( 33 صلاة في جوف الحوت ) للكاتب يوسف رقة..
النص المسرحي كغيره من النصوص الأدبية يسلط الضوء على قضية ما يريد الكاتب أن يعالجها، من خلال أسقاط وجهات نظره عليها … فيبني الكاتب نصه المكتوب والمقروء (الدراما ) على مجموعة معايير أو عناصر أدبية وهي :
اللغة – الحوار – الحبكة ( العقدة ) – الشخصيات – الاحداث – الفكرة (الموضوع ) …
فالحوار هو اساس العمل المسرحي كونه يجمع بين اللغة والشخصيات والاحداث والفكرة وله خصائص تميزه عن الحوار القصصي .
في البدء اقول لقد وفق الكاتب يوسف رقة في تجسيد الإسقاطات السياسية المحلية والأقليمية من خلال الحوار وخصوصا في المشهد الاول الذي لفت أنتباهي كثيرا ، بما يحيل التلقي إلى إعادة قراءة أفكار النص على أساس من المقاربة التاريخية العصرية لأحداث عام 2006 التي عايشها ضمن واقع الصراع المرير ممثلا بأجتياح قوات الاحتلال الأسرائيلية لجنوب لبنان وما تبع ذلك .
لقد نجح الكاتب في خلق حالة من التوتر والتشويق منذ البداية أعني من العنونة الاولى ، من خلال مزاوجته بين الرقم 33 ( الذي يشير الى عدد أيام الحرب على الجنوب اللبناني وكعادتنا الشرقيين نستغل هذه المصائب بالصلاة ) وحكاية الحوت ( المرتبطة بالنبي يونان هذا الرمز الذي يتسع كثيرا والقابل للتأويل ) فأسقطهما الكاتب على نصه ليحمله بحدث تاريخي يمتاز بخصائص واقعية وجمالية تتمحور حول فكرة عامة – مشكلات العصر السياسية والاجتماعية والإنسانية – ومعالجتها ، من خلال تجسيد الحاضر الذي ينبض بزمنه الممتد فى الماضى ( سنة 2006 ) إلى زمن مستقبلى يكون أكثر آمنا ومتجدداً، يوفر المتعة للمتلقي فى العرض المسرحى .
وشكلت مشاهده تماثلاً ( أيقاعاً ) موفقا مع واقعنا المعاصر حيث الخلل الاجتماعي والاقتصادي والفساد والاثراء غير المشروع لكبار المسؤولين ( حين يتساءل عن مصير المبالغ الوافدة والجيوب التي ستمتلئ بها ) وسخط الشعب .
كما نجح الكاتب في توظيف حواراته بتحميلات مقاربة مع الشخصيات المرسومة ( ان كانت قبعات ، شخوص ، قطار ، طائرات ، …) وفق أبعادها الجسمية والاجتماعية والنفسية ، وفي خلق حوارات فرعية والحق يقال يمكن إعتبارها جميعها أدواراً رئيسية لأن كل شخصية فيها تحمل هدفاً وموقعاً في تراكيب المجتمع اللبناني وتجمع بينها علاقة صراع أو توافق طبقي وإجتماعي وأخلاقي فحملها ببعض من آرائه التي سقطها على واقعنا المرير .
فالدال قد يؤدي الى اكثر من مدلول ( القطار ، حبل الغسيل ، المكتبة ، القبعة ..) او قد ينفي الدلاله الواقعية ويغادرها بناءا على قدرة العلامه على التحول من ثباتها المفاهيمي المألوف .
فالحدث هنا هو المعايشة الآنية للأحتلال ، وجوف الحوت هو المكان الآمن الذي يريد الوصول اليه الهارب من جحيم الحرب أو ربما هي الحفر التي أحدثتها القنابر أو…. هذا يعني فهو نص وصفي يدرج الكاتب من خلاله قضايا شعبه الآنية ضمن ديمومة صراع نزعات البشر بين المقاومة والبحث عن منطقة آمنة للعيش برفاهية من خلال واقع حدث وربما سيحدث وفق منظور عصري وحداثي يتأسس على منطق التداخل بين الأزمنة .
