أجنحةٌ ترمم ريشها

   

رقصتْ حبة الفيل الأزرق على طاولتي، وراحت تتمايل بحركات بهلوانية على أنغام سمفونية الموت لبتهوفن، ودون أن أبتلعها وما إن أغمضت عينيّ حتى رأيتُ فتياتٍ متسربلاتٍ بأثوابٍ رمادية، يركعن بالقرب من المذبح، تحت غطاء سميك يحجب عنهن الرؤية، تتلى عليهن صلاة الموتى وسط حشود مغيبة، ودون أن يلحظ أحدٌ وجودي تسللتُ تحت الغطاء ورحتُ أجوب النظر في عيني تلك متفحصةً تنهدات الأخرى، وقد التقطتُ دموعًا تساقطت من نوافذ طفولتهن وذكرياتهن، تخثر الدم في شراييني، وشعرت بذبحة قلبية كادت تدفنُني في مكاني عندما رأيت الخضوع يقصّ أجنحتهن بإسم الإيمان، تنفستُ الصعداء وأكملتُ تجوالي بين القطعان ..

خرجن من تحت الغطاء، وبدأت تتقدم الواحدة تلو الأخرى بخشوع وطاعة نحو سلطةٍ ممسكة بمقص يأكل خصلة أمامية من شعرهن المغطى أصلاً!! لتنحني الفتاة منهن وراء خصلتها المرمية وتلتقطها من عند الأقدام المبجلة، وقبل ولوجها إلى معبر موتها المرسوم تقبل تلك اليد القصاصة بكل ورع واعتزاز.

هزة أرضية خفيفة توقع كتابًا من مكتبتي، ويحدثُ ضجيجٌ يوقف السمفونية عن عزفها، ويُسقط حبة الفيل الأزرق لتصبح فُتاةً متناثرة، يخرج صوت ماركس من بين طيات الكتاب قائلاً: “الدين أفيون الشعوب، وتاريخ البشرية هو تاريخ البحثِ عن الطعام” يرد نيتشه قائلاً: “الاعتقادات الراسخة هي أعداء الحقيقة، وهي أكثر خطرًا من الأكاذيب”.

بعد سنين مرّت من اختبارات الطاعة والتقشف والاضطهاد، قررتُ أن أخلع الثوب الأبيض لأدخل في مرحلة السواد الأعظم، مهرتُ بالدم عقد موتي، ها أنا الآن في كيس خيشٍ قديم تفوح منه رائحة عطن لاذعة داخل تابوتٍ سأقضي فيه مدة تسعٍ من الساعات …

عاودت حبة الفيل الأزرق تشكيل أشلائها، وأخذت تتمايل على أنغام سمفونية بحيرة البجع لتشايكوفسكي، ودون أن أرتدي ملابس الغوص نزلت إلى قاع نفسي، فرأيتُ بجعات تولد من رحم الألم، وأخرى ترقص على حافة وجعها، وأخريات تستعد للتحليق بعيدًا، يُفتح تابوتي وأُقاد لأتمم مراسم ارتداء الثوب الأسود…

أصرخ رافضة مضاجعة مسيحٍ ظهر فجأة، فتتدخل كبيرتنا وتربت علي كتفي مواسية، لكن اصراري وتمردي جعلاها تسحبني من يدي إلى أقبية شُيدت تحت سابع أرض، بالكاد أرى أين أمشي، تدخلني إلى غرفة فيها جثة فتاة مسجاة على حافة عفن، تتركني معها آمرةً: رشيها بالماء وأنت تقولين السلام لك، ثم نامي فوقها برهةً، وأعيدي رشها، وهكذا كرري ما سمعتِ إلى حين عودتي إليكِ.

قطرات خوف وفزع تفصدت من جسدي راحت تتسابق في ما بينها إلى أن وصلت إلى جماجم وعظام متراكمة على هامش التاريخ.

صوت صارخ يصلني من تلك الجماجم قائلاً: فلتصمتي يا إمرأة نحيبك يزيد أوجاعنا، وبدلاً من البكاء فلتهربي من هنا ولتخرجي من هذا الجحيم، نحن جماجم لأطفال أنجبتنا عذارى لنصلب ويراق دمنا اقتداءً بالشهيد، أم أنك نسيتِ ما قاله دوستوفسكي: “بأنه لو توقف إنقاذ العالم على موت طفلٍ واحد، علينا أن نمنع هذا الموت”.

توقفت بجعاتي عن الرقص، كنستُ فُتاة حبة الفيل الأزرق، ومزقت قصاصة خبر احتفظت به منذ مدة يقول: أن الروبوت صوفيا سعودي الجنسية يهدد البشرية بالدمار، رفعت صوت سمفونية ضوء القمر عاليًا ورحت أرقص مذبوحة من الألم.

اترك رد