رحلتها مع الحياة ألهمتها رواياتها وقضايا المرأة محور أدبها
أبت أن تترك الدنيا من دون كلمة أخيرة تودّع من خلالها كل من له تأثير في مسيرتها الأدبية وفي حياتها ككل، فكان كتاب «الزمن الجميل» (صادر حديثاً عن دار هاشيت أنطوان/نوفل)، آخر ما كتبت الأديبة إملي نصرالله وآخر ما رأته عيناها قبل أن تغمضهما وترحل (14 مارس 2018) عن عمر يناهز 87 عاماً، حفل بعطاء أدبي شامل وبجوائز عالمية… ما أهلها لاحتلال مكانة بارزة في الأدب العربي، لا سيما أنها كانت رائدة في التطرّق إلى قضايا اجتماعية اعتبرت من المحرمات، خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة وبنظرة المجتمع إليها في النصف الثاني من القرن الماضي.
«الزمن الجميل» هو رحلةٌ في لبنان في خمسينات القرن العشرين وفي عوالم إملي نصرالله الخاصة، خطته بأسلوب دافئ وحنون، ونصّ غنيّ من دون بهرجة وكثيف من دون استعراض، ترسم فيه وجوهاً قابلتها وحاورتها. هنّ نساء في الأغلب. نساء مناضلات، كلٌّ على طريقتها، في المجال العام أو الخاص، جهاراً أو صمتاً: من إدفيك جريديني شيبوب إلى الملكة فاطمة السنوسي، وسيدة الرائدات ابتهاج قدورة، ومغنية الأوبرا اللبنانية الأولى سامية الحاج، حتى البصّارة فاطمة، ومارتا، الطالبة الثمانينية في الجامعة الأميركية.
نساء نصرالله لم يكنّ من حبر فحسب، بل اتّخذن أشكالاً أيضاً على يد الرسام جان مشعلاني الذي دأب على مرافقة الصحافية الشغوفة، وتزيين مقالاتها على صفحات مجلة «الصياد» على مدى سنوات.
رحلةٌ أملي نصرالله الأخيرة مع الكتابة، ثريّة روحيّاً وبصريّاً، يتقاطع فيها الشخصي مع العام ليتجاوز السرد الصحافي والأدبي حدود المقابلة إلى رحاب الوطن والمجتمع.
أديبة لبنانية رائدة
ولدت إملي نصرالله عام 1931 في قرية الكفير الجنوبية، وتلقت تعليمها الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت ونالت الماجستير. سنة 1958، تزوجت من فيليب نصر الله وأنجبت أربعة أولاد: رمزي، مها، خليل ومنى.
عملت كروائية، صحافية، كاتبة، معلمة، محاضرة، وناشطة في حقوقِ المرأة، تتنوع مؤلفاتها بين الرواية والقصّة والسيرة وأدب الفتيان والأطفال.
نشرت روايتها الأولى «طيور أيلول» عام 1962، وحازت ثلاث جوائز أدبية.
بعد ذلك تتالت سلسلة كتبها من بينها: «شجرة الدفلى» (رواية)، «الرهينة» (رواية)، «تلك الذكريات» (رواية)، «الجمر الغافي» (رواية)، «الإقلاع عكس الزمن» (رواية)، «روت لي الأيام» (قصة قصيرة)، «الينبوع» (قصة قصيرة)، «المرأة في 17 قصة» (قصة قصيرة)، «خبزنا اليومي» (قصة قصيرة)، «لحظات الرحيل» (قصة قصيرة)، «الليالي الغجرية» (قصة قصيرة)، «الطاحونة الضائعة» (قصة قصيرة)، «أوراق منسية» (قصة قصيرة)، «أسود وأبيض» (قصة قصيرة)، «رياض جنوبية» (قصة قصيرة)، «الباهرة» (قصة أطفال)، «شادي الصغير» (قصة أطفال)، «يوميات هر» (قصة أطفال)، «جزيرة الوهم» (قصة أطفال)، «على بساط الثلج» (قصة أطفال)، «أندا الخوتا» (قصة أطفال)، «أين نذهب أندا؟» (قصة)، «نساء رائدات من الشرق والغرب» (6 أجزاء).
تُرجِمت كتبها إلى الإنكليزية والألمانية والدنماركية والفنلندية والتايلندية. نالت جوائز عدة من بينها: جائزة الشّاعر سعيد عقل في لبنان، جائزة مجلّة فيروز، جائزة جبران خليل جبران من رابطة التراث العربيّ في أستراليا، جائزة مؤسسة IBBY العالمية لكتب الأولاد على رواية «يوميات هرّ».
