قراءة في “عشيق أُمّي” للأديب إيلي مارون خليل

      

 

 

 

 

 

 

 

تراءى لي في المنام، ذات ليلة ليلاء، شبح يكاد يكون جِلدًا على عظم، وكان يتوكّأ على عصا سوداءَ، فهالني منظرُه، وبادرته بقولي: ما الّذي أتى بك، في هذه اللّيلة الحالكة؟ ومَن أرشدك إلى مخدعي؟ ألستَ الياس أبو أبوشبكة؟

فأجابني: أنا هو. لا تحسبوا أنّني تركت مسقط رأسي ورأس غلواءَ، وأدرت ظهري لما يجري فيه، فما زالت روحي تحوّم فوقه، تتحسّس أنفاس العاشقينَ، وتُحصي كلَّ منثورٍ أو منظوم يُكتَب في زوق مكايل الحبيبة.

– وماذا وجدت؟ وما الّذي أتى بك؟

فأجابني: لقد تصفّحتُ “الموائد المفتوحة”، واستوقفتني مقالة عنوانها “وقفًا بميروبا”، وأدركت أنّك سلخت العنوان من مطلع قصيدة لي فيها. وقرأت المقالة الّتي قلت فيها “لم يُعرَف بين محبوبات الياس أبو شبكة ميروبيّة يكتب لأجل عينيها”. فمَن زوّدك بهذه المعلومة عن حياتي؟

فقلت: إنّه صديقي إيلي مارون خليل، الّذي كتب أنّ شِعرَك كرسيّ اعترافِك.

فأجابني: أليس هو كاتب “عشيق أُمّي”؟

قلت: بلى، وجدته. وهل قرأتها؟

قال: أبلغه أنّني فوجئت بردّة فعل سارة، صاحبة ضمير المتكلّم في العنوان، وتمنّيت لو كانت ردّة فعل أولغا ساروفيم عندما استفاقت ووجدت قريبتها “فاجرة في حِضن فاجرِ” شبيهة بردّة فعلها.

قلت: أوضِح، لو سمحت.

قال: لقد تصوّرَت، حبيبتي أولغا، أنّها هي الفاعلة. وراح ضميرها يعذّبها، فرفضت الرّجل، رفضتني، رفضت حبّي… وتعرف بقيّة القصّة… أمّا سارة، في رواية إيلي خليل، فأسقطت خيانة أُمِّها، ساريا، على نفسِها، وكان ضميرها في إجازة، فراحت بلا وعيها تشارك أُمَّها لَذّتها، وتفرح لفرحها، وتشجّعها على تمتين علاقتها بطارق، عشيقِها، وقد داست معها، على جميع الأعراف الاجتماعيّة والشّرائع، وقالت: “كم أتمنّى أن أحيا هذا المقدار من السّعادة” (ص138).

فقلت: لقد تبعت الأمّ، ساريا، نداءَ قلبِها، وسدّت جوع جسدِها؛ وأنت، بلا شكّ، عرفت أنّ “عصام” زوج الأمّ، لا يحبّ زوجته. وأنّ زواجه بها كان زواج مصلحة، ليس إلاّ. وهي مثقَّفة، منفتحة، حرّة، وقد كان تصرُّفُها مبرَّرا، من وجهة نظرِها ونظر ابنتها، سارة، لأنّه ردّة فعل طبيعيّة على تصرُّف عصام وإهماله.

– مهلا، مهلا. لقد ترصّدها طارق، وعمل على الإيقاع بها، فسقطت في حبائله. صحيح أنّ زوجها كان متعدّد العلاقات، وكان يخونها، لكنّ الخيانةَ لا تعالَج بالخيانة، كما أنّ النّار لا تطفَأ بالنّار.

ولكنّ خيانة زوجِها كانت فاضحة، وهو لا يتورّع عن التّحرُّش باللّواتي يعملن معه في الشّركة، حتّى بحبيبة ابن زوجته… أمّا هي، وبحسب ما صرّح به الأستاذ طارق، فتهواه ولا “تخونه” إلّا مع زوجها.

– ما هذا المنطق الأعوج الّذي به تدافع به عن صديقك؟

– مهلا. مهلا. هذا منطق طارق، وليس منطق صديقي، ولا منطقي.

