فريد أبو فاضل
النّهضويّ في سبيل الحرّيّة
أن نلتقي رجلًا مثقّفا ومخضرمًا في عصرنا، نتهيّب، وكأنّنا أمام علّامة من الزّمن العتيق والجميل. إنّه المحامي بسّام أبن فريد أبو فاضل! أدركت خضرمته عندما قدّم لي مجموعة كتب والده. كنت قد سمعت بهذا الاسم في بعض المطالعات، ولم تأخذني الحشريّة العلميّة للتّعمّق أكثر في التّعرّف إليه، وها قد أتت السّاعة وكيف لا؟ وهو قد قدّم لي مجموعة كتب كان قد سهر على تحقيقها، كانت قد كتبت منذ الثّلاثينيّات حتّى سنة 1961 من القرن الماضي!
متى نهض النّهضويّ نهض معه كلّ من يلتقيه! وإذا اكتشفته أحطت بعصر كامل، بكلّ ثقافته الاجتماعيّة والبيئيّة والسّياسيّة والفكريّة والفنّيّة والتّربويّة، فكيف إذا كان مؤلّفنا قد كتب في هذه الأبواب كلّها؟
انكببت على رجل وليس على مؤلّفات، كانت منسيّة، ثم عادت فبرزت، كأنّها ولادة جديدة، كما يقول الفيلسوف الألمانيّ غادامير: “نحن لا نرى التّراث بمقتضى مفهوم التّقدّم والنّتائج القابلة للتّحقيق، إنّما نحن نجرّب فيه التّاريخ تجربة جديدة، إن صحّ التّعبير، كلّما تصادى في الماضي صوت جديد”.
إنّها مجموعة مؤلّفات إذا قرأتها وبما مرّ عليها من الزّمن، تشعر أنّ الكاتب والصّحافيّ والمفكّر، نبيّ عصره لا بل، نبيّ العصور التي تأتي من بعده.
كتب فريد أبو فاضل في السّياسة وموضوعاتها، التي مع الأسف، لا زالت اليوم كما كانت عليه، من الرّشوة والفساد، ومن تحالف الأشخاص على قضيّة ما، وليس من أجل الخير العام، بل من أجل غايات شخصيّة، كذلك هي حال انحرافات السّلطة، ومعضلة الحرّيّة والكرامة والوطنيّة، ومحاسن الدّيمقراطيّة وأفضليّتها في الحكم.
كتب في القصّة، المحمّلة بالعبر والحكم، وتغنّى بالشّعر والفضائل الإلهيّة، كأنّها هي وحدها اليوم، من تراثنا المفقود! كذلك في التّربية، مستبقا شرعة حقوق الإنسان، كيف لا؟
وهو من درّس لسنين طويلة، وشغل منصب مدير مدرسة أنطلياس، في دير مار الياس الأنطونيّ، وهو من خّمر عجين الأخوين الرّحباني، وقال فيه عاصي ومنصور إنه “معلّمنا الفعليّ الأوّل”!
وفريد أبو فاضل جاور، دير مار الياس، كما رهبانه، وشاركهم الصّلاة، وكان صديق الموسيقار الأب بولس الأشقر الأنطونيّ، إذ كانا يدندنان على العود والبيانو صلوات مازال صداها في حنايا ديرنا، وربطته علاقة فكريّة مميّزة بالأديب الأب مخايل معوّض الأنطونيّ، كما مع كلّ راهب. فكم أحبّ من توشّح بسواد اللّباس وبياض القلب!
نعم! إنّ النّهضويّ لا يرتفع وحده بل يرتفع مع كلّ من حوله!
ومع بداية هذه العام 2018، أعدّ المحامي بسّام فريد أبو فاضل وحقّق مخطوطًا أصبح كتابًا: “في سبيل الحرّيّة”.
هذا الكتاب يتضّمن مقالات في السّياسة وفي الرّحلات النّضاليّة، ومذكّرات في سبيل الحرّيّة، التي ما زال الإنسان يبحث عنها، وكان المؤلّف يريد إهداءه إلى الجنرال ديغول.
لكنّ كتابات النّهضوي ّوالمفكّر والمناضل والثّائر والرّوائيّ فريد، تبقى في فكر من تعرّف إليه من خلال الرّواية والقصّة والخطابة والشّعر والتّاريخ!
فأمام أيّ كتاب يعود إلى زمن مضى، يكون من الصّعب أن نعود إلى زمنه، إلا في لبنان، لأنّ معالمه كدولة، لم تتغيّر، ما قبل الانتداب وما بعده إلى يومنا، بحيث تبقى الإشكاليّات التي عالجها الكاتب فاعلة.
