احتواء

كان اسمها ميادة وكانت ميادة. جسدها مثل قالب صب من أنوثة طاغية. بيضاء مثل حليب دافئ كأن بياضها مركب. والحمرة التي تكسو الخدين وأرنبة الأنف والشفتين الرهيفتين تكسبها سحرا يخطف كل الرجال.

أما الإشارب الأزرق فوق الطرحة البيضاء فقد سمح لخصلة شعر بنية ناعمة من غرتها بالنزول على عينها الباسمة. وكلما دفعتها تحت الطرحة أبت إلا الظهور.

ميادة شابة تقترب من الخمسين. لا يعرف عنها أي من زملاء العمل شيئا خاصا. وإذا تودد إليها أحدهم عاد بخفي حنين. تتلعثم شفتاها وهي تبحث عن حروف مستعصية. والوجه الأبيض يستحيل دما. ومع ذلك ودت لو قالت كل كلام العشق لزميلهم الجديد.

وجهها المشرع قبالته طيلة النهار كان مثل لوحة سريالية. كلما نظر إليه وفتش فيه عاد بمعنى جديد. وذات ضحى خرج من فيه الكلام دون أن ينتبه. لم يكن غيرهما بالمكتب يومئذ. ووجهها الذي ازداد ضياءً كان منكبا على أوراق تقرأها فرفعته وقالت: أتحدثني أستاذ أنور؟. ابتسم وهو يقول: وهل هنا غيرك؟. وبعد دوام العمل قبل الدعوة لبيتها.

الساعة كانت تقترب من الرابعة عصرا. وشمس الشتاء لم تظهر أبدا بآخر أيام العام. والأمطار الغزيرة بللتهما رغم الجواكت الجلدية والمظلات. والشمعدان الذي لمعت إضاءته في اللوحة أعلى البيانو جعله يفتش في كل الزوايا حتي يدفع هواجسه.

لكنه قبل أن يتمكن من ذلك أتت بآخر حقيقيا وأشعلت شمعاته وهي تضحك وتقول: صدق ظنك وتأكد من حبي. أشعل سيجارة وهرش رأسه وهو يقول: أنت لغز. قالت: ولمَ؟ ربما كانت مشكلتي الخجل. لكني منذ رأيتك أحاول أن أبوح. وكلما عزمت على قول شيء قلت غيره. أنا جدة. تزوجت في الرابعة عشرة وشهرين. ومات زوجي قبل عقد ونيف. أنا لا أتحدث في العمل مع أحد. لا تعرف كيف ينظرون إلي؟ أما أنت فنظرتك وادعة.

نهض أنور وجلس جوارها. لقد تسرب إليه صدقها. طوق خصرها بيمناه. وتخلل شعرها البني الناعم بأصابعه. ثم اقترب بأنفه من أنفها. وقبل أن يقبلها غفت على صدره فأحتواها ونام على الكنبة مكانه.

اترك رد