بقلم: المونسينيور كميل مبارك
بين جميع القديسين والموتى، عمومًا تقارب أبقى من الزمن الذي جمع العيد والتذكار بين مسافة شمس وقمر، وأقوى من المكان الذي تلاقى فيه هؤلاء على أرض أخذ جميعهم من ترابها، وحملوا من كيانهم نفحة إلهيّة هي هي عند هؤلاء وأولئك. تقارب ما كان لولا تقارب الأرض بالسماء الذي أعاد إلى تلك النفحة بهاءها الأوّلي وزاد عليها رابط الرحمة التي تجلّت تجسّدًا لابن الله مولودًا من بنت البشر.
هنا كان اللقاء المنظوم منذ الأزل والذي تمّ في التاريخ يوم قالت مريم “نعم” والتقت بإرادة الإنسان، فكان المسيح يسوع حامل الطبع البشري كاملاً والطبع الإلهي كما هو، فيه التقى القدوس بوضاعة الإنسان الذي يخضع للتجربة والضعف والجوع والعطش، وأخيرًا يخضع للموت كما جميع الموتى. به التقت قداسة القديسين وخلودهم بحضرة الله إلى الأبد، بالموتى وكل ما في موتهم من انتظار وقلق ورجاء وإيمان وتساؤلات. بالمسيح وحده الإله الإنسان، نفهم لماذا تقف الكنيسة في كل صلاة لتذكر قديسيها وأبرارها وموتاها طالبة إلى الديان العادل الرحيم أن يجتمع كل هؤلاء رعيّة واحدة لراعٍ واحد، جسدًا قدسيًا رأسه المسيح القائم من الموت.
نذكر قديسينا لينموَ رجاؤنا ونسعى كما سعوا وبالسبل المشابهة التي سارت بهم على طريق السماء، هم عبرة أمام أمام أعيننا ومنارات في كنائسنا ومشاعل هداية يراها المؤمنون والباحثون عن الحقيقة فيستنيروا بهم من متاهات التجارب وقساوة الحياة ويمسكون بأيديهم رفاق طريق إلى المسيح ملك الملكوت. هؤلاء القديسون الذين يحاول بعض التائهين المضللين، استبعاد مسار القديسين عن مسار حيانهم الإيمانية، ظنًا من عقولهم التي شردت بها تعاليم الضلال، أن هؤلاء القديسين يأخذون دور المسيح عند المؤمنين الذين يكرمونهم ويطلبون شفاعتهم.
ونذكر موتانا، عمومًا، ليس فقط تضامنًا بين الكنيسة المجاهدة أي نحن الأحياء على الأرض، والكنيسة الممجدة أي الذين سبقونا إلى السماء، وتلك المنتظرة أي الذين رقدوا على رجاء القيامة، بل لنقف ونتأمل كذلك في أن الموت حق وحكمٌ على جميع الخلائق، ومنهم نحن البشر، وننظر في وضعنا اللاهث خلف الزمن المتسارع، نسعى في أيامنا إلى كل مقتنى، ونتلهى عن الكنز المخفي الموعودين به منذ قال الله: سيأتي المخلص ليشفي الطبع البشري من سقطاته، والذي تمّ مع سرّ الفداء بموت المسيح وقيامته حاملاً خطايانا معلقًا معصيتنا على صليبه حيث مات الموت والخطيئة والشيطان المجرّب.
أمام الموت نعرف محدوديّة المخلوق أمام الأزلي الأبدي، علّنا بمعرفتنا هذه نعي حقيقة ذواتنا ونسلك السبل التي تدخل الفاني عالم الخلود والمؤقت المحدود عالم اللامحدود، ومن له بداية ونهاية عالمًا إلهيًا لا بداية له ولا نهابة. أمام الموتى وتذكارهم، ندرك أن الذين سبقونا لم يفارقونا إلى ما لا نعرف أين، بل نرى في حالهم صورة حالنا كما نرى في بهاء وجه القديسين بلقاء من أحببنا لأن الحب أقوى من الموت.