” عندما يضيء الصمت”
الراعي الصالح المطران جورج اسكندر، ذهب بصمت ، وترك ضياءه مشعة.
كتابه “عندما يضيء الصمت” عنوان حياته ومسيرته ورحيله. عنوان يضيء عليه، في كل مراحل حياته، منذ كان رفيقاً لكوكبة من الشباب، مميزا بخلق رفيع، وطليع حركة طالبية مسيحية، ثم كاهنا ومرشدا، وراعيا ساهرا على رعية تكبر وسع اشعاعات هديه وتعاليمه.
كلّ من عرف المطران الوديع، في أوج نشاطه المتواصل والمتعدد، يدرك أن ما قام به، وما قاله وكتبه، انما هو عناوين مختصرة لما اكتنزت به نفسه السامية، وروحه الصافية، وما اعتمر به قلبه الكبير من حب، يتجلى في عمق نظرته الرسولية نحو أخوته من أبناء الله.
جمعها خواطر وتأملات، واذا بها ترانيم صلوات.
كل خاطرة من خواطره او تأمل من تأملاته، تأخذ من يقرأها في شبه صلاة، لأن ما تتضمنه من كلمات لا يمكن ان يكون مجرد تعابير عادية، بل هي حالات روحية ترتفع الى الأسمى، نحو الخالق العظيم، في مباسطة وشفافية ولا أروع، فلا تحتاج حتى الى البوح، لتقربنا من الله بارتياح وطمأنينة وفرح داخلي.
هذا الاسقف الحبيب، رجل الله البار، كان نعمة من الله تعالى على مدينته الغالية التي احبها، وعلى طائفته القدوسة التى اعطت لبنان القديسين، وكرس حياته في خدمتها، وجعل خدمته فيها أناشيد فرح تقرَّب ابناءها من الفرح الألهي… وكأنه في آخر احتفال بعيد قديس لبنان مار مارون، في الكاتدرائية التي ارسى قواعدها وأنشأ ابرشيتها، كان في شبه انخطاف روحي يخاطب، مصليا، من يتوق الى رؤيته في السماء.
*
طوبى لهذا الراعي الصالح الذي عرف رعيته وأحبها، وعرفته رعيته فتبعته وأحبته. وهي بلغة المزامير تصلي له وتشكره، مرنمة: ” طوبى للرجل البار، على الربِّ اتَّكل، وإليه قدّم نذوره، فجعله كالنخل يسمو، ومثل أرز لبنان ينمو”.
الرجل البار نذر نفسه للرب قبل ان يقدم اليه نذوره، ترك فجأة رفاق الدراسة والعمل ليدخل الحياة الرهبانية، دون ان يتغيَّر فيه شيء الا استبدال ثيابه. فكأنه بدأ حياته الرهبانية وهو بعد في البيت، او في المدرسة، او في أثناء ممارسته عمله المتواضع في البريد… كان قُدوة مثالية في الأخلاق، وكان رسوليا بمساهمته في نطاق الشبيبة العاملة المسيحية.
جورج اسكندر في شبابه كان متميزا عن جميع رفاقه بما وهبه الله تعالى من تُقى وورع وخشوع، ومن طِيبة تشعُّ من عينيه، ومن أدب وكياسة في نبرة صوته.
لم يكن بين رفاقه من لم يعتبر جورج اسكندر صديقه الأوفى، المحب، والمخلص.
انه الاخلاق السامية والصداقة العميقة النبيلة مجسدة في انسان .
كان راهباً علمانيَّاً، والراهب العلماني الأول، في عمل رسولي، لسنوات كثيرة ، قبل ان ينبثق عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك مجلس رسولي علماني، يُعهد اليه فيه برئاسة اللجنة الأسقفية لرسالة العلمانيين في اليوبيل البابوي للعام 2000، تقديرا لعمله الأسقفي الرسولي الدؤوب، كما كانت الأسقفية قد جاءته تقديرا على عمله الرهباني المتفاني في حقل الرب، في أبرشية رعاها ونمّاها بايمانه القوي وتقواه العميقة حتى صارت تستحق ان تكون أسقفية، وان يكون هو اول أسقف عليها.
لم يكن من السهولة على أحد ان ينشىء أسقفية جديدة على كرسي يليق بأبرشية كبيرة بين أبرشيات كبرى عريقة وقائمة منذ زمن بعيد، ولكن ايمان المطران الجديد جورج اسكندر دفعه الى مغالبة المستحيل، يقينا منه بان التقوى والايمان لا يعرفان اليأس، وبان الدين هو لغة القلب، لغة الأصدقاء، لغة المحبين، وان في الصلاة تحقيق المعجزات، وعلى الصلاة يُبنى كل عمل كبير وكل تفكير بعيد المرمى.
بذلك حقق المطران جورج اسكندر حلم رعيته. فبايمانه بربه وقوة ارادته صار الحلم كاتدرائية كبرى: بيتاً لله، وداراً أسقفية رائعة الحسن.
سرّ المعجزة إيمانه المطلق بالله، وتجلّي الله في أبنائه.
آمن بانه “إن لم يبن الربّ البيت فباطلا يتعب البنّاؤون.
وان لم يحرس الرب المدينة، فعبثا يسهر الحارسون…
وبان الايمان بدون أعمال هو ايمان ميت،
كان يردد انه من الخير ان نعرف الرب في الرخاء، والأهم ان نكون قد عرفناه دوما في الشدائد.
يتحدث غالبا بلغة المزامير: الرب نوري وخلاصي فممن أخاف. الرب حصن حياتي فممن أفزع ؟
أقيم ببيت الرب جميع أيام حياتي، أعاين الرب وأتأمل في هيكله.
تبارك الرب فقد سمع لصوت تضرعي… ابتهج قلبي، وبنشيدي أحمده.
تشتاق نفسي الى الله، نفسي ظمأى الى الاله الحي، اني أعبر مع الجمهور وأقصد بهم بيت الله،
*
المطران الجليل جورج اسكندر، هذا التقي النقي الذي اتقى الرب وحفظ وصاياه جيدا. ذهب بصمت، تاركا رعيته براحة وامان برعاية من جاؤوا بنعمة الله ليكملوا المسيرة. وقد آثر ان يذهب بصمت، كما كان في حياته بنفسجة وديعة، تاركا الصمت في ضياء، كالشذا في الازهار والأريج في البخور، فينتشر تلقائيا عبير الفضائل. ويكفي رجل الله الكبير ان تنتشر رائحة فضائله، مما أسعد ذاته بالعمل على إسعاد رعيته.
(16 ايار 2018)