– أليس طارق صنيعة الكاتب؟ ألم يخترعه ليحمل صوته؟ أليست الرّواية كرسيّ اعتراف الرّوائيّ؟

– حتمًا، لا. لأنّ الرّواية تختلف عن الشّعر الرّومنسيّ الّّذي كتبته. والرّوائيّ الواقعيّ يخترع، أو يكتشف الشّخصيّات الّتي يختارها من المجتمع، ويقدّمها إلى القرّاء بأسلوبه الفنّيّ الّذي يعكس شخصيّته. وعليه، فالمسألة ليست كما تظنّ. وبالمناسبة، فأنا أفكّر في كتابة رواية عن “ماريكا”. ولن أكون مسؤولا بالطّبع عن سلوكها وإبداعاتها و…

– وماذا عن آرائه؟ وقناعاته؟ وثقافته؟ ووجهات نظره؟

– إنّه يطرح على شخصيّات الرّواية منها، ما يمكّنه من كشف المخبّأ في زواياها المعتمة. والأستاذ إيلي، لذلك، جعل العاشقة كما وصفت، وجعل “طارق” مثقّفًا، كاتبًا، حرًّا، متفلسفًا في الكثيرمن المواقف. وصاحب رؤية فكريّة أخلاقيّة واجتماعيّة خاصّة، تشاركه فيها شريحة واسعة من أبناء المجتمع. لا تستطيع أن تحيا بموجب مقتضيات الثّقافة الدّينيّة والاجتماعيّة الموروثة، ولا ترى بديلا عن الحرّيّة الّتي تعتبرها قيمة القِيَم. وهي تذهب بممارسة الحرّيّة كلَّ مذهب، وقد أمالت نظرها عن السّماء، أو أشاحت بوجهها عنها، ووجّهته باتّجاه الأرض، فأعلت مكانة الجسد، الّذي يفرض نفسه كحقيقة ملموسة لها حقوق، ولبّت نداء القلب الّذي يقال إنّه سُمّي قلبًا لأنّه يتقلّب، وهي تحاول أن تعطيه مداه، وبذلك ترى أنّ الشّخصيّة الإنسانيّة تتحقّق، على طريقة الأبيقورييّن الّذين يعطون الأولويّة للّذّة في مذهبهم. ولمزيد من التّوضيح، يعتبر الأستاذ طارق، ومَن لفّ لفّه، أنّ الجسد مقدَّس، ولولا ذلك لَما شرّفه الله بالتّجسُّد، وأنّ الله محبّة، ويردّدون قول أغوسطنوس:” أحِبَّ واصنع ما تشاء”. فللحبّ عندهم كيمياء تحويليّة قادرة على تبديل المصائر وتلوين الحياة بألوان زاهية، وهو يدفع المحبّين إلى الإبداع، إذا كانوا من طينة المبدعين، وإلى التّأنُّق، والتّزيُّن، والتّرتيب، والتّعطُّر بالعطور الغالية الثّمن…

         – لا. لا. لا. إنّه العبث واللامنطق. فأنا انغمستُ في فردوس الأفاعي، ولكنّني انكفأت فقلت: “ربّاهُ! عفوك إنّي كافرٌ جانِ…” أمّا أبطال الأستاذ إيلي، أو عصابة الأربعة، ساره، ساريا، طارق، عصام، فخلطوا الأرض بالسّماء، والسّفسطة باللاهوت، والحقّ بالباطل، ومرّغوا جبين القِيَم في وحل اللّذّات المحرَّمة، ولم يجدوا إلى جانبهم مَن يردعهم أو يردّهم إلى صراط مستقيم، مَن يضع خطًّا أحمر لهم؛ إنّهم متروكون في صحراء هذا المجتمع، يزنون ويخونون ويعربدون. فقدوا القيم الرّوحيّة، فقضوا على البُعد الماورائيّ فيهم، ولم يتبنّوا قيمًا رادعة.