يقول المؤلّف سنة 1938: “كثرت الأحزاب في لبنان كثرة هائلة، وكلّ منها يدّعي أنّه أنشئ لخير لبنان… كلّ يرى الكمال فيما يرسمه له من شرعة ونظام… ولا كمال في اختلاف الآراء…”
وفي مقام آخر يقول: “مضى ربع قرن وأيدي السّياسيّين والمتزعّمين تلعب في سياسة لبنان وأناملهم تمعن في نظامه تبديلًا وتغييرًا وتحريفًا فلا يرضى فريق حتّى يغضب آخر ولا تكاد ترتاح طائفة حتّى تمتعض أخرى…”.
ويضيف:”نحن لم نرَ في جميع الأحزاب التي ظهرت في لبنان حتّى اليوم إلّا ستائر مزخرفة تستر وراءها غايات شخصيّة وأهدافًا معسولة، يصل إليها أصحابها على أكتاف هذا الشّعب الوادع، ويتذوّقون حلاوتها، وهم غير آبهين لما يعتور الشّعب من آلام ولما يتذوّقه من مرارة العيش وشقاء الأيّام…”.
“في لبنان أحزاب، ولكنّها أحزاب النّائب والوزير. هذه الأحزاب المشؤومة التي يلازم ضررها اللّبنانيّين ويتعمّم إلى قراهم النّائية الهادئة، فيصيّرها ميادين عراك، يقتتل فيها الأخوة والأعمام وأبناء العيلة الواحدة…”.
وفي مكان آخر يقول:”النّائب يؤثّر على مأموري الدّولة مهما تفاوتت درجاتهم، فيجري الحقّ في غير مجراه ويسيّر العدل في غير مسراه… ولا يأبه لشريعة تمتهن…”
“…والفوضى السّياسيّة لا تزال منتشرة في البلاد…، وأيضًا في البلديّات كما الوزارة، إذ تعمل على إرضاء حزبيّتها وتحصر الإصلاح في المقاطعات التي يكثر فيها مناصروها وتهمل سواها وإن تكون في حاجة ماسّة لعنايتها”.
لكنّ النّهضويّ فريد أبو فاضل، يبقى ممتلئًا بالرّوح اللّبنانيّة التي “مهما كانت الظّروف والانقسامات، وعلى الرّغم من الغشّ والفساد، ومهما كانت الحروب والنّزاعات، تبقى تتّصف بالأمل”، إذ أنّه يرى أن: “لا شيء إلى الآن يدفع النّاس إلى قطع الأمل وخيبة الرّجاء”…، “فليطمئن الخائفون، ولا يروّعكم المروّعون واذكروا جيّدًا “أنّ شعرة واحدة لا تسقط من رؤوسكم إلّا بإرادة أبيكم والسّلام”،”.
إنّ فريد أبو فاضل هو رجل الخطابة بامتياز، يُحمّلنا إرثًا نضاليًّا في ما كتب واختبر، إذ يحفّزنا بأنّه قد كان، ومازال، لدينا، رجال يسعون ليرفعوا أنفسهم إلى العلاء في عمليّة تصاعديّة دائمة، مهما كانت دولتنا في دوّامة مقفلة. إذ أنّ أبناء لبنان هم في حالة تراكميّة من المعرفة والثّقافة وفي حالة ديناميّة لا تنتهي.
وقد دوّن المؤلّف مقولة لضابط إنكليزيّ في اللّبنانيينّ، سنة 1944، حاسدا موقع فرنسا لديهم، إذ قال: “إذا كنت أعجب لشيء، فهو لهذا الإخلاص الوافر، لمن تحبّون، فالحبّ عندكم كالإيمان، لا حياء فيه، ولا بهتان، فأنتم، وإن أنزل عليكم المنّ والسّلوى غير من تحبّون، لا تنفكّون عن التّعلّق بحبيبكم الأوّل والإخلاص له، وما كنّا لنحسب لهذا حسابًا!!”.
لقد ذكّرني فريد أبو فاضل بكوكبة من عشّاق فرنسا أمثال:
الخوري العالـــم أنطــون يميّـــن الشّبابــــيّ، الذي أجاد بحبّه فرنسا، في كتاب: “QuatreAns de Misère”، والخوري بطرس غالب المكرزل الذي نشر كتاب: “صديقة ومحامية”، سلّط فيه الضّوء على دور فرنسا في لبنان، والصّحافيّ ميشال الحايك الذي كرّس لها صفحات من جريدته “العَلم”، التي تولّى إدارتها فريد أبو فاضل سنة 1930، وكم من شهيد لبنانيّ، عبّر عن حبّه لفرنسا “الأمّ الحنون”، أمام عود المشنقة هاتفا: …Vive la France! ومازال هذا العشق يتجدّد مع كلّ أزمة يمرّ بها لبنان!
وكم من مناضل ضجّ وكم من ثائر مات وكم من كتاب كُتب في سبيل الحرّيّة!
فكلّ الشّكر للأستاذ بسّام لأنّه لم يحتفظ لنفسه بمخطوطات والده بل يعتبرها إرثا لبنانيّا!
فألف تحيّة محبّة لمن تبقى له الكلمة، وكلمة الحقّ وحدها في سبيل الحرّيّة.