في أواخر القرن التاسع عشر ركب مبشرون مسيحيون عباب اليم واتجهوا ناحية إفريقيا السوداء وفي قلبهم رجاء بنشر ديانة المحبة والسلام في القارة السوداء. ما إن وصل هؤلاء إلى مالي حتى ذبحهم البدو الذين كانوا برفقتهم ليدلوهم على الطريق. بعد فترة ركب مبشرون آخرون عباب اليم وقصدوا القارة السوداء واتخذوا طريقاً آخر فنجحوا في الوصول إلى مالي وراحوا يعلمون سكانها حضارة المحبة.
مرت سنوات تلو السنوات والمسيحيون صامدون رغم الحروب التي تعرضوا لها، ولم تخفهم التهديدات التي كانوا يتلقونها بل على العكس بنوا الكنائس والجامعات والمدارس وافتتحوا المستوصفات وأنشأوا الرعايا، وفتحوا أبوابهم وقلوبهم لكل محتاج إلى أي دين او طائفة انتمى. لكن مع تنامي الأصوليات الدينية المتشددة والمتطرفة، في إفريقيا جنوب الصحراء في السنوات الأخيرة، وازدياد أعمال العنف تعرضوا لأبشع أنواع الاضطهاد الديني والتهجير لا سيما من شمال مالي، بعدما أحرقت كنائسهم وطردوا إلى باماكو، مع ذلك ما زالت مراكزهم مفتوحة في الأماكن الآمنة نسبيًا تستقبل ضحايا الإرهاب والعنف من دون تمييز بين عرق أو طائفة أو جنس.
ما أبرز المؤسسات المسيحية في مالي؟ ما هي أبعاد الرسالة المسيحية فيها؟ ما الصعوبات التي تعترض المسيحيين؟ كيف ينخرطون في المجتمعات المحلية؟
عون الكنيسة المتألمة
مالي التي تعتبر من أفقر الدول في العالم تعيش اليوم تحت وطأة الحرب لتحقيق السيادة بعد ما سيطر إسلاميون على الشمال مّا أدّى إلى ردّ عسكري فرنسي. وقد شدّد رؤساء الكنيسة على ضرورة التحرّك سريعاً في حال اشتدّت أعمال العنف بعد الهجوم الفرنسي الدولي ضدّ الإسلاميين.
اندلعت الأزمة في مالي منذ سنة تقريباً بعدما انقلب الجيش وحثّ المتشددين الإسلاميين والمتمرّدين العلمانيين على توسيع نطاق سيطرتهم على الشمال بأكمله وهي منطقة من الصحراء أكبر من فرنسا، فأجبرت جماعة أنصار الدين الإسلامية المسيحيين على الفرار من مدنهم لتجنب وضعهم تحت حكم الشريعة. وقد زرعت أعمال العنف هذه الذعر في القلوب .
إزاء الوضع المتردي تعمل جمعية “عون الكنيسة المتألّمة” على إرسال الأغذية والأدوية إلى مئات العائلات المتضررة في مالي وإلى الأفراد الذين هربوا من منازلهم، خصوصًا الأطفال الذين يعانون سوء التغذية بعد هروبهم من العنف والفوضى، تدير هذه المساعدات الأبرشية الكاثوليكية في مدينة “موبتي”(تضم 40 ألف كاثوليكي) التي تقع جنوب مالي، وهي تستقبل آلاف اللاجئين الهاربين من العنف والفوضى المهيمنين في المنطقة الصحراوية الغربية غير الساحلية… كل ذلك ضمن مجتمع يشكل المسلمون فيه 90 بالمئة من السكان، المسيحيون 5% (ثلثا كاثوليك والثلث بروستانت) أي يبلغ عددهم 726 ألفاً، الديانات المحلية 5 %.
مالي
مالي أو جمهورية مالي دولة غير ساحلية في غرب أفريقيا، تحدها الجزائر شمالا والنيجر شرقًا، بوركينا فاسو وساحل العاج جنوبًا، غينيا والسنغال وموريتانيا غربًا. تزيد مساحتها عن مليون و240 ألف كم² ويبلغ عدد سكانها 14,5 مليون نسمة. عاصمتها باماكو. تتكون مالي من ثماني مناطق وتصل حدودها الشمالية إلى عمق الصحراء الكبرى، أما المنطقة الجنوبية من البلاد حيث يعيش أغلبية السكان فيمر فيها نهرا النيجر والسنغال، ويتمحور اقتصاد البلاد حول الزراعة وصيد الأسماك وموارد طبيعية مثل الذهب واليورانيوم والملح.
مالي الحالية كانت ذات يوم جزءا من ثلاث امبراطوريات أفريقية غربية سيطرت على التجارة عبر الصحراء وهي : غانا ومالي وصونغاي.
في نهاية القرن التاسع عشر استعمر الفرنسيون هذه المنطقة وسميت السودان الفرنسية (1904)، وما لبثت أن أصبحت جزءا من الاتحاد الفرنسي (1920). استقلت الجمهورية السودانية والسنغال عن فرنسا باسم فدرالية مالي (22 أيلول 1960)، وعندما إنسحبت السنغال بعد أشهر قليلة تغيرت تسمية الجمهورية السودانية إلى مالي.
عام 1968 قام الجيش بانقلاب عسكري بزعامة الملازم موسى تراورى، وفي عام 1974 صدردستور جديد جعل مالى دولة الحزب الواحد يسيطر عليها حزب الشعب المالى الديمقراطى الاشتراكى القومى بزعامة تراورى. عام 1991 تشكلت حكومة انتقالية أنهت الحكم الدكتاتوري، وفي 1992 أجريت أول انتخابات رئاسية ديمقراطية فاز فيها الرئيس ألفا كوناري، ولدى إعادة انتخابه عام 1997، سار في نهج الإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد، وفي 2002 خلفه، بانتخابات ديمقراطية، الرئيس الحالي حمدو توماني توري.
في 21 آذار 2012 حدث تمرد عسكري في مالي، وسيطرت مجموعة من العسكريين الماليين على السلطة، بعد استيلائها على القصر الرئاسي في العاصمة باماكو. حدث الانقلاب لعدم استجابة الحكومة لمطالب الجيش الذي طالب بتسليح الجنود الذين يعانون هزائم متكررة في شمال البلاد، في حربهم ضد الطوارق ومجموعات إسلامية مسلحة ورجال مدججين بالسلاح قاتلوا لحساب نظام معمر القذافي.
تمبكتو مركز إشعاع ثقافي
من أهم ملوك مالي مانسا موسى (1312-1337) الذي شهدت مالي في عهده توسعًا كبيرًا بلغ دول النيجر ومدن: غاو، غينيه وتمبكتو التي أصبحت أحد أكبر المراكز الثقافية في أفريقيا والعالم.
لفتت تلك المدينة، العابقة بالتراث العلمي والأدبي، بعبقرية الهندسة وزخرفة المساجد والمدارس والأضرحة لأوليائها الصاحلين، فاستقطبت علماء الشرق والغرب إلى مكتباتها الزاخرة بأهمّ مخطوطات العلوم والآداب. عاش أهلها من الطوائف المختلفة مسلمة ومسيحية ويهودية بتناغم وسلام م تحت كنف أهم المكتبات التي رعاها حكامها العادلون في فترة عرفت بالنهضة العلمية والدينية والأدبية، فتحوّلت هذه المدينة إلى جنة خضراء بمواردها الزراعية وثرواتها الطبيعية، خاصة الذهب، إلى جانب غناها بالآثار التي تظهر تطوّرها الحضاري وتنوّع الثقافات والديانات فيها…
في تومبوكتو استقر المبشرون الأوائل (1895)، قبل ذلك حاول مبشرون الوصول إليها لكنهم تعرضوا للذبح من فبل أدلائهم البدو. من خلال التبشير اعتمد المرسلون نماذج لتلبية حاجات الأنجلة فأسسوا، منذ 1965، ديراً صغيراً في رعية سوكورا وضم 42 شابًا، 40 منهم اصبحوا كهنة واثنان برتبة أسقف. وفي عام 1974 افتتحت الأبرشية التي تضم كهنة وراهبات من مالي مدرسة لتعليم الدين المسيحي.
تحتفظ مكتبات تمبكتو بـ 100 ألف مخطوط، كان ابن بطوطة (1304- 1369) من أوائل الرحّالة العرب الذين قدموا من المغرب العربي إلى مالي وحلّوا في مدنها وأهمّها تمبكتو، وعرّف العالم العربي والإسلامي إليها، ودوّن معارفها العلمية والأدبية وتراثها من المخطوطات المهمّة ومناجمها من الذهب ومصادرها التجارية من الملح.
بعدما ازدادت أعمال العنف في الفترة الأخيرة، تعالت صرخات المثقفين من أرجاء العالم عبر هيئات ثقافية وعلمية ومحافظة على التراث وهيئات رسمية لحماية آثار تمبكتو من همجية الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، ودعت إيرينا بوكوفا، المديرة العامّة لليونسكو، في منتصف كانون الثاني الماضي، القوّات المسلحة المالية والفرنسية إلى التدخّل السريع لحماية التراث الثقافي في المدينة من أيدي البرابرة الإسلاميين المتشدّدين الذين يمعنون في تدمير الأضرحة والمساجد والمكتبات الأثرية وحرقها بحجّة الإيمان المستتر بأهداف عنصرية واضحة، كذلك طلبت من الأهالي حماية هذا التراث والتصدّي للإرهابيين بكلّ قوّة.
أكاديمية باماكو المسيحية
أكاديمية باماكو المسيحية مركزها في باماكو، عاصمة مالي، غرب أفريقيا. أنشئت استجابة لحاجة الأهل إلى تربية أبنائهم وفق القيم المسيحية على أساس مبادئ الكتاب المقدس وبتكاليف معقولة. رغم أن المسيحيين هم أقليّة إلا انهم منتشرون في طول البلاد، من هنا تبدو مهمة التبشير الملقاة على عاتقهم لا نهاية لها. واللافت أن الوزارات في مالي تفضل الطلاب المتخرجين من أكاديمية باماكو المسيحية لكفاءاتهم العلمية الرفيعة وإجادتهم الإنكليزية التي تعلمها الأكاديمية.
يذكر أن أكاديمية باماكو تتضمن أقسام التعليم كافة من رياض الأطفال حتى الجامعة، وتسعى جاهدة لإنتاج موظفين لديهم إيمان حي بناء على كلمة الله. بالإضافة إلى المناهج الدراسية الأساسية يتعلم الطلاب الفن والموسيقى والكمبيوتر والفرنسية والتربية البدنية، وكيفية التأقلم في الثقافة المحلية ومراكز التوعية.
كاتدرائية باماكو
في باماكو كلمة كاتدراية تعني: الكنيسة التي انتهى بناؤها عام 1936 وكانت حتى عام 1957 المكان الوحيد للعبادة، والمركز الموجود قربها الذي يضم مدرسة للصبيان ومختلف خدمات الأبرشية ونشاطاتها.
منذ 1897، تحولت باماكو مركز حكومة المستعمر وشهدت تحولا سريعاً وقصدها الصناعيون والتجار والباحثون عن عمل. في نهاية 1897، استقرت بعثة تبشرية كاثوليكية في كاتي (Kati)، وكانت تزور المسيحيين في باماكو الذين بلغ عددهم في 1906 30 أفريقياً والباقي من الأجانب الذين استهوتهم موارد البلاد الغنية بالمعادن. كذلك ازداد الأوروبيون وإلى الجنود كان هناك الصناعيون والتجار من بينهم لبنانيون كثر.
عام 1907 بنت الإرسالية أول كنيسة وكان يدغدغها حلم الكاتدرائية. وفي عام 1922 بينت الاحصاءات الرسمية وجود مسيحيين موزعين على النحو التالي: 500 أوروبي، 100 سوري، 18 ألف أفريقي، فاتخذ المونسينيورSauvant, قراراً ببناء كاتدرائية. فور اتخاذ القرار وضع المونسينيور Sauvant حجر الأساس بحضور الماريشال بيتان وعين أول كاهن في المدينة في عام 1923. بعد سنتين من العمل أنجز قسم منها وبدأت تستقبل المؤمنين.
عام 1930 وصلت راهبات (Les Sœurs Blanches) إلى باماكو واستقرين قرب الكاتدرائية وفتحن مدرسة على الفور التحق بها 37 صبياً و34 فتاة (1931) واهتمت راهبتان بمعالجة المرضى لا سيما البرص. وبين 1931 و1932 زارت الارسالية 115 قرية ووصلت حتى غينيا. في العام 1950 انطلقت حركات الشبيبة وترافقت مع فترة تغييرات سياسية واجتماعية. في 21 شباط عام 1956 عين المونسينيور لوكليرك أول أسقف على باماكو.
في أوائل الستينيات أصبحت باماكو مدينة كبيرة ولم تعد الكاتدرائية تتسع لكل المؤمنين، فتأسست رعايا تابعة للكاتدرائية وفي عام 1973 ألقي على عاتق العلمانيين مهمة إدارتها.
سيدة مالي
إنه الأخ اسحق، من الإرسالية المؤسسة الذي نحت تمثالا للسيدة العذراء، ومنذ 60 عاماً يتصدر التمثال رعية كيتا تحيط به حديقة ورود، وقد نظم على مدى عشرات السنوات تطوفاً بالتمثال في الرعايا.بعد المجمع الفاتيكاني الثاني قرر الأساقفة في مالي أن يجعلوا من كيتا مركز حج وطني، واتخذ التمثال اسم سيدة مالي ، وخصص لها عيد في الأحد الثاني بعد عيد الفصح.
بعد مئة سنة تقريباً من حضور الكنيسة الفعال في مالي ما زالت الدعوات الكهنوتية خجولة، ولا يتعدى عدد الكهنة العشرات. حالياً يعمل المبشرون إلى جانب رجال الدين في مالي، وأكثر من 150 أستاذ لتعليم الدين المسيحي، وقد تأسست في عام 2000 مدرسة لتعليم الكتاب المقدس.
عام 1987 وصل الإخوة الساليزيون لدون بوسكو إلى البلاد واهتموا على الفور بتنشئة الشباب فأسسوا نوادي رياضية ومكتبة.