عاما بعد عام يتوسع الاحتفال في مناسبات لم تكن لها هذه المكانة في الوجدان الشعبي العراقي، بل لم تكن معروفة كما هو بعيد الحب الذي صار يشهد احتفالات سنوية حاشدة. كما ان احتفالات رأس السنة تزداد بشكل كبير جدا، وخصوصا ليلة الاول من عام 2018، حيث يجري الحديث عن 6 ملايين محتفل في بغداد العاصمة.
وتؤكد الصور المنقولة عبر البث التلفزيوني المباشر من بغداد والموصل بل وحتى من المدن المقدسة كربلاء والنجف، ان هناك حالة انفجارية لظاهرة الاحتفال والاحتفاء. ومع التأكيد على ايجابية الفرح واهميته في اعطاء جرعة منشطة لحياة شعب مثقل بالاحزان والهموم، ويستفيق كل يوم على صراعات سياسية ومشاكل اجتماعية وامنية، نحاول من زاوية التحليل الاجتماعي والنفسي للظاهرة ان نستشرف محركات هذا الفعل الاجتماعي المهم.
لا شك في ان هناك انزياحاً كبيراً من منظومة القيم المتعلقة بتقييم السلوك الاجتماعي وهذا الانزياح، تمددت عليه مساحة الحريات الشخصية الفردية والجماعية، وان مفهوم البراني والجواني في تقسيم محلات حركات الافراد حسب الجنس لم تعد في محلها السابق، بل ان البراني تمدد بشكل كبير جدا، بحيث ان ظهور الاسرة، حتى من الطبقات الفقيرة، صار شبه ضروري في هذه المناسبات، وان حالة الاعتراض او المنع لاي تمدد للبراني صارت تجابه بشكل مباشر بمحاججة مفادها ان الجميع في الخارج وان الامر اعتيادي وهي ليلة واحدة او يوم واحد وتنتهي الامور.
هذا الكم الذي يعيش هذه الليلة ربما سلوكا يقارب الجنون، من حيث طبيعة الفعاليات والأمور التي يقوم بها، يدرك جيدا ان قطيعة مباينة تنتظره في صباح الغد ليعود الى نسق مختلف من العيش منفصل في صورته عن تمدد البراني حد الاجتياح الكامل للجواني.
لاي مختص مطلع على بنية المجتمعات المجاورة للعراق وخصوصا في بلاد الشام وتركيا وايران يعرف ان مفهوم سهر العائلة حالة يومية وان هناك فسحة للاحتفال والاحتفاء مرة واحدة في الاسبوع على الاقل، بحيث يجري الحديث عن السمر والسهر مع مختلف الاعمار ولكلا الجنسين، ولو على ابريق شاي او كاستين من المتي فالهم هو الجلوس والحديث والسمر والتأخر ليلا لساعات طويلة وهو تقليد او نمط عيش غير معهود في المجتمع العراقي على النحو المستقر كعادة ثابتة ونمط اسري ولذلك فان هناك نمط الاحتفالات في تلك البلدان لا تكون محفوفة بتوتر فوات الليلة بل هناك استقرار نفسي بوجود متسع للسمر والسهر في كل ليلة.
تدعو هذه السطور الى سهرة العائلة وسمر الاحبة بحسب الضوابط والقواعد الصحيحة، والتي تعني فرصة ذهبية لتوسيع ساعات الفرح والاسترخاء، وكذلك مساحة لتوطيد الصلة والاستماع المتبادل، ولتحويل الجواني الى فسحة استرخاء دون ان يكون بمثابة معتقل كبير. وينعكس هذا الامر على معالجة ظواهر سلبية طويلة الذيل تسري في مجتمعنا كالنار في الهشيم، بحيث سيجد الجميع ان الاحتفال في مثل هذه الايام ضمن سياق حالة الحياة الاعتيادية المتخللة بالاسترخاء ولحظات من السمر الجميل، وتخف شحنة الهوس في لحظات يعدها الكثير فرصة العمر الاستثنائية التي ينبغي الا تفوت مهما كان.