         – ماذا تقصد؟

         – قيل لألبير كامو، وكان وجوديًّا غيرَ مؤمن: إذا كان الله غير موجودٍ، فإنّ الإنسان يستبيح كلَّ شيء و… فأجابهم: لأنّ الله غير موجودٍ، فإنّ الإنسان يتحوّل إلى مرجعيّة نفسِه، ولا يسمح لها بالانفلات بحيث يقضي على إنسانيّته. وهذا حديث يطول. أنا أُقدّس الحرّيّة وأعتبرها قيمة القيم. لكنّ هذه الحرّيّة، عد إلى مقدّمة شرعة حقوق الإنسان، لا تنفصل عن الكرامة الإنسانيّة. ألا تذكر أنّ هيلاري كلينتون رفضت أن تسلك مسلك زوجها الّذي افتضح عشقه لمونيكا لوينسكي، وأعلنت أنّ كرامتها لا تسمح لها بذلك، وأنّ ردّة فعلها تذهب في اتّجاه آخر… هذا في المجتمع الأميركي، فماذا حلّ بكم، أنتم، في لبنان؟

         قاطعته قائلا: صحيح أنّ الأستاذ إيلي يكتب باللّغة العربيّة، ولكنّ النّماذج الّتي اختارها إنسانيّة بصورة عامّة، وليست بالضّرورة “بلديّة”.

         فأردف قائلا: وأنا أقدّس الحبّ ولكنّني لا أؤلّهه؛ وهو قدر طبيعيّ، وليس امتيازًا إنسانيًّا، فالعصافير تحبّ، والقرود تحبّ و… هو لا يغفر كلَّ الذّنوب ولا يبرّر الخيانة.

         وفي المقابل، فإنّني لا أعرف مذهبًا فكريًّا أو اجتماعيًّا يقدّس الخيانة أو يعتبرها قيمة.

         فأجبته: بصراحة، أتعبتني، ظننته منامًا فإذا هو كابوس. ذكّرني، ماذا تريدني أن أقول للأستاذ إيلي؟

         قال: إطرح الأسئلة: هل العاشقة الصّالحة أمّ صالحة؟ وزوجة صالحة؟ وما النّموذج الّذي تقدّمه إلى ابنتها؟ وما الفائدة من تلميع وجه الخيانة؟ ولماذا الإسفاف؟

         قلت: عن أيّ إسفاف تتكلّم؟

         قال: يتوجّه الزّانيان للصّلاة معًا، وتقارن العاشقة ما بين زوجها وعشيقها في الأماكن المقدّسة، أليس هذا إسفافًا، ولا أقول تسخيفًا؟ وقلْ: إنّ سارة لم تحصل على الحاصل الرّوائيّ. فالعنوان خادع.

        قلتُ: وما هو الحاصل الرّوائيّ؟ لم أسمع بمثل هذا المصطلح في نقد الرّواية.

       قال: عصام لم يروِ سوى بضع صفحات فلا يعتدّ به راويًا، وإذا قسمت مجموع الرّواية على ثلاثة رواة، فحصّة سارة هي الأدنى… وأردف: كلُّ قارئٍٍ ناقد، يقرأ، يقيّم، ويتّخد موقفًا ممّا يقرأه. قل ما عندك.

      قال: عندي أشياء كثيرة أضيفها. فالأستاذ إيلي اختار شخصيّاته المحدودة العدد من الشّريحة الميسورة الّتي لا تلهث وراء اللّقمة، ولا محفّزات تدفعها إلى النّضال في سبيل تحصيل العيش، لذلك ارتدّت على دواخلها محاولة إشباع غرائزها وعزلها عمّا عداها؛ فلا تؤثّر ولا تتأثّر، ولا تُلقي بالا للصّراعات الكثيرة الّتي يتخبّط فيها مجتمعنا.         

        لقد كان ماهرًا في الوصف الخارجيّ والدّاخليّ خصوصًا، وقد أدخله في نسيج سرديّ بارع؛ وقد تجلّى خصب خياله في صوره المميّزة، المتنوّعة،ٍ كما تجلّّت قدرته اللّغويّة في فصاحته وبلاغته وغنى قاموسه التّعبيريّ.

         لقد تمكّن، بفعل ثقافته ووافر خبرته من التّطرُّق إلى الكثير المتنوّع من الموضوعات الّتي  تُغني القارئ ؛ فالرّواية منتج فنّيّ، وبالتّاليٍ ٍفيه منتَج ثقافيّ بامتياز.

         و”عشيقُ ُأمّي” تقع موقعًا مميَّزًا في سياق الرّوايات العربيّة المعاصرة ولها أعطي صوتي التّفضيليّ.

        سلمت يداك.                                              

 10- 4- 2018

اترك رد