(في هذه اللوحة التي أعمل فيها والتي سأطلق عليها اسم (الغورنيكا) وفي كل الأعمال التي ستليها، أنا أعبّر وبكل وضوح عن مقتي واشمئزازي من الفرق العسكرية التي أغرقت إسبانيا في بحر الآلام والموت) ((بيكاسو)).
وأنت تنسلخ في لحظة سهو عن واقعك هاربا نحو مديات الخيال ، لتتجرد ممّا علق في ذاكرتك وأسبغ رؤاك من أحداث ووقائع ومآس ، فتجد نفسك ذاك الانسان الذي خلقه الله كما يشاء هو ، ببياض روحك ونقائك وجسدك الندي ووجهك النضِر الذي فيه العفة والبشاشة مرسومتان على المحيا ، والبسمة تملأ الشدقين ، يتنفس حبا ودفئا وهواء نقيا ، تغمره السعادة وهو يتوق لاكتشاف الحياة وجمالياتها ، فيمشي ممشوقا وعلى رؤوس أصابعه فيبدو وكأنّه متأهبا للطيران وان الأرض لا تتسع لفرحه وآماله ، ذات مرة يتمنى أن يكون عصفورا على أغصان الأشجار أو طائراً في أعالي السماء يتنقّل من بستان الى آخر ومن كرمة الى أخرى ، يعبث منقاره الرهيف بثمار الكروم والتين ، يغني مفتونا بعطر الرياحين ، يزغرد بعلو صوته ليثير انتباه من حوله أو يكسر خلوته ليسمع تغاريد وزغاريد أخرى ، فيغدو البستان مكانا للفرح والزهو والاحتفاء والبهجة .
الانسان طائر في أحلامه وأمانيه يحب الجمال والانشراح والغبطة ، يعشق النسيان والسهو في زمن الصحو والافاقة على أصوات الضجيج والانفجارات والغزو .. وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها وبدون مقدمات ، في لحظات المجازفة والشرود الذهني والاعتباط يرفض أن يكون مؤدلجا وأسيرا ورهينة للرموز ومتاهات الأيدولوجيا والزعامات والولاءات ، هذا الانسان الطائر الراقص المغرد يرفض أن يوظيف كدابة في سوق الرخص الآيدلوجي والسلطوي ، رائحة الخنوع والتابعية تزكم أنفه المليء بعطر البساتين وزهر الليمون ، لا يسر ناظره سوى العنب الناضج المهيأ للعصر والتعتيق ليغدو شرابا للإنسان الاله ، لقد زهق من أصوات المدافع ودوي الانفجارات ومنبه سيارات الاسعاف ، هذا الانسان فاضت جروحه وأصبحت المدن مصيدة له ، المدن المحن الكوارث الموت المحتم ، أراد هذا الكائن الذي يسمى الانسان الساهي الشارد بذهنه أن يعيش البدائية بكل عفويتها ونقائها وبساطتها الذي لم تغره البطولات ولا سيوف الذهب وجرار الفضة ، زهق من سلطة الرموز ومسلات القضاة وتعاليم وارشادات الاطباء والدفاع المدني .
كان الوطن قطعة من سماء عندما كنا نراه ونحن صبية هكذا .. صغار في مرحنا وأحلامنا .. لا نحلم الا بثياب جديدة نلبسها في الأعياد والأعراس ، نشتري الدفوف والطبول والألعاب النارية لنتسلّى بها ونمارس صبانا وطفولتنا ، اليوم علينا أن : لا نحلم .. وان حَلمنا فعلينا البحث عن وطن أضاعه أخوة يوسف ، وعلينا شراء البنادق والذخائر لنستعيده ، ولابد أن نكون مهرة في نزع الأسلاك عن العبوات الناسفة ، وعلينا أن نحفظ أناشيد الحماسة .. وأن نحتفل بالموتى كما كنا نحتفل بالعرسان وأعياد الفطر والأضحى …. نعم هي طقوس ( غورنيكا ) وتعاليمها ودستورها الذي لا مفرّ من طاعته والتقيّد بنصوصه ومواده ، وأولها :
الغناء .. حرام ويخدش الحياء وفيه ضرّ للاذن الوسطى
اللعب .. عبث من عمل الشيطان
ارتياد الحدائق .. هزوٌ من الحروب المقدسة
القراءة .. حالة تمرد ومحاولة انقلاب على الحكم
المشي على الأرصفة .. ازدراء للأنظمة لا تخلو من اصطفاف للاحتجاج والتظاهر .
الأجهزة المرئية والمسموعة وقراءة الصحف ..وسائل تنافي حقوق الانسان لمساعدتها له بتأجيج مشاعره وأحلامه ويقظته بما يجري حول العالم والاطلاع على حياة البشر ، واداركه للظواهر الكونية والطبيعية والتحسب لها .
(غورنيكا) كم كنت جميلة قبل أن تلبسي بدلتك الكاكي ، وقبل أن تسّير في شوارعك أرتال العسكر وخيول الشرطة ، كم كان هواءك نقيا معطّراً بالأمان والسلام ، كم كان ماء جداولك عذبا قبل أن تتفسخ فيه الجثث المجهولة ويصبح مرتعا للقطط وللكلاب السائبة .
أيها الانسان العصفور كفّْ عن الرقص والأهازيج والتغاريد والسهو فقد تلبدت سماء ( غورنيكا ) برائحة الدخان والبارود والأمطار المكهربة .
هل من سهوٍ يفك عقدة الأحلام ؟
هل لأخوة يوسف أن يعيدوا الوطن ؟؟؟؟
11- 12- 2017