لتكُن بداية قيام الجمهورية الثالثة
مع انتخاب مجلس نيابي جديد يأمل عهد الاصلاح والتغيير ان يتمكن من بناء دولة الاستقلال، انطلاقا من مقدمة الدرستور، وما استهل به من وثيقة ميثاقية للوفاق الوطني، والتقيد الحرفي بنصوص الدستور وتنفيذه بندا بندا.
سنة اولى من العهد الجديد مرت دون مقاربة حتى المادة الأولى من الدستور. تلك التي غيرت اساس النظام اللبناني، منذ انشاء دولة لبنان الكبير، واناطت السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء مجتمعا، وعلى الرغم من انقضاء ربع قرن على التعديل الدستوري، لا تزال السلطة التنفيذية تتنقل في اوضاع متلبسة، حتى مجيء حكومة اتخذت شعار استعادة الثقة، بعد فراغ رئاسي طويل وتمديدات متكررة، وغير شرعية، لمجلس النواب، وشلل تام في المؤسسات والادارات العامة.
الانتخابات المقبلة، في ايار 2018 ، ستجري على اساس جديد فيه شيء من النسبية، قد تغير معالم الحكم, فيعمد الى تنفيذ ما ورد في خطاب القسم، بتطبيق الدستور نصاً وروحاً، وارساء الجمهورية الجديدة على قواعدها الاساسية التى اقرتها وثيقة الوفاق الوطني، وبذلك ينتقل لبنان بالفعل من اللآجمهورية الثانية، بعد الاستقلال، الى جمهورية ثالثة بالفعل. جمهورية لم نعهدها من قبل لأننا لم ندرك اي جمهورية دستورية، بل مررنا في شبه جمهوريات هي أقرب الى مزارع، ترعاها عشائر وقبائل ويستغلها سماسرة وفجار.
في بعض العهود السابقة، وفي ظروف مفاجئة ومستغربة، قامت محاولات جدية، لبناء دولة الاستقلال، وفقا لدراسات علمية وضعها خبراء كبار، في الاصلاح الاداري والانتظام السياسي، كما “يقول الكتاب”، اي الدستور والقوانين. ولكن قوى الأمر الواقع، التي بنيت على الاستغلالً والفساد، كانت اقوى من التغيير والإصلاح. وظلت تسرح وتمرح في جمهورية متفلتة من اي دستور واية قوانين.
اليوم، وبعد ربع قرن على اقرار الدستور في صيغته الوفاقية الميثاقية، تستشعر البلاد انها في مناخ يؤمّل ببزوغ فجر الجمهورية الثالثة. جمهورية لم تتحقق في العهود الماضية، إما لأن الرئيس الذي جرى التعديل في عهده، كان قد اقسم اليمين على الدستور السابق الذي انتهى، فوجد نفسه غير مقيد لا بهذا ولا بذاك، واكتفى بصيغة حكم تنقل دويلات الشارع الى داخل الدولة، فاقامت متاريسها في مجلس الوزراء. في وقت كانت سلطة الوصاية تهيمن على كل السلطات، تجيء بنواب جدد بالتعيين وليس بالانتخاب، وتفرض قوانين انتخابية استنسابية تأتي بمجالس معلبة. ونتهك مبدأ الفصل بين السلطات، باستنباط سلطات متشابكة، سُمّيت الترويكا: من رئيس شرفي ينعم بحق التوقيع، ورئيس حكومة يختزلً السلطة التنفيذية، وآخر يختزل السلطة التشريعية… فلم تعرف كل تلك العهود، سلطة تنفيذية في مجلس وزراء مجتمعاً، ولم يتمكن مجلس النواب من ان يضع قانونأً للإنتخابات يحقق التمثيل الشعبي، ولا تحققت الاصلاحات السياسية التي اقرت، كاعتماد اللامركزية الادارية والانماء المتوازن، وسواها…
بقيام الجمهورية الثالثة يبدأ بناء الوطن. في صيغته المتكاملة، وفق خريطة طريق محددة في الدستور وأهمها :
– لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.
– تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء مجتمعا، مع الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، – تحديد صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وصلاحية الوزير.
– تعديل قانون الانتخاب، بزيادة عدد أعضاء مجلس النواب: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، نسبياً بين طوائف كل من الفئتين، ونسبياً بين المناطق. وتكون الدائرة الانتخابية هي المحافظة، بعد إعادة النظر في التقسيم الاداري، ومراعاة القواعد التي تضمن العيش المشترك، وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله… ومع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.
– إنشاء مجلس دستوري، لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين. ( ليس بالنظر فقط في الطعون التي تقدم اليه بحدود ضيقة).
– انشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية… تأمينا لمشاركة ممثلي مختلف القطاعات في صياغة السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. ( وق انشيْ وعُلق، وقام من تلقائه بدراسات لم يؤخذ بها).
– اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة، وتوسيع صلاحيات المحافظين… تسهيلا لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً.
كل هذه التعديلات الدستورية إما انها لم تتحقق، او ان ما تحققق منها جاء مخالفا للغاية منه، مما استوجب عقد ندوات حوار وطني تحت سقف البرلمان، او في القصر الجمهوري، بين أقطاب “الصف الاول” تناولت أهم القضايا التي يقتضيها احترام الدستور، ولكن هذا الحوارات لم يتناول الاسباب التي حالت دون تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني ولا مشكلة عدم الالتزام بتطبيق الدستور تطبيقا كاملا ودقيقا. فيستقيم بناء الدولة ويتمكن رئيس الجمهورية، وهو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، من ان: يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته، وهو المؤتمن الأول على ذلك. بقسمه اليمين.
ماذا تحقق من وثيقة الوفاق الوطني، وافسد العمل به؟…
قيل ان اهم التعديلات الدستورية قامت على انتزاع صلاحيات الرئاسة الاولى واعطائها الى رئاسة الحكومة. والصحيح ان وثيقة الوفاق الوطني قد حصنت مقام رئاسة الجمهورية وجعلها رئاسة دولة، فرئيس الدولة ليس رئيس سلطة معينة بل رئيس كل السلطات. وبصلاحيات كبرى. فرئيس الجمهورية هو الذي يعين وحده رئيس الحكومة، بعد استشارات نيابية ملزمة تعفيه من تبعات اعمال غير صائبة للحكومة، وله السلطة المطلقة في تأليف الحكومة، اذ لا تتألف حكومة من دونه، ولا يفرض ان يكون له وزراء هو يسميهم، بل يكتفي بان يحدد من لا يرتضيه في الحكومة، ممن لا جدارة لهم او هم من اصحاب السوابق في استغلال المناصب لمنافع خاصة، او في اعمال ملتبسة. ومن صلاحيات رئيس الجمهورية ايضا، انه يستطيع حضور جلسات مجلس الوزراء، ساعة يشاء، وله وحده الحق في أن يطرح أي موضوع من خارج جدول الأعمال، كما له ايضا أن يرد أي قرار يتخذه مجلس الوزراء ليُعاد النظر فيه. او ان