بقلم: أ.د. مها خيربك ناصر
أولاً: مسلمات وبديهيات
الشعر رؤيا استباق واستشراف، إنّه الهامٌ روحيّ تفيض به النفس المبدعة، فهو بهذا المعنى ومضة فكريّة تضيء بقدر ما تقبض لحظة انبثاقها على حقيقة “ما”، وهذه الحقيقة تختزنها اللغة في رموز وإشارات تستتر وراء علاقات لغوية متماسكة في بنية نصية تنبض بروحية اللحظة الإبداعية التي لا يمكن القبض عليها، فهي إذ تمنح هيكلها الشعريّ خصوصيته وهويته، تهبه ، في الوقت عينه، حرية الانعتاق من سلطة كهنة الفن وخزنة علوم النقد. [1]
تتشكّل بنيات الهيكل اللغويّ الأساس من ثقافة الشاعر/ الشاعرة اللغويّة والدينيّة والتاريخيّة والفلسفيّة والميتافيزيقيّة، وغيرها من مفاعلات موروثة ومكتسبة، ثم تنضاف إليها خمائر التجربة الإبداعية المتأثرة بقدرات المبدع/ المبدعة، وبمدى اتساع فضاء المختبر اللغويّ، وبعمق الرؤية لقضايا الإنسان والمجتمع، ومن ثم بالموقف من أسرار الحياة وحركية الكون، فيأتي المولود الشعريّ متقمصًا فكرًا هيوليًّا، أثوابه لغةٌ قادرة على احتضان الرؤيا وتجسيدها في أنساق نصيّة تتباين بتباين طاقات المبدع/ المبدعة في لحظات الشطح الشعريّ، لأنّ لكلّ زمن إبداعيّ خصوصية تُكسب المنتج فرادة وجدة و طاقة إغراء، تحرّض على قراءة النص، وتأويل رموزه، وتفسير دلالاته.
بهذا المعطى تتعطّل أدوات التصنيف، في رأيي، وتصير عملية الإبداع من دون جنس أو لون، فلا يرتبط الإبداع بجنس قائله، بل يرتبط نجاح أيّ تجربة إبداعية بصدق الوصال وشفافيته، بين ماضٍ وحاضر، في لحظة زمنيّة خارجة على سلطة الرقابة، فتكون هذه اللحظة أكثر صدقًا وحريةً وجرأة، لأنّها تختزل خلاصة حوار ذوات تتكامل بقدر ما تتناقض، فيأتي المولود الشعريّ موسومًا بالفرادة والغرابة والأصالة والحداثة، في اللحظة عينها، بوصفه منطوقَ ذاتٍ إبداعيّة خالقة، رسمت رؤاها بوحًا صادقًا، في لحظات هاربة من عقد الرقابة بين الوعي واللاوعي.
مما لا شكَّ فيه أنّ حضور المرأة المبدعة على مستوى الساحات الثقافية العربيّة بشكل عام، قديمًا وحديثًا، في المشرق والمغرب، خجول لأسباب كثيرة، ربما كان سببه الرئيس سلطة الفكر الذكوريّ المتوارثة، هذه السلطة التي منحت الرجل حق القمع والتغييب والإلغاء، غير أنّ هذه السلطة عينها لم تتمكن من مصادرة صوت الخنساء ورابعة العدوية ونازك الملائكة وفدوى طوقان وسعاد الصباح وغيرهن من المبدعات العربيّات اللواتي تخترق أصواتهن، اليوم، فضاءات القراءة النقديّة الحديثة.
تنبثق عن هذه المسلمات والبديهيات أسئلة كثيرة، تتمحور حول قضية أساس هي تجنيس الشعر؛ فهل للشعر جنسٌ؟ وهل للشعر لونٌ؟ وهل للمرأة المبدعة لغة أخرى تختلف عن لغة الرجل المبدع؟ وهل يجوز تصنيف الموضوعات والقضايا الإنسانيّة تذكيرًا وتأنيثًا؟ وهل للصور والدلالات انتماءات ذكوريّة أو أنثويّة؟
من المتعارف عليه أنّ فن الصياغة ليس واحدًا، وهذا الاختلاف لا يخضع لجنس قائله؛ بل هو مرتبطٌ بالقدرة الإبداعيّة واللغويّة المتباينة بين مبدع وآخر؛ لأنّ للإبداع خاصيّة الفرادة، والفرادة لا تتكرّر، بوصفها أولاً، من حيث توظيف اللغة وما يولّده هذا التوظيف من صور ودلالات، ورؤى، وتطلعات منبثة في أنساق وأشكال على غير مثال، سواءٌ أكان ذلك على مستوى الابتكار اللغويّ أم على مستوى الخلق الفنيّ التأويليّ، و لذلك يمكن القول إنّ الجنس الأدبيّ أو اللون الشعريّ لا يرتبطان بجنس الشاعر، بل بقيمة العمل الأدبيّ اللغويّة، و الفنيّة، والدلاليّة، والترميزية، بالإضافة إلى قدرة الشعر على رسم الرؤى والتطلعات واستشراف المستقبل.
إنّ المرأة العربيّة المبدعة عندما ترسم ألمها أو دهشتها، فهي تبوح بصدق عن مكنونات ذات واعية متألمة، تُدرك مركزها وتعشق إنسانيتها، وتطمح إلى المشاركة في صياغة واقع ثقافيّ جديد، قوامه إحداثيات اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة، تتقاطع، وتتنوّع، وتتعدّد، فيتجلّى بوحها في لغة فنيّة، لا تختلف عناصرها عن عناصر لغة يوظّفها شاعر مبدع تكشف تجريته عن ماهية رؤيته للأحداث والمرئيات، فتكون لغته الفنيّة هويّة يُعرف بها، وترتبط به، وتمايزه عن غيره من المفكرين والمبدعين.
لم يكن التمايز بين المتنبي والشريف الرضي وأبي فراس من حيث المفردات وقواعد اللغة، بل من حيث الصياغة الفنيّة للتراكيب اللغويّة، فلقد فرض كلّ شاعر لغة فنيّة خاصة به، فلم يكن تفاوت القيم الفنيّة وليد تذكير أو تأنيث، بل نتاج فرادة في التشكيل الأدائي، ولذلك لا يمكن أن يكون جنس المبدع معيارًا يُقاس عليه، وبه العمل الأدبيّ، لأنّ المعيار الدقيق لا يحدّده جنس المُرسِل، بل خصائص لغة قادرة على أن تُفصح، بفن ومهارة، عن حديث الذات المبدعة مع ذاتها، ومع الحضارة، والحياة والكون، لأنّ المفردات واحدة، وقوانين تشكيل الأجساد النصيّة واحدة، والاختلاف مشروط بخصوصية خلق، تتجلّى في أسلوبيّة شعريّة مرتبطة بطاقات الشاعر/ الشاعرة الإبداعيّة .
استنادًا إلى ما سبق هل يجوز للدارسين أن يضعوا نظرية شعريّة جديدة تتمايز بالخصوصيّة الأنثويّة/ النسويّة؟ وما هي الخصائص التي تمنح هذا النوع الشعريّ الاستقلال اللغويّ والفنيّ والإبداعيّ؟ وما هي الأدوات النقديّة التي يمكن استخدامها لتفسير ظاهرة فنيّة/إنسانيّة تكتبها الأنثى؟ وما هو مفهوم نظرية شعريّة نسوية؟ هل لهذه الظاهرة خصائص لغويّة ومقومات بلاغيّة وقوانين صرفيّة ونحويّة، وشروط تطبيق مستقلة عن غيرها من نظريات الشعر؟ وربما كان السؤال الأكثر أهمية هو: هل خلا التراث العربيّ من صوت إبداعيّ جاء تعبيرًا عن تفاعل المبدعة العربيّة مع القضايا الإنسانيّة؟
تظهر عملية رصد للمؤتمرات والملتقيات النقديّة العربيّة، أنّ الأدب النسويّ حظي باهتمامات الباحثين والدارسين، غير أنّ هذا المصطلح لم تنتجه البيئة الثقافيّة العربيّة، بل تسلّل إلى متنها مع ما تسلل من مصطلحات يتمّ العمل بها من دون معرفة عميقة بأصل وضعها، أوبما تختزله من مفاهيم أنتجها واقع ثقافيّ، له خصوصيته وشروط إنتاجه، وهذه الشروط قلّما تتطابق بين المجتمعات الإنسانيّة كلّها، وإن أوحت بالتشابه والتماثل.