يفتتح الكاتب نصه بالمشهد الاول ويختار عدة رموز ذات أبعاد زمانية تحمل بين طياتها الكثير ، فالمكتبة ترمز الى خصوصية شعبه المتميز بمحبته للثقافة, وحبل الغسيل يعكس الواقع المرير من خلال تعريته للحدث أما القطار فهو كناية عن التهجير والرحيل والقبعة هي القناع ….
وما زاد أشتياقي للنص أكثر ، الحوار الذي يشبه حوار الطرشان وخصوصا في المشهد الاول وهو أنعكاس لما آلت أليه السياسة العالمية المزدحمة بتعابير رنانة جوفاء … وقد كان الكاتب دقيقا في أختياره لهذه المصطلحات القصيرة والمفعمة بالرؤية والمتصارعة فينا بينها (النظام العالمي الجديد والشرق الأوسط ، أسود وأبيض ، الديمقراطية والفاشية ، دجاجة قبل البيضة أم بيضة قبل الدجاجة ، ملحد ومؤمن ، ….) ليعطى لنصه المسرحي خصوصية في تكوينه من خلال تصاعد وتيرة الايقاع الحركي لكل من هذه المصطلحات دراميا وفي تطورها عموديا وأفقيا …
حاول الكاتب يوسف رقة في نصه المسرحي ( 33 صلاة في جوف الحوت) ان يعالج العلاقة بين النص والمجتمع من خلال ثنائية البناء والهدم ، إذ ركز الكاتب على البعد الرؤيوي للكتابة المسرحية (شهر تموز ، القرية بطبيعتها الخلابة ، المدينة بضجيجها …) باعتباره أن تجسيد الوعي يتنامى مع تنامي مشاهد النص من خلال رؤية طبقة اجتماعية ينتمي إليها الكاتب، تستشرف المستقبل من خلال ثنائية الثابت الجوهري المرتبط بما هو إنسان في مقابل المتحول (العرض المتغير في حياة الإنسان) المرتبط بما هو قضية الثبات في الارض القابلة للانفجار بأي لحظة.
ويعد النص مدونة كلامية أتصالية على أمل أن تقوم الرؤية الإخراجية البصرية باستبدال سكونها إلى حركة ترتبط بمنطقة اللاشعور كي يضفي على النص أشكالا جديدة قابلة للتأويل والنابعة من اللاوعي الإنساني من منطلق الفعل الإبداعي القائم على إحياء النصوص ومفرداتها.
ولعل السعي إلى خلق توازن ( أيقاع ) بين الثابت والمتحول لناحية إيجاد حالة التوافق أو الصراع في مشاهده هو ما يضفي على النص المسرحي خلوده … فهو يعالج ما هو الهدف الأعلى للكاتب المتمثل في تجسيد هموم الإنسان السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية ، وكل ما يمثل المطالب الأساسية للمجتمع من خلال استحضار الوعي الفردي أو الجمعي وعلاقتهما بعوامل المحيط والبيئة في تشكيل النص المسرحي الذي يجسد ثنائية البناء والهدم وتثويره، إذ يقوم الكاتب بإسقاط مدركاته الحسية في بنية نصية تفجر الواقع ليقوم القارئ في إعادة بناءه عبر التأويل المتحكم في الإحساس بالواقع وترجمة الهدف الأعلى على بنيات التلقي .
بمعنى آخر، هو تحليل لمفاهيم وقيم ما يمتاز بها أنسان اليوم ومقارنتها مع إنسان الماضي، فيتبلور هذا الصراع في نسق الحياة الاجتماعية ببعدها الواقعي حتى تنبثق من رحمها صياغات لقيم أخرى بديلة ومحتملة في الواقع والمتمثلة في العودة الطوعية للارض..
