حاجة شعبية لمنع سفك الدماء ولإقصاء الإسلاميين عن الحكم.
لم تقم الانتفاضة في ليبيا فجأة أو من دون مقدمات. فعلى الرغم من سيطرة نظام القذافي الاستبدادية، فان النظام واجه معارضة شعبية في أكثر من اقليم، وتعرض فيها المعارضون الى أقسى اشكال القمع الذي وصل الى إعدامات بالجملة، على رغم استخدام هذه المعارضات وسائل سلمية. لم يتوافر لليبيا ما توفر لتونس ومصر، من مؤسسات أو جيش، لأن القذافي كان يرفض قيام مثل هذه المؤسسات، ويستند في سلطته على القوى القبلية. هذا يفسر حال الفوضى التي غرقت فيها ليبيا منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وتحولها بالتالي إلى حرب اهلية، ساعد في تاجيجها التدخل الأجنبي الساعي إلى حصص في الثروات النفطية. على رغم الأشكال اللاعنفية للاحتجاجات في الأشهر الأولى، إلا أن القذافي اصر على استخدام العنف العاري ضد المتظاهرين، وهو ما جعل المسار السلمي مستحيلاً. لم يطل الأمر حتى شهدت ليبيا انشقاقات وانفصال لبعض مناطقها، واستخدام السلاح للسيطرة عل مواقع ومناطق القوى المتنافسة.
لعل سوريا تشكل النموذج في الأعمال اللاعنفية والعنفية في الوقت ذاته. في الأشهر الستة الأولى من عمر الانتفاضة، كانت الجماهير تنزل إلى الشوارع بعشرات الألوف وتهتف بإسقاط النظام، وتصر على سلمية الحراك ورفض استخدام العنف. لم يتوقف النظام عن استخدام العنف من الأيام الأولى لنزول الشعب الى الشوارع، وان كان بوتيرة معقولة. سريعاً ما لجأ النظام الى استخدام ترسانته العسكرية لقمع الانتفاضة، بعد ان أدرك استحالة توقف التظاهرات، وبعد أن شعر بأخطار انهياره. خلافاً لتونس ومصر، لم تكن سوريا تحوي مؤسسات ضغط يمكن لها ان تجبر النظام على التنحي، ولم يكن الجيش مهيئا لانقلاب عسكري، وهو الجيش الذي بناه النظام لحمايته وحصّنه من كل عناصر الانقسام. على رغم انشقاقات شهدها هذا الجيش، الا انها لم تكن في مستوى إطاحة النظام. الأسوأ من كل ذلك، ان سوريا باتت مرتعا لتدخل القوى الاقليمية والدولية، ولتفريخ التنظيمات، خصوصاً منها الإسلامية، بحيث زال المضمون الديمقراطي والعلماني الذي انطلقت الانتفاضة منه. وهو ما أغرق سوريا بأبشع حرب اهلية أدت الى تدميرها مجتمعا وبشرا ونسيجا اجتماعيا، ومقتل اكثر من نصف مليون مواطن وجرح أكثر من مليونين، ناهيك بتهجير نصف سكان البلاد. وهي حرب مفتوحة بعد ان باتت حربا دولية واقليمية.
سيمر وقت للوصول الى قراءات موضوعية وعلمية للانتفاضات العربية، ولفشل الحراك المدني والسلمي في تحقيق التغيير فيها. لا يكفي الاستبداد تفسيرا لهذا الفشل، فدولة مثل الاتحاد السوفياتي لم تكن اقل استبدادا، لكن الدول التي انفصلت عنها توسلت الطرق السلمية لتحقيق الانفصال. في العالم العربي، يجب التفتيش عن تكوّن دوله والأسس التي قامت عليها، وهيمنة البنى العشائرية والقبلية، وفشل الحداثة .. وغيرها من العوامل التي تساهم في فهم ما الذي حصل.