أنتجت الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، بدءًا من القرن السابع، في أميركا وأروبا، عددًا من الحركات المطالبة بالحريّة وبالديمقراطيّة وبالمساواة، غير أنّ معظم مفكري عصر التنوير حافظوا على نظرتهم الدونيّة إلى المرأة، فلم تختلف مواقف كلّ من ديكارت وكانط وروسو وفرويد عن موقف أفلاطون الماديّ من المرأة، فالرجل هو أصل السلطات، كونه يتسم بالإيجابيّة والعقلانيّة والإبداع، أما المرأة فهي شيءٌ ماديّ يحتاج إليه المجتمع، وهي تتصّف بالسلبية والخنوع والخضوع والتردد والعاطفة.
فرضت هذه النظرة الدونيّة إلى المرأة ولادة حركات نسائية تطالب بالحريّة والمساواة، ومن ثمّ كانت دعوات لتكريس مصطلح الأدب النسويّ ، الذي رأى فيه بعض الباحثين أنّه يضمر بعدًا فلسفيًّا وفكريًّا، غايته رفض ربط الخبرة الإنسانيّة بالرجل، من جهة، والدعوة إلى مشاركة المرأة في الحياة الفكريّة والثقافيّة، من جهة ثانية، فحقّقت المرأة حضورها على المستوى الماديّ، ولكنّها لم تحقّق إنسانيتها، على الرغم من مظاهر التحرر الفكريّ والثقافيّ، لأنّ المجتمعات الغربيّة، وغير الغربيّة حافظت على ذكوريتها، وعلى النظرة الماديّة إلى المرأة، وأضافت إليها، أيضًا، أعباء المشاركة في عمليات الكد والكفاح، من أجل تأمين حياة لائقة لها ولأبنائها، من دون أن تقدّم لها الحضارة الجديدة تعويضات معنويّة، أو تضمن لها ديموقراطية حقيقيّة تفتح لها فضاءات الحراك الثقافيّ، فتثبت حضورها الفاعل، بعيدًا عن ذكوريّة تضعها بين خيارين، أولهما الاعتراف بسلطة المذكر، ولو كان أقل إبداعًا، ومن ثم الاستسلام لرغباته، فيُسمح لها، بعدئذ، الدخول في ملكوت الإعلام الثقافيّ، الذي يجعل منها رائدة ومبدعة، وثانيهما فرض حالة من الإقصاء على كتاباتها وعلى حضورها الإعلاميّ والثقافيّ، لأنّها رفضت أن تكون سلعة للتغزل، والعرض والبيع والشراءـ، واعتصمت بنبل إنسانيتها.
قلّما استطاعت المرأة أن تحقّق طموحاتها الثقافيّة، من دون تقديم تنازلات فرضت علبها الخروج على الأصول، وأقنعتها بتشييء روحها والتركيز على مادية الجسد، فجاء مُعظم ما سطّرته أقلامٌ تطمح إلى النجوميّة بعيدًا عن روح الخلق الفنيّ الإبداعيّ، ووسم نتاج المرأة بخصوصية التعبير عن جسدها، وعن همومها الشخصيّة، فانزاح الكتابة عن معايير الفرادة والخلق الفنيّ، وربما استغلّ بعض الفاعلين في الحركة الثقافيّة العالميّة قضايا نسويّة طرحتها كاتبات، فشجعّوا على توظيف مصطلح الأدب النسويّ الذي كرّس، في رأيي، عزل نتاج المرأة الإبداعيّ عن إبداع الرجل، فيكون التموضع الأدبيّ مرتبطًا بالجنس، لا بالقيمة الإبداعية والفنيّة والجماليّة، فيحقق الرجل، في عملية العزل هذه، تفوقًا آخر يرفعه عن مقارنة نتاجه بما تنتجه أديبة موهوبة مبدعة، ولكن ما هو المعيار الذي يُطيّق على نتاج أديب يكتب باسم امرأة؟ وهل تخضع إبداعات الأديب ياسمين خضرا لمعايير تناقض ومعايير تخضع لها إبداعات جمال بو طيّب؟
القضية شائكة ومعقدة، وتسيء إلى جوهر الدراسات النقديّة العلميّة، وتلغي علمية المعايير التقييمة والتقويميّة، وتضاعف من مآسي المرأة المبدعة التي تصطدم، يوميًّا، بأفكار عصر التنك الصدئة والنتنة، وهذا الأمر تواجهه، يوميًّا، سواء أكان ذلك على مستوى العمل الأكاديميّ، أم الثقافيّ، وخير مثال على ذلك أنّ أستاذًا جامعيًّا استنكر تخصص الأنثى في الدراسات النحويّة، لأنّ هذه الدراسات لا تُسند إلا للرجال، وأنّ شاعرًا لبنانيًّا استنكر، في مهرجان شعري، كتابة الشاعرة العربيّة المعاصرة الشعر على أوزان الخليل، لأنّ الشاعرة العربيّة، وفق رأيه، لا تمتلك القدرة على صياغة هذا النوع من الشعر.
تشير المعطيات السابق ذكرها إلى أنّ مصطلح الأدب النسويّ لا يعبّر حقيقة عن حضور المرأة الإبداعيّ/ الإنسانيّ، لأنّ معايير الدراسات النقديّة لما يُسمّى بالأدب النسويّ لا تختلف عن المعايير التي يوظّفها النقاد في قراءة أيّ عمل إبداعيّ لأديب ما، لأنّ اللغة واحدة، وقوانينها النحويّة والبلاغيّة والشعريّة، لا تتجنس، ولا تتموضع، وكذلك النظريات الشعريّة، وخصائص النص الإبداعيّ، و أدوات مناهج النقد، ليست ذكوريّة ولا نسويّة، فهي خصائص ومقوّمات وأدوات تتعالى على التبعيض والتذكير والتأنيث.
يتناقض تجنيس الإبداع، وفق قناعتي، وروحية الخلق ومفهومه وجوهره، ومن المسيء إلى روح الشعر أن يُعزل ما تكتبه المرأة المبدعة في إطار محدّد، لأنّ جوهر الحراك الثقافيّ المرتبط، حكمًا، بالواقع، والتراث، واللغة، والأنا الإنسانيّة، لا يتمايز إلاّ بتمايز القدرة الفنيّة التي تعيد صياغته، وتمنح الأشكال والأنساق خصوصيّة مهاريّة، تحدّد هوية صاحبها، وموقعه، وانتماءه، بغض النظر عن تكوينه البيولوجيّ، وهذا ما يؤكده واقع ثقافيّ عبّرت فيه مبدعات عن حضورهن ، فرسمن باللغة رؤاهنّ وتطلعاتهنّ بأنساقٍ شعريّة لا تختلف، من حيث القيمة الفنيّة والجمالية واللغويّة، عن رؤى الرجل المبدع وتطلعاته.
إنّ التراث العربيّ ما زال يختزن شعرًا باحت به ذات شاعرة بما يحيط بها، فكان بوحُها تصويرًا صادقًا عن علاقتها بالمجتمع، والكون، والحياة شأن أيّ شاعر عربيّ مبدع، لم يتخذ الشعر مهنة اعتياش، فحوصر إبداعه في دائرة التهميش، وربما كان واقع المرأة الاجتماعيّ يرفعها عن امتهان الشعر، فغيّبها الإعلام الذي جسّده الرواة، وظل منطوقها نابضًا في أمات المصادر العربيّة، وهذا ما سيعلنه المستقبل عن نتاج مبدعات ومبدعين يهمشهم الإعلام المعاصر، لأّنّهم لم يستسلموا إلى لمعان الفضة ولا إلى بريق المراكز، ولأنّ أشكال التهميش والتغييب والإلغاء تفرضها معادلات اجتماعيّة وسياسيّة وعقائدية وديماغوجيّة، معادلات مغلوطة وغير سليمة، قوامها التضليل والتطبيل، ونتائجها غير سليمة وغير صحيحة.
تأسيسًا على الفرضيات السابقة، القابلة للقبول أو الرفض، يمكن القول لا يجوز تخصيص ما تكتبه المرأة بمصطلح أدبيّ مستقل، وهي تعاني ما يعاني منه الرجل، وبخاصة، إذا اتسم انتاجهما بالإبداع، وأعلنت مسيرة كلّ منهما الخروج على المألوف، لأنّ في هذا التخصيص محاصرة وتضليلاً، وتكريسًا لمفاهيم خبيثة نتائجها تتلخص في أنّ المرأة الإنسان المبدعة ليست كالرجل الإنسان المبدع.
إنّ البرهان على صحة هذه الفرضيات أو نقضها يحتاج إلى قراءة المعطيات والحقائق المخزونة في بطون أمّات الكتب، وقراءة نماذج شعرية لمبدعات عربيّات بغية الكشف عن الطبيعة اللغويّة والفنيّة والإبداعيّة، التي تفرز إنتاج الشاعرة المبدعة، وتموضعُه بعيدًا عن إنتاج شاعر مبدع، ومن ثمّ يكون الحكم على إمكانية إضافة جنس أدبيّ جديد لا تتوافق دراسته وأدوات النقد الإجرائية، قديمها وحديثها، بوصفه نقدًا موجهًا إلى نص يتمتع بخصوصيّة أنثويّة؛ بمعنى آخر لا بدّ من ابتكار أدوات نقديّة جديدة تتم بها قراءة النصوص المسماة “نسوية ” ،وتحليلها وفق اللغة التي تكتب بها المرأة، ووفق البنى التركيبيّة التي تولّدها لغتها الخاصة بها.
قبل أن نحيل الأمر على إمكانية ابتكار الأدوات وصياغة النظريات النقديّة الخاصة بالأدب الذي تقوله الأنثى العربيّة، سيكون العمل على دراسة موضوعيّة لنماذج شعريّة منتقاة من فضاءات ثقافيّة عربيّة، تشهد على حقيقة حراك الأنثى العربيّة الثقافيّ عبر التاريخ؛ فبماذا تبوح وتنطق هذا المعطيات والحقائق الثقافيّة التاريخيّة التراثيّة؟
ثانيًا: معطيات وحقائق تاريخيّة
إنّ قراءة علميّة لتراثنا العربيّ تؤكّد أنّ الشعر العربيّ، في خلال مسيرته المنكشفة أمامنا، من الجاهلية حتى اليوم، هو ومضات فكرية تولّدت من تصادم الذات العربيّة مع معوقات الواقع ومعطياته، من جهة، ومع الآخر المختلف، من جهة أخرى، فعكست الومضات قلق الإنسان العربيّ وطموحاته وتطلعاته، ورغباته. وجاء الشعر، مع المبدعين منهم، دعوة إلى التغيير والانبعاث الروحيّ المقرون ببشرى الولادة وسر الخلق المتجدد، سواء أكان المبدع رجلاً أم امرأة، فمورس على بعض المبدعين منهم التغييب والتهميش، نتيجة أسباب لا مجال لذكرها ضمن هذه الدراسة.
إذا كان العمل الإبداعيّ، وفق ما يراه بعض النقّاد، يتمايز بالفرادة والخصوصيّة، فهو، إذًا، المولود الأوّل على غير مثال، وهو الممهور بخصوصية ابتكاريّة لا ترتبط ، مطلقًا، بجنس مبدعها أو لونه، بل بقدرته على توظيف طاقاته مجتمعة على الخلق والتوليد والتجديد، ولذلك كان امرؤ القيس مبدعًا، وكانت الخنساء مبدعة، وكذلك كان المتنبي وأبو تمام، وكانت ليلى الأخيلية ورابعة العدوية وولادة وغيرهن من الشاعرات اللواتي أثبتن حضورهن في حركية الشعر العربيّ القديم.
إنّ كتب التراث تحفظ أسماء شاعرات مبدعات، لكنّنا مذ قرأنا الشعر الجاهليّ ونحن لا نسمع إلاّ أصواتًا ذكوريّة غنّت جمال المرأة، وأفاضت في وصفها الماديّ، و قلّما تهادى إلى سمع مناهجنا أصوات شاعرات بحن بشوقهنّ، إذا استثنينا حضورًا خجولاً جسّد شوق كلمات الأنثى العربيّة إلى غائب اختطفته يد المنية، فاخُتزل نتاج الشاعرة العربيّة في الرثاء، مع تهميش شبه تام لشاعرات، كان لهنّ حضور فاعل على مستوى الإبداع الشعريّ والنقديّ، و ذلك في مجالات الفخر والغزل و الحماسة والسياسة والحنين إلى الوطن، والحكمة، وكان لبعضهن دور فاعل في تنشيط الحركة الشعريّة والنقديّة.
أورد أبو الفرج، في كتابه الأغاني، أخبارًا عن قدرة المرأة على ارتجال الشعر، وعلى الإيجاز في النظم والحوار الشعريّ، وأكّد حضورها في الحوارات والمساجلات، فكانت الخنساء تجالس النابغة والأعشى وحسان بن ثابت، وتشاركهم نقد الشعر. ومما أورده أبو الفرج في الأغاني أنّ النابغة فضّل شعرها على شعر الأعشى وحسان ، وذلك عندما أنشدته :
قذىً بعينك أم بالعين عوّار أم ذُرفت إذ خلت من أهلها الدارُ
وإنّ صخرًا لمولانا وسيدنا وإنّ صخرًا متى نشتو لنحّار
وإنّ صخرًا لتأتم الهداة به كأنّه علمٌ في رأسه نار
بغض النظر عن غضب حسّان وكلام النابغة، نستطيع التأكيد أنّ ما نطقت به الخنساء من أجمل التراكيب المتمايزة بالمتانة والجزالة والقوة و المشحونة بالصور والدلالات، وليس لها طبيعة جندرية تفرض تصنيفها في خانة شعر النساء، ولا يمكن لأيّ ناقد عربيّ أو غير عربيّ أن يدرك جنس الناطق بهذا البيت إذا لم يكن على معرفة مسبقة بصاحبته.
والقضية عينها نطرحها في بيت شعر لشاعرة، قيل أنّها من ولد حسان، إذ تقول:
سلِ الخيرَ أهَل الخير قدمًا ولا تسل فتى ذاق طعم العيش منذ قريب
قدّمت الشاعرة حكمة صالحة لكلّ زمان ومكان، وذلك بلغة متماسكة ترشحُ معارف ودلالات تفرض سؤالاً منطقيًّا، يُضمرُ قضية بحاجة إلى القراءة الموضوعيّة، وهذه القضية هي: ماهي المعايير التي يتمّ بها الحكم النقديّ الموضوعيّ على حكمة هذه الشاعرة، وحكم زهير؟ وهل تفرض هذه المعايير تفوق حكم زهير؟
نورد تمثيلاً، لاحصرًا، قوله:
ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذمًا عليه ويندم
إنّ القراءة النقدية الموضوعية تؤكّد، أولاً، أن الأدوات النقديّة الإجرائيّة واحدة، وتظهر، ثانيًا، تفوّق البيت الأوّل في الحكمة واللغة والتراكيب والصور والدلالة، لأنّ الشاعرة أوجزت في قولها مجموعة من الحكم، ربما كان منها:” ماء وجهك جامد فاعرف عند من تسيله”و” إنّ الأصول عليها ينبت الشجر”و “احذر بطونًا شبعت بعد جوع فإن الشح باق فيها”و غيرها من الحكم الموسومة بالكبر والأصالة وكرم النفس، بينما جاءت حكمة زهير بسيطة ومباشرة وفيها نوع التحريض على تخصيص المعروف في مستحقيه، وهذا الشرط يفتقر إلى الموضوعيّة.
تكشف قراءة التراث أنّ دور المرأة الشاعرة لم يتوقف على قرض الشعر ونظمه، بل كانت ناقدة متمتعة بالاحترام والتقدير،لأنّ لتحكيمها أثرًا يتطلّع إليه الشعراء، كونه يرفع من منزلتهم، ولذلك غضب حميد بن الثور وراح يهجو ليلى الأخيلية، لأنّها حكمت بتفوّق شعر العجيز السلوليّ، إذ نطقت بالحكم على من وصف ” القطاة” شعرًا، وقالت:
ألا كلُّ ما قالَ الرواةُ وأنشدوا بها غير ما قال السلولي بهرج
ليس الكلام على التراث الشعري العربيّ موضوع بحثنا هذا، فلقد سبقنا إليه قدماء ومحدثون رصدوا في أبحاثهم حركة الشعر العربيّ القديم والحديث، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر بعض من نقلوا أخبار النساء الشاعرات، كالمرزباني وابن النديم وأبي الفرج[2]، والسيوطيّ[3]، وأنيس المقدسيّ[4]، ورضا ديب[5]، وروز غريب[6]، وسعيد بوفلاقة[7]، و مي يوسف[8]، وغيرهم، ولن نتناول أسماء الشاعرات المبدعات والمنتديات الشعرية التي أسّسنها، أمثال سكينة بنت الحسين، وولادة بنت المستكفي، ولكن الذي يعنينا في هذه الدراسة الوقوف على القيمة الفنيّة والدلالية لشعر نطقت به شاعرات حول قضايا اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة وغيرها، فنقضن فرضية تقول إن الشاعرات لم يبدعن إلا في الرثاء، فيكون ما نقدّمه من نماذج دليلاً وحجة وبرهانًا على حقيقة نظرية تجنيس الشعر.
تظهر عملية رصد للمصادر القديمة أنّ الموضوعات والأنواع الأدبيّة، التي كتبت عنها، وبها الشاعرة في العصور المتقدمة، تنوعّت، وتعدّدت، فكتبت شعرًا وطنيًّا مشحونًا بالشوق إلى الوطن، ومنه ما باحت به ” قمر” جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي، في قصيدة أودعتها شوقها إلى بغداد، على الرغم من جمال الأندلس، حيث صار الجسد بعيدًا عن هواء العراق، فتقول:
آهًا على بغدادها وعراقها وظبائها والسحر في أحداقها
متبخترات في النعيم كأنّما خُلق الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأيّ محاسن في الدهر تشرق من سنى إشراقها
إذا حاولنا قراءة البيت الأوّل صوتيًّا نعثر على ورود حرف “الهاء” الدال على التعب خمس مرات، كأنّ الشاعرة ضمّنت حروف شعرها رموز تعب نفسيّ ولّده البعد الناتج عن السفر، وكذلك نجد حرف الخاء قد تكرر في البيت الثاني ثلاث مرات فأشارت بكلامها إلى التعب الدفين العميق الذي استقر في حرف له مخرج صوتي متقدّم أفرغت فيه وجعها، كأنها تتلفظ بكلمة “آخ” الدالة على الوجع، ثم يستقر الوجع ويستكين في حرفين متماثلين في مخارجهما ومكررين مرتين هما” السين ” والشين”، وهذا دليل على أنّ بوح الشاعرة العربيّة صادقٌ وعفويُ بعيد عن التكلف والتصنع، لأنّه وليد لحظة شعريّة حقيقيّة تعيشها شاعرة ترسم شوقها إلى وطنها، وتكتب نبض الوجع والحنين والألم.
وإذا قرأنا شعر عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب:
ماذا تقول إن قال النبي لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى وصرعى ضُرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في بني رحمي
نجد العمق الثقافي، والمعرفة الدينيّة، والجرأة والمنطق العقلي في إبراز الحجة وتحقيق الأهداف، لأنّها استطاعت في ما باحت به أن تذكّر المسلمين بعترة آل رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم)، وأن توثق الجرائم الإنسانيّة بحقهم، وأن تجعل الحاضرين يتبنون قضيتها نفسيًّا، فكان أسلوبها براغماتيّا حجاجيّا، بدأته بسؤال استنكاريّ دعّمته بتناصات من كلام الرسول، ثم وصلت إلى نتيجة تؤكد سخط النبي ورفضه لما أصاب أهل بيته، وهذا الأسلوب المنطقيّ الحجاجيّ لا يمكن تصنيفه وفق جنس قائلته، ولا توجد إشارة واحدة إلى طبيعة الشاعر/ الشاعرة البيولوجيّة، بل تحمل إشارات إلى الانتماء الفكريّ والعقائديّ الذي يتساوى فيه أبناء المجموعة الواحدة المنضوون تحت ظلال هذا الفكر، ذكورًا وإناثًا .
كتبت الشاعرة العربيّة القديمة في موضوعات كثيرة وأثبتت حضورًا فاعلاً على مستوى الحراك الثقافيّ، فجاء منطوقها الإبداعيّ تجسيدًا لقدراتها وطاقاتها وتمايزها ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا ودينيًّا وعقائديًّا من دون أن تُجنس لغتها وصورها، فإذا قرأنا هذا البيت لأعرابيّة أنشدت ابراهيم الموصلي قائلة:
وجدت الهوى حلوًا لذيذًا بديئه وآخرُه مرٌّ لصاحبِه مردي
نعثر على لغة لها قوانين كليّة عامة، أنتجت بتعالق مفرداتها تراكيب مشحونة بصور ودلالات لا يمكن تصنيفها في خانة الإبداع النسويّ، أو حصرها في جانب إنسانيّ خاص بالمرأة، لأنّ ما عبّرت به هذه الشاعرة اختزل أحاسيس ومشاعر كلّ المحبين، ووصّفت طريق الحبّ وإيجابياته وسلبياته، سواءٌ أكان المبتلى بالحبِّ رجلاً أم امرأة.
ليس الكلام على الأنواع الأدبيةّ التي كتبت بها الشاعرة العربيّة جوهر هذه الدراسة، بل الكشف عن القيمة الفنيّة والجماليّة لشعر تحفظه المصادر القديمة، و يشير إلى أنّ الشاعرة العربيّة القديمة كتبت في القضايا السياسيّة والإنسانيّة، وعبّرت عن انتمائها بصراحة وجرأة، وتناولت مواضيع في المدح والفخر والغزل، وكان من بين الشاعرات من صوّرن عمق تجربتهن الصوفيّة، وجسّدن في أشعارهن فكرة الحبّ الإلهيّ في محاولة للتعبير عن اتحاد الأنا الصغرى بالذات الإلهية العليا. وربما كانت رابعة العدوية وميمونة الأكثر بروزًا في هذا المجال، فلقد خاطبت رابعة الخالق بقولها:
أحبُّك حبين حبَّ الهوى وحبًّا لأنّك أهلٌ لذاك
فأمّا الذي هو أنت أهل له فكشفُك الحجبَ حتى أراك
جاء هذا الشعر الصوفي برهانًا ساطعًا على أنّ الإبداع الشعريّ حالة تفرد بعيدة عن التصنيف، إلا بقدر ما تضمر حالة التفرّد من خصوصية فنيّة وإبداعيّة، ففي مناجاة رابعة العدويّة دليل على أن شعر المتصوفين يكتبه رجل وامرأة، ودليلٌ على توقها إلى كشف الحجب ورؤية الخالق، وهذه رغبة ينشدها كل متصوف يعيش حالة روحيّة، ذكرًا كان أم أنثى، قديمًا أومعاصرًا . أليست لغة الحبّ هذه تعكس التوق والتعب في ذات المُحِب؟ أليست حروف البيتين عتبات إلى ملامسة حالة الجهد التي بلغتها رابعة من خلال تكرار حرفي الحاء والهاء؟
إنّ للشعر مفهومًا واحدًا مختزلاً في قدرة منتجه على تشخيص الأنا الإنسانية بكلّ تجلياتها وتشظياتها وميولاتها وانحرافاتها، وهذا يتناقض مع نظرية تجنيس الشعر، واختلاق فرضيات غير منطقية تقوم على تصنيف اللغة والموضوعات والقضايا الإنسانيّة الكبرى.
إنّ موقفنا من الفرادة الشعرية لا يلغي موقف المجتمع الذكوري من إبداعات المرأة التي ما زالت، حتى اليوم، سجينة التصنيف الاجتماعيّ، على الرغم من تقدّمها في مجالات فكريّة، وعلميّة ،وحضاريّة، وثقافيّة، لأنّ المرأة نفسها استسلمت للتصنيف ووجدت فيه لذة تغريها بخلق معارك وهميّة، فتعتقد أنّها تحقّق وجودها بالرفض والممانعة، وتضمن لها استقلالية مصطنعة. ولكن أيّ جديد تحصّلت عليه المبدعة العربيّة، اليوم، من تصنيف إبداعاتها؟ وهل استطاعت فعلاً أن تعبّر عن خصوصياتها من خلال هذا التصنيف؟ وهل حضور المرأة بخصوصية نسوية يفتح أمامها ملكوت البروز؟ وهل يتسم هذا الحضور بالإبداع الفاعل في تنشيط مسارات الخلق الفني؟ والسؤال الأكثر بروزًا أليست الخصوصية شكلاً من أشكال لإبداع؟
إنّ معايير الحكم على إنتاجات المرأة العربيّة المشاركة ،اليوم، في حركية الثقافة العربيّة لا تختلف عن المعايير التي تتحكم ، أيضًا، في تقييم ما يكتبه الرجل؛ لأنّ المشكلة ليست في جنس الكاتب بل في الظروف السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي القدرة على قبول الاستزلام والانبطاح، وفي نبذ القيم الإنسانية والأخلاقيّة التي تشجع العولمة على التحرر منها، وعلى تبني بدائل تمعن في تدجين المثقفين وترويضهم، وتزين لهم السعي وراء الإعلام والشهرة.
إذا كانت العولمة قد عطّلت بوصلة القيم، وتشوّه معها جانب من المنتج الثقافيّ العربيّ، فلا يعني ذلك خلو الساحات الثقافيّة، في هذه الحقبة من التاريخ، من فعل إبداعيّ سيبقى في المستقبل نابضًا بالولادة، وهذا الفعل تشارك في تكريسه شاعرات عربيات ينتمين إلى معظم الأقطار العربيّة، ويساهمن في تنشيط الحراك الثقافيّ بعيدًا عن التصنيف، لأنّ الفعل الثقافيّ في إنتاجهن يجسّد حالة تجلٍ إبداعيّة، ولا يعكس حالة تبعية واستزلام غايتها السعي وراء منصب أو مكسب أو بروز.
تظهر عمليات رصد لحركة الأديبات العربيّات، في هذه المرحلة من التاريخ، حضورًا مكثفًا على مستوى المحافل الثقافيّة والفكريّة، غير أنّ الظهور يأتي ملتبسًا في بعض الأحايين نتيجة قبول بعضهن الدخول في بازار التسليع والشهرة واستخدام لغة الحريم في التعبير عن ذواتهنّ وأحاسيسهن وعلاقاتهنّ، فيأتي العمل تسريدًا لوقائع وأحداث ومواقف، وعواطف ذاتية تتكرر صورها في معظم الإطارات المعادة التصنيع، أو يأتي المنتج الأدبي تحديًّا للرجل وسلطته المقموعة بسلطات أعلى، وأعتقد أنّ التحدي السلبي غير منتج، وربّما كان التحدي الصامت عبر الكلمة المرمزة والمشحونة بالدلالات والتأويلات خيرٌ من حرب مفتعلة لا وجود لها إلا في مبارزات مُفرَّغة من القيمة، تذكر الناقد/ الناقدة بنقائض جرير والأخطل والفرزدق. فالشاعر الحقيقي إنسان، والمرأة الحقيقية إنسان، وهموم الإنسان واحدة وكذلك تطلعاته وأحلامه وأماله وآلامه، والإبداع واحد، والتهميش أهدافه واحدة.
استنادًا إلى ما سبق لا يجوز لنا أن نستخدم مصطلح الشعر النسوي الذي أطلقه واقع غربيّ وسوّقت له امرأة، لأنّ ما تكتبه المرأة العربيّة المبدعة لا بدّ من أن يجسّد جانبًا من جوانب الفكر الإنساني التوّاق إلى التحرر من نمطية الصورة، والخارج على أشكال العجز والتخبط والندب والتبعية والتقليد والانبطاح ، بمعنى آخر إنّ ما كتبته المرأة المبدعة فوق التجنيس، فهو فضاء حرٌّ رسمت ملامحه أنساقٌ لغويّة، قوامها قوانين نحويّة وبلاغيّة وفنيّة تضافرت على توليد الصور والرموز والمعاني والدلالات، وهو حقيقة فنيّة لا يختلف، من حيث الطبيعية الجينية وقوانين تشكيل عناصره، عن أي نصٍ إبداعيّ أنجبته ذات خالقة؛ لأنّ الإبداع الحقيقي ما هو إلا بعضٌ من فيض ذات واعية ترفض تجنيس تجلياتها.
فرضت الشاعرة العربيّة القديمة نفسها إنسانًا يعي ذاته، ويدرك موقعه، ويعمل على تكريس وجوده ، فكانت ندًا للشاعر من دون أن تدخل في معارك جانبيّة معه، أو تعمل على تصنيف شعرها في خانات نون النسوة وتاء التأنيث، فتركت أدبًا إنسانيًّا راقيًّا، تفوّقت معه، في رأيي، على عدد من شاعرات معاصرات، بالغن في تجنيس شعرهن، ومن ثم توظيفه في حركة البورصة الأدبيّة، فجاء الشعر مع بعضهن صياغة مفرغة من القيم اللغويّة والإنسانيّة، في مقابل عدد لا بأس بها من شاعرات يكتبن بنبض وجعهن الإنسانيّ.
تشهد المحافل الثقافية حضورا مكثفًا للشاعرة العربيّة، وهذه فرضية يؤكد صحتها الإعلام المسموع والمقروء ودور النشر والملتقيات الشعريّة، وهذا الانتشار يصعب حدّه في سطور دراسة واحدة، غايتها الأساس تبني، أو إلغاء ما شاع من مصطلح ملتبس لشعر المرأة، ولذلك سيكون العمل على نصوص شعرية حديثة لشاعرات عربيّات معاصرات كتبن في موضوعات متنوعة، وبلغة إبداعية لا تقلّ شأنًا عن لغة الرجل/ الشاعر.
تركت الشاعرات العربيّات بصماتهنّ على حركية الشعر العربيّ الحديث، وبخاصة الرائدات اللواتيّ شاركن في تكريس مفهوم الحداثة الشعريّة العربيّة، كنازك الملائكة وفدوى طوقان وغادة السمان وغيرهن ممن كان لهنّ حضور بارز وفاعل، على الساحات الثقافيّة والأكاديميّة، غير أنّ هذه الدراسة ستقتصر على قراءة عينات شعريّة لشاعرات من المغرب العربيّ، لما أثبتنه من حضور فاعل، مع التقدير الكامل لكلّ مبدعة عربية لها حضورها في حركة الشعر العربيّ وتساهم في خلق النهضة القومية الجديدة المؤسسة على القيم والثقافة والأصالة، من دون أن يكون هاجسها البروز الإعلاميّ، لأنّها تؤمن بأنّ الآتي لن يحفظ إلاّ البذور النابضة بالحياة، وهذا ما أكّدتُه الدراسات النقدية المعاصرة، التي بدأت بإلقاء الضوء على شاعرات هُمشن على مرّ العصور، ولم يحظَ شعرهن بعناية الرواة، ومع ذلك حافظ شعرهن على نبضه في بطون أمات كتب التراث، وهكذا سيكون حال كل جميل وجديد ومبتكر، باحت به ذات أنثوية، أدركت قيمتها، ووعت جوهر إنسانيتها، فجاء منطوقها من الحياة وإلى الحياة، وكان له دور في خلق مسارات حركية، تتوازى وتتقاطع مع ما ينتجه الرجل العربيّ المبدع المتعالي على تقسيم وتصنيف ينالان من إنسانية الشاعرة المبدعة، لأنّه يؤمن بأنّ المرأة المؤمنة المبدعة شريكة له على درب الحراك الفكريّ والنهضويّ والقيميّ، وذلك عملاً بقوله تعالى:” والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…” [9].
بهذه الرؤيا يكون العمل على رصد طبيعة حركة المبدعة العربيّة الشعرية، وقيمة حضورها في طرح قضايا الإنسان العربيّ المعاصرة وسعيها إلى تعزيز هويتها وانتمائها، فتكون القراءة فنيّة وجماليّة بعيدة عن التصنيف والتجنيس .
ثالثًا: حركية الإبداع الشعريّ المعاصرة والحضور الأنثويّ
يعتقد بعض الدارسين أنّ لشعر المرأة في العصر الحديث خصوصيته، وتفصح آراؤهم عن تقدير ملتبس ومحاصِر، فيُلمحون إلى جهل المرأة بالتراث، وهذا الجهل ، في رأيهم، يجعلها مُقصِّرة عن إثبات وجودها، وأغفلوا ما يجيزه الواقع الثقافي العربي الخاضع لسلطة الامتيازات والمكافآت التي جعلت من الشعراء موظفين. ولكن سواء آمن بعضهم بالقيم والعادات والتقاليد أم لم يؤمنوا بها، فإنّ الإبداع الحقيقيّ، في رأيي، لا يجوز أن ينسلخ عن قيم صار القابض عليها كالقابض على الجمر، لأنّ ألم الاحتراق يصفّي الذات المبدعة، فتقرأ الحاضر وتستشرف المستقبل، من دون أن تنسلخ عن تراثها.
بهذه الفرضية أقرأ نتاج المبدعة العربيّة التي تكتب للإنسان، من دون مبالاة بالإغراء والتدجين والتغييب والإقصاء، لأنّ الشمس عندما يحين وقت شروقها تنزاح العتمة من أمامها، وهذا الإشراق مشروط بتوليد طاقة حياة، كمونها الأساس المعرفة، والمعرفة لا تبعيض ولا تجزيء فيها ، إنّها النور الكليّ الذي يضيء جوانب النفس بقبس قادر على الخلق والتجديد.
تظهر عملية رصد لحراك الشاعرات العربيات نوعًا من الزحام الذي تصرّ على تضخيمه مصطلحات تمعن في إقصاء نتاج المرأة الفكريّ عن مسيرة الثقافة العربيّة، وتغريها بتسميات تخدّر طموحاتها، وبعناوين عريضة تحقّق لها البروز والشهرة، فتنزلق بعض الأقلام إلى كتابة موضوعات مفرغة من القيمة الأدبيّة، فأي إبداع هذا يسرّد خصوصيات المرأة الحميمة بلغة تفتقر إلى مقوماتها وخصائصها التشكيلية والإبداعيّة؟
كشفت حركة الشعر العربيّ عن حضور فاعل لشاعرات تركن بصماتهن في مسارات الخلق والإبداع، ففرضت عائشة التيمورية نفسها على الساحة الثقافيّة، وكذلك فعلت زهور ونيسي وزليخة السعودي وغيرهن من اللواتي كنّ امتدادًا طبيعيًّا لكلّ مبدعة فرضت نفسها إنسانًا، يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع ، بدءًا بالشاعرة انخيدوانا ابنة سرجون وصولاً إلى مبدعات لم يلدن بعد.
يرى بعض النقاد أنّ مشكلة حضور المرأة تكمن في التركيبة الاجتماعيّة، وليس في تكوين المرأة، ولكنني أعتقد أنّ المشكلة لها بعدان؛ بعد اجتماعيّ، وآخر فردي، فالمجتمعات العربيّة مذ تشكّلت تمارس نوعًا من الحصار على المرأة وتصنّفُها في مرتبة أقل من الرجل القويّ الحامي للأنثى الضعيفة المحمية، فأسقطوا نظرة الضعف إليها على كلامها، وربما كان هذا سببًا في توصيف بشار لشعر النساء بالضعف بعد أن استثنى الخنساء التي رآها فوق الرجال، لأنّ الخنساء، في رأيي، كانت حامية نفسها ومحمية بنفسها، فامتشقت ذكرى أخوتها وتعالت بطاقاتها، فخلدتهم، وكتبت بعلاقتها بهم قانونًا أسريًّا قيميًّا.
إذا كانت هذه الرواية صادقة، فهي دليل ساطع على أنّ المبدعة تفرض نفسها، ولا تنتظر من يدعمها، فما هي، إذًا، قيمة ما تكتبه الشاعرة العربيّة في خانة التصنيف النسويّ؟ وهل يُعتبر خروجها على المألوف وفرضها القيم تجديدًا وتحديثًا أم للتحديث والإبداع شروط أخرى؟ وهل ما تكتبه الشاعرة العربيّة، اليوم، له خصائص ومقومات وأدوات وقوانين خاصة بالشعر النسويّ؟
يزخر المشهد العربيّ بأسماء مبدعات لهن حضور فكري وثقافيّ، ولا يتسع المقام لذكرهن، ولكن إذا حاولنا أن نتبيّن طبيعة اللغة التي استخدمتها الشاعرة فاطمة بوهراكة في التعبير عن تمردها المقيّد، نجد لغة بسيطة محققة قوانين التشكيل الجيني، من جهة، وغنية بالإشارات والرموز، من جهة ثانية، إذ تقول:
ألهو بالألم
أنسى ما تبقّى مني
أداعبُ جرحي
لأرسمَ وجهًا يشبهني.
صار للألم في شعر فاطمة وظيفة مغايرة أخرجته من دلالته المعجمية، وصار خدنًا وصديق لهو، تنسى بصحبته ما تبقّى من أحاسيس، وهنا ذروة التصوير النفسيّ لذات متألمة، لا تدرك معنى الألم، فصار الجرح دمية تداعبه فاطمة، وفي هذه اللحظة من الانسحاق النفسيّ تثور الذات على واقعها متنبئة بولادة قسمات جديدة تقبض على الأصل بقدر ما تتجاوزه” يشبهني”.
استخدمت الشاعرة في هذه الفقرة، التي جاءت خلاصة تمردها، أفعالاً مضارعةً ترسم متوالية دلالية، بدأت باللهو الذي يساعد على النسيان وتخدير النفس بمداعبة الجرح، لينتج عن حالة الاستسلام الإيجابية ولادة الرسم الآتي الذي تتخيله الشاعرة، فخدمت الحالة الإعرابيّة ترسيخ الصور والدلالات التي أنتجتها لغة فاطمة؛ فجاءت ثلاثة الأفعال الأولى مرفوعة كونها مسندة إلى حاضر تُمسك به، أما الفعل الرابع فقد كان منصوبًا بمضمر ليشير إلى مستقبل آت لا يحقق صورتها إلا بالتعب، وهذا المستقبل مُضمر في عالم الغيب.
إذا كانت السمة العامة لشعر بعض المتمايزات رفض السلطة الذكوريّة، فلقد استطاعت جميلة الماجري أن تتبادل المواقع مع الرجل لتسقط عنه هالة القداسة، وتلغي عنه سمة الإبداع وقدرته على الحب، فتخاطبه قائلة:
كبيرٌ عليك الهوى
وأكبر منك القصيدة
وأبعد عنك التماس النجوم
من الأمنيات البعيدة
وواحدة بين عصر وعصر تجيء
كلؤلؤة في الكنوز..
فريدة.
تقدّم الماجري صورة فنية رائعة، يظهر فيها الرجل مُبعدًا عن نبض كلمات الأنثى المبدعة المتفردة في حضورها ودورها الإنسانيّ المتفرد والنادر، هذا الدور يتجسّد في رفضها التبعية، وفي رفض نظم الشعر في من لا يستحق هواها، فألغت الصورة النمطية للمرأة الجسد الملهمة للشاعر، وصارت هي القابضة على حلبات التحدي، كونها تشكل حالة إبداع وتفرّد لا تتكرر، من دون أن تتلفظ بلفظة تحمل دلالة الأنا.
وفي قراءة سريعة لنموذج قصير من شعر زليخة أبو ريشة تستحضر فيه أنوثتها من خلال الذاكرة إذ تقول:
أمي رأت في منامي خطاي على غير دربي
فصاحت لأصحو ولم أكُ بعدُ غفوتُ …
…
رأت في المنام النجومَ على راحتي فخافت
ولم تكُ تعرف أني حرقت يدي
لتعلو فوق النجوم يداي
نجد الشاعرة تكرّس الأنا المبدعة لحظة التجلي حضورًا غريبًا ومدهشًا، حضورًا أشبه بالحلم، ولكن من دون استسلام للنوم، لأنّ الإضاءة الحقيقية لكتابة إبداعيّة لا تكون إلا باحتراق طوعيّ تطلبه ذات تكرر حضورها، في هذه الأسطر القليلة، أثنتي عشرة مرة بالضمير المتصل والمستتر، وهذا العدد له رمزية دينيّة، تم توظيفها من خلال علاقة لا يمكن القبض عليها بين الوعي واللاوعيّ، إلا في لحظات الشطح الإبداعيّة.
تشير هذه القراءات إلى أنّ لكلّ من فاطمة وجميلة خصوصيتها في التعبير عن أفكارها، وعن علاقتها بذاتها، أولاً، وبالآخر المغاير، ثانيًا، وكذلك كان لزليخة خصوصيتها في ما أوردناه من شعرها، فلقد لخصت في سطور قليلة موضوعًا نقديًا ما يزال مبعث جدل ونقاش، فالإبداع ، في رأيها، يولد في لحظة منفصلة عن الذات الواعية المُهيَّأة للنضوج، والقابلة احتراقًا يطهر، فيكون المولود غريبًا ومدهشًا.
لم تتوقف الشاعرة العربيّة المعاصرة عند حدود همومها، بوصفها أنثى عربيّة محاصرة تبحث عن حريتها، بل رصدت القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة فعبّرت عن علاقتها بالمكان الذي تنتمي إليه، ورسمت لوحات ناطقة بالتحولات المؤلمة في جسد مدن تغيّرت أسماؤها، فجاء رفض الشاعرة منيرة سعدة خلخال سؤالاً استنكاريًّا يضمر الاحتجاج على كل من تناسى اسم مدينة “سيرتا” وساهم في ترويض وجهها على الاستتار والتخفي وراء اسم جديد أخرسَ نبضَ أصالتها، وأدمى قلبها، وحاول إفناءها، وإحراق معالمها التي كانت بالنسبة إلى الشاعرة الكون كلّه:
من يذكر سيرتا؟
من علّمها كلّ هذا الاختفاء؟
من أخرس الوهج في دقاتها؟
من سمح بتقطير الدفلى في عروقها؟
من انتحل زرقة صباحاتها و أدماها؟
ثم من أفناها؟
و أضرم في الكون كلّ هذا الحريق؟
عبّرت منيرة عن ارتباطها بأصالة مدينة، فقدت كلّ شيء حتى اسمها، فسيرتا صارت منسية، يحجب معناها الجوهري اسمٌ جديد، أطفأ وهج دقاتها وأخرسها، فرسمت الشاعرة وجعهها وقلقها على مدينتها بأسلوب استفهاميّ، أدواته لغة سهلة وبسيطة من حيث المعاني المعجميّة، ومتماسكة من حيث التركيب، وغنيّة بإشارات وطنيّة وقوميّة، من حيث القصدية، فالمدينة التي أحبتها منيرة، والتي ماتزال فاعلة في وجدانها، تفقد وجهها، ولذلك ترفض، بالسؤال الاستنكاريّ، تشويهًا مقصودًا، فرضه ماضٍ كان قادرًا على التغيير، وترفض معه الخضوع لسلطة غير موجودة إلا في أذهان الخانعين والمستسلمين، ومن ثم تدعو إلى أن تكون مدينتها قضية اجتماعيّة وإنسانيّة ووطنيّة تحرّض على السؤال والبحث عن الحقيقة واستنباط حلول تنبثق من أصل ثابت راسخ، فيتحوّل الحريق إلى رماد فينيق جديد.
يشير نتاج شاعرات المغرب العربيّ إلى اهتمامهن بقضايا المدينة والوطن والقوميّة العربيّة، هذه القضية التي شغلت حيزًا رئيسًا من وجدان الشاعرة العربيّة، التي أكّدت إنتماءها إلى مد قوميّ عربيّ، تتآكل وحدته تحت لعاب سلطات وحكومات، لا تؤمن بشعوبها، وتمعن في تجويعه وإذلاله، ليبقى مشغولاً بلقمة العيش عما يُنفق و يُبذل من أجل تعزيز سلطات القمع والترهيب، وكانت الشاعرة ربيعة جلطي ممن رفضن بشعرهنّ ممارسات القمع والتجويع، وحمّلت، بجرأة، الزعماء العرب مسؤولية الهزائم، فاستحضرت في شعرها نوحًا “عليه السلام”، لما له من رمزية دينيّة وزمنية فتقول:
يا نوح، فقراء هذا البلد نحن
نكتب أسماءنا بالدم عن نهر ملوية والأطلسي
نرسم الشمس وجهًا جميلاً
نغني… نغرق في قصعة دم نصير
وهذي الأرض الكروية الهاربة إلى نفسها
تشوى…تُشوى…تُشوى
تنضج …تنضج في كرش الأمير.
إن توظيف اسم النبي نوح في القصيدة له دلالات كثيرة، نذكر منها دلالة العمر الطويل الذي عاشه نوح، ودلالة النبوة وما توحي به من إيمان مطلق غير قابل للشك، فقدمت بطريقة فنية بارعة صورة حقيقيّة عن نظرة بعض الحكّام لإلى أنفسهم وإلى شعوبهم، فهم يعشقون العمر الطويل على الكراسي، ويأملون أن تبقى علاقة الشعوب بهم علاقة إيمان مطلق، غير أنّ المفارقة الأساس أنّ تابعي هؤلاء الأنبياء/ السياسيين فقراء يتألمون، و يحلمون بالحقيقة، و يصارعون من أجل الرغيف، وهذه صفات لا تتوافق والشعب السائر وراء نبي يعزّز إنسانية تابعيه، ويشاركهم الجوع والبرد والعطش، أما الحكّام فلقد ابتلعوا خيرات الأرض وتركوا الشعوب جائعة.
يشير هذا الترميز إلى جرأة الشاعرة التي لا تقبل أن تكون رقمًا في قطيع المطبلين والمزمرين، وهذا موقف يقصّر عنه شعراء ارتضوا أن يكونوا أبواقًا، فأيّ خصوصية حريمية في هذا الشعر؟
شاركت الشاعرة العربيّة في تنشيط حركة المد القوميّ، وجاء منطوقها الشعري مفعمًا بالرفض لزمن عربي توالت النكسات فيه نتيجة الانشغال بثرثرة جعلت من البطولة العربيّة أثرًا في متحف، فتعلن زينب الأعوج كرهها حالة الجبن التي تسيطر على من سموا أنفسهم حكماء وتتنبّأ لهم بمستقبل واهن وضعيف، فقرأت الواقع واستشرفت المستقبل قائلة:
لا تسألوني عن الزمان..سادتي
فكثرة الكلام صارت ثرثرة
والفتيلة قلّ من يوقدها
فلا تبكوا الهزيمة …سادتي الحكماء
فالسيف صار تحفة تُزار
لا تسألوني فقد كرهت جبنكم
تظهر الطبيعة التركيبيّة النحوية تحرّر الشاعرة من الخوف، ومن سلطة الحكّام، فجاء الأسلوب طلبيًّا بصيغة النهي، والنهي يكون من الأعلى إلى الأدنى، فهي المتحررة من التبعية والاستزلام، والقابضة على وهج المعاناة تجد نفسها أكثر حرية من حاكم تخلّى عن دوره الوطنيّ، وانشغل بأحاديث لا قيمة لها، في وقت تمسّكت فيه الشاعرة بالكلمة الحرة الرافضة المتنبئة بما سيكون عليه المستقبل، إذا استمر الواقع العربيّ في خنوعه واستسلامه، وتُفصح عن كرهها لهم.
أما مبروكة بو ساحة فلقد باحت من خلال شعرها بعمق انتمائها القومي والعربيّ، وأعلنت موقفها من القضية الفلسطينية بجرأة وإيمان، فراحت تناجي الجزء المسلوب من أرض الآباء والجدود، آملة بالثأر ومتنبئة بالتحرير، مستخدمة لغة بسيطة وإيقاعًا خفيفًا كأنّها تأمل لخفته أن يعبر بصوتها إلى أرض فلسطين، لتخبرها عن وجدان الشعب العربيّ الجزائري، وبأنّ فلسطين هي القضية الأساس والمحوريّة لكلّ عربيّ حر، لعلّ هذا الصوت المناجي يبشّر الأرض المقدسة بوعد التحرير والخلاص:
يا ثرى كالمسك طيبًا عابقًا خلف الحدود
ضمخته بدماها قبل أبائي الجدود
أي طهر دنسّته فيك أرجاس اليهود
أبدًا لن نترك الثأر ولن ننسى حمانا
لن نذوق النوم حتى تتلاقى قبلتانا
….
يا فلسطين بلادي يا فلسطين الحبيبة
إن أيام التلاقي أصبحت جد قريبة
لن تعودي مثلما كنت فلسطين السليبة
تجسّد مبروكة بو ساحة ظاهرة شعرية تجمع بين الأصالة والحداثة، فهي إذ تستخدم الأوزان الشعريّة التقليدية، فإنّها تبني قصيدتها على أكثر من روي، وتستخدم تراكيب لغويّة، سمتُها الأساس النداء، بوصفه أسلوبًا كلاميًّا، غايته طلب المنادى والإقبال عليه، لتبلّغ المنادى / فلسطين شعورها ورؤيتها المستقبلية، التي أكدتها بحرف تأكيد ” إنّ أيام التلاقي…” وبتكرار حرف نفي” لن” الذي يفيد نفي الحدث في المستقبل ويشير إلى رغبة الشاعرة في إعلان طبيعة العلاقة الوجدانيّة بين القضية العربيّة المحوريّة و” أنا” الشاعرة المتكلمة بـ” نحن” العربيّة الرافضة الاغتصاب والساعيّة إلى استعادة الأرض في مستقبل قريب.
تمايزت لغة مبروكة في الأبيات السابقة بالجزالة اللفظيّة، وبالعمق الدلالي، وبالرؤيا المستقبلية، ونقلت المتلقي ببيت شعر واحدٍ إلى زمن شعريّ عربيّ أصيل إذ تقول:
ما في يدي غير أشواقي أقدّمها وقيمة الواهب المحروم ما وهبا
فكيف نستطيع تجنيس شعرها وشعر مبدعات رسمن نبض الجراح بلغة اتسمت بالجزالة اللفظية، وبالدقة النحويّة وبالعمق الدلالي؟ فالإبداع إبداع سواء أكان منطوق شاعرة أم شاعر.
خامسًا: نتائج ورؤى
استنادًا إلى الفرضيات والمعطيات يمكن القول إنّ عمليات الرصد لواقع الشاعرة العربيّة، توحي بأنّ المشكلة الحقيقية تكمن، أولاً، في عدم ثقة الأنثى بموهبتها، وبموهبة بنات جنسها، وهذه الفرضية تؤكدها محاولات تهميش بعض الأديبات ما تكتبه الأخريات، لتحصر الواحدة منهن الخصوصية الشعرية في أعمالها مجتمعة، وثانيًا، في تعدد السلطات التي تمارس هيمنتها على حضور المرأة الثقافيّ، وربما كان أكثرها سوءًا ما يمارسه الرجل على المرأة من تهميش وتغييب وإلغاء لدورها الشعريّ لأسباب كثيرة، أهمها عقدة التفوق، فوقعت الأنثى المبدعة تحت سلطتين؛ سلطة الموروث الذكوري القابضة على وسائل النشر والإعلان والإعلام، وسلطة الموروث الأنثوي بكلّ سلبياتها، وبخاصة ما ارتبط منها بسلطة تغري المرأة بالانقياد وراء عواطفها، وتزيّن لها استسلامها، وتشجّع انبهارها بالمظاهر، وتعزز لديها غريزة البروز، فتكون النتيجة تغييبًا تامًا لدورها الإبداعيّ، وحصره في خربشة أساليب مبتذلة، تضمن بها موقعًا لا يليق بأنوثتها وإنسانيتها.
لا إبداع من دون حضور فكريّ وثقافيّ وإنسانيّ يتكامل فيه صوت المرأة والرجل في خلق سمفونية الحياة بعيدًا عن التجنيس والتصنيف والتمييز، وهذا ما أثبته بقاء إبداعات المرأة الجزائرية واللبنانيّة والتونسية والمغربيّة والسورية والأردنيّة والعراقيّة والسودانية والبحرانيّة والعمانية والموريتانية وغيرهن، هذه الإبداعات التي فرضت نفسها بذرة حياة على الرغم من الممارسات الخاطئة التي دفعت ببعض صاحبات الأقلام المبدعة إلى العزلة والصمت، فكتبن لآتٍ مجهولة سمات متلقيه.
إذا كان الاقتناع بفرضية تقول إنّ للمرأة خصوصيات تترك بصماتها في ما تقوله فإنّ هذه الفرضية قابلة للنقض، لأنّ المعطيات تشير إلى أنّ القضايا التي تشغل المبدعين والمبدعات واحدة، ولا يمكن تجزئتها وتصنيفها إلاّ وفق ما تفرضه معايير الأجناس الأدبيّة وخصوصية الخلق الفني الإبداعيّ ، ووفق قدرة المبدع أو المبدعة على توظيف المخزون الثقافيّ وبخاصة اللغويّ، وبالتالي لا يمكن أن ترتبط نظرية الأدب النسويّ بمعايير نقدية مختلفة عن المعايير التي يتمّ بها قراءة إبداعات الإنسان/ الرجل.
أظهرت النماذج القليلة التي كانت عينات منتقاة للدراسة والتحليل أنّ الشاعرة العربيّة كتبت في موضوعات كثيرة وبرعت في استخدام اللغة وتوظيف رموزها وتفعيل موروثها الثقافيّ، فأتثبت، في رأيي، جدارتها وأحقيتها بهذا الإبداع وحين نعود بذاكرتنا إلى الوراء نجد أن هناك شاعرات عربيات استطعن أن ينافسن الرجال بل ويتقدّمن عليهم في أحايين كثيرة.. والمرأة العربية، اليوم، لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها، فهي قادرة ،أيضاً، في هذا العصر الموسوم بالحداثة والتحديث أن تشقّ طريقها إلى فضاء التمايز، وأنّ تحقّق مكانتها الأدبيّة بعيدًا عن الدخول في دهاليز التصنيف والتجنيس، فهي إنسان قبل أن تكون أنثى.
إنّ تجنيس الشعر يتناقض ومفهومه الرؤيوي ويُضعف من دوره في خلق مسارات حركيّة، تؤسّس لها لغةٌ خارجة على التقسيم والتصنيف والتجزيء، لغةٌ قادرةٌ على موضعة فيض الفكر من جهة، وتفييضه من جهة ثانيّة، أي لغة تقبض على سيولة الفكر غير المرئية وغير القابلة للقبض إلا باللغة عينها، في لحظة زمنية يفيض الفكر من ذاته ولذاته لأسباب خارجة على سلطة الآن، وعلى الرقابة، وعلى الأين والكيف والمتى، فيولد الشعر على غير مثال، فتمنحه هويتَه وشخصيته المستقلة خصوصيةُ التشكيل الجيني لعناصر اللغة التي بها وحدها يكون تصنيف النصوص في حركة الشعر المُجدِّدة نفسَها وبنفسها بفضل طاقات إبداعية يمتلكها الإنسان العربيّ، ذكرًا كان أم أنثى، فتسقط مصطلحات تسيء إلى رسالة الشعر الإنسانيّة/ الكونيته، وتجلّى القيمة الفنيّة في المعاني والمفاهيم والأنساق المتمايزة التي بها وحدها يبقى الشعر ومضة فكر خارج على التصنيف والتجنيس.
[1] وضعنا هذا التعريف في كتابنا ” هدم وبناء”
[2] – أبو الفرج، الأغاني،
[3] -جلال الدين السيوطي: نزهة الجلساء في أشعار النساء ،تحقيق :عبد اللطيف عاشور.
[4] – أنيس المقدسي، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، دار العلم الملايين، بيروت، لبنان
[5] – رضا ديب، طرائف النساء، دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان
[6] – روز غريب: ، نسمات وأعاصير في الشعر النّسوي المعاصر.
[7] -، سعد بوفلاقة، الشعر النسوي الأندلسي،دار الفكر العربيّ، بيروت.
[8] – مي يوسف خليف، الشعر النسائي في أدبنا القديم، مكتبة غريب، القاهرة.
[9] -التوبة 71.
*******************
(*) أستاذة الدراسات العليا-الجامعة اللبنانيّة، أمينة المجلة والنشر- اتحّاد الكتّاب اللبنانيين.
كلام الصور
1- رسم للخنساء بريشة جران خليل جران
2- غادة السمات
3- زهور ونيسي
4- زليخا سعودي
5- جميلة الماجري
6- منيرة سعدة خلخال
7- ربيعة جلطي