فالسرد لديه هو متحرك كونه مبنى على توالي السرد ( من خلال تقاطع المشاهد بين ظهور واختفاء الراوي والقطار والاشخاص والكلام و.. ) والطبيعة المكانية الممتدة بين القرية (مكان الصراع ) والمدينة ( المكان الامن ) ، وهذا ما أعطى للنص أيقاعا حركيا ، نشأ من خلال إمتزاج الفكرة باللغة والأحاسيس الذاتية ومن خلال الحركة المتمثلة بظهور وأختفاء الشخصيات وتأثيراتها الإستنباطية التى تسيطر على المتلقي, ليظهر الخطاب السردي ذا البنية الإيقاعية ، بحيث تجسدها لنا عناصر الصورة ( الصوت والحركة التوافقية في الاداء والشعور)..وذلك لأن المسرح يرتكز فى التعبير عن هذه العناصر معاً وله القدرة العظيمة على تغذية الروح من خلال الطريقة التي تتخذ بها هذه العناصر موضعها فى الأداء ، والطريقة التي تأثر بها كل منها في الآخر. من خلال استعمال المؤلف للجمل القصيرة ذات الايقاع والسرعة في تعاقب الحوادث ( القصف ، حركة الشخوص ، حركة القطار والطائرة والاسعاف … ) ومنها تكونت عقدة المسرحية …..
وهكذا يشكل الإيقاع الناتج من تتابع الحركة على المسرح ما بين عمليتي الاختفاء ثم ظهور والحوار بين الشخصيات وتعاقب الأحداث والتكوينات والفترة الزمنية التى تحتلها الصورة على المنصة والمرهونة بمدى أهميتها وثقلها وقوة الدفع الكامنة فيها , وعناصر التوافق الزمنى للكلمة والحركة فى الصياغة والأداء, وسر النجاح يتشكل من عناصر التكوين كوحدة عضوية وجمالية متماسكة .
إن الإيقاع هو روح الحركة والتي تعد من الوسائل التعبيرية التي نجح المؤلف في توظيفها لترجمة أفكاره واهدافه وتحويل النص المسرحي من الخطاب الحواري الممل الى صورة نابضة بالحياة وايصالها بأفضل الطرق من خلال كسر هذه الرتابة بالحركة والايقاع النابع من المتحرك بدوافعه الذاتية والموضوعية.. ومن خلاله وَحَد المؤلف بين عناصر النص ( المادة والشكل والتعبير ) لتحقيق الوحدة النفسية والمزاجية للمتلقي وفق بعد جمالى تفرضه علبه مادة العمل نفسها، بوسائل المؤلف وأدواته. لأن النص المسرحى حوار مكتوب للشخصيات أو هو أداة الشخصيات الدرامية للتعبير عن صراعاتها فى حيز زماني ومكاني.
فنص مسرحي فكري كهذا لا يمكن له ان يمد جسور الفهم والتلقي الا عن طريق الحركة والايماءة من خلال الحوارات القصيرة والحركات السريعة (قصر المشهد ) لتصوير معطيات فكرية وفنية وجمالية تكون الأساس في مد الجسور بين العرض والمتلقي.. فالإيقاع لديه شمل التشكيل فى المكان والزمان ليمتد صداه الى أذن المتلقي ولتراه العين فى آن واحد.
لذا فقيام الكاتب بإدخال الإيقاع الموسيقى مع الايقاع الحركي يشكل موقفا” منسجما” في وحداته السمعية ووحدات العرض الحركية والتي تؤسس وحدة الموضوع والموقف والحالة .
لقد أبدع الكاتب يوسف رقة في بلورة وتكثيف الحدث فأتت مسرحيته بالشُحنة الفنية والفكرية المنشودة فى حدود زمن معين تنطلق فيه بكل أبعادها ودلالاتها لتستقر في عقلي ووجداني كقارئ وهذا لا يتأتى إلا من خلال توليد المشاهد من بعضها البعض ليصبح سلوك الشخصيات فيها منطقياً وحتمياً وهذا دلبل وعيه وتمكنه من شحن اللغة المستخدمة بالحيوية.. أما الطاقات التعبيرية وتسلحه بالأساليب والحيل الدرامية منحت النص القدرة فى السيطرة على مشاعر وأفكار القارئ / المشاهد .
..لا يسعني الا أن أهنئ الكاتب يوسف رقة على هذا النص الجميل على أمل أن يترجم على المسرح اللبناني …