منذ شهر تقريباً نالت وسام الأرز اللبناني من رتبة كومندور تقديراً لعطاءاتها الأدبية، ومنحت عام 2017 وسام «معهد غوته» الفخري الرسمي باسم جمهورية ألمانيا الاتحادية لتميّزها في إثراء الحوار الثقافي بين الحضارات.
امرأة ثائرة ومناضلة
عندما انتقلت إملي من قريتها الجنوبية الكفير إلى بيروت في النصف الأول من القرن العشرين، كان المجتمع آنذاك يعتبر مهمة المرأة الزواج والإنجاب فحسب، لا خوض التعليم الجامعي والعمل، لذا تحدت نصرالله التقاليد والأعراف وأبت إلا أن تثبت حضورها كفرد ناشط وفاعل في المجتمع. فعملت في مهنة المتاعب، أي في الصحافة، إلى جانب دراستها الجامعية، وخاضت هذا الميدان بأوجهه كافة، فكانت مجلّية في التحقيقات التي تحمل طابعاً اجتماعياً، وتلك التي تبرز تفوق المرأة… من ثم اتجهت إلى الكتابة الأدبية، فصالت وجالت في قضايا المجتمعين اللبناني والعربي، وكتبت حول أمور سببت لها جروحاً داخلية، من بينها: هجرة الشباب، تعامل المجتمع مع المرأة باعتبارها تابعة للرجل، فضلاً عن أمور التربية والآفات الاجتماعية، لا سيما تلك التي خلفتها الحرب الطويلة في لبنان.
لم تعش إملي نصرالله في برج عاجي، رغم الشهرة العالمية التي حققتها من خلال كتبها، بل خالطت الناس على اختلاف فئاتهم ووقفت على قضاياهم واستلهمت من يومياتهم قصصها، وكانت لا تتوانى عن أن تستقلّ سيارات أجرة عمداً لتستمع إلى مشاكلهم، ثم تتناولها في كتبها لافتة النظر إليها.
هجرة الشباب كانت هاجس إملي نصرالله الأول، لذا ركّزت في معظم كتبها على جمال الأرض اللبنانية لحثّ هؤلاء على التعلق بها والإيمان بالوطن وعدم الهجرة. كذلك حرصت في كتبها الموجهة إلى الأطفال على تعليمهم القيم والمبادئ فرسمت شخصياتها وفق هذا الأساس، وكانت خير مربية لأجيال وأجيال نشأت على قصصها الجميلة ورواياتها الهادفة.
نعى رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري الأديبة إملي نصرالله مغرداً على «تويتر»: بغياب إملي نصرالله يخسر لبنان والعرب شعلة من رموز الأدب والإبداع». كذلك نعاها وزير الثقافة فقال: «برحيل الأديبة والكاتبة والأستاذة إملي نصرالله، يفقد لبنان وجهاً نسائياً مشرفاً في تاريخه الثقافي والأدبي والنضالي، الراحلة التي تميزت بين أترابها من السيدات بدعم المرأة ومساندتها حقوقها وصحة تمثيلها، وهي التي كانت تردد دائماً لبنان غني بمبدعيه وهو مشتل الإبداع. وقد أبدعت وأغنت المكتبات اللبنانية والعالمية بمؤلفاتها التي ترجمت إلى لغات عدة، لإيمانها بأن الكتاب سوف يبقى الأساس للحضارة في العالم وهو مرساة الأمان. ستبقى إملي نصرالله في ذاكرة كل انسان من خلال إرثها الأدبي المميز».
نعاها أيضاً رئيس مجلس إدارة «هاشيت أنطوان/ نوفل» إميل تيّان، وذكر: «عرفناها عن قرب سيدة مثقفة مُحبة وحنونة، تختار كلماتها بلباقة، وديعة هادئة بسيطة وقوية ككتاباتها، وتتمتع بشخصية فريدة عازمة مكتنزة بالتجارب. فلا يمكن التمييز بين إملي نصرالله الكاتبة وإملي نصرالله الإنسانة. لقد مثّلت الأديبة الراحلة الزمن الجميل بأخلاقها وأدبها وفكرها وثقافتها الشاملة وانتمائها إلى وطنها وتعلّقها بجذوره».
وأضاف تيّان: «ارتبط اسم إملي نصرالله وأدبها بذاكرة اللبنانيين والعرب جميعاً، فنصوصها تُدرّس في المدارس. ونحن في دار نوفل تربطنا بها علاقة متينة عمرها سنوات طوال منذ تأسست الدار التي تشكّل الأديبة الراحلة إحدى أعمدتها».
*****
(*) جريدة الجريدة الكويتية 16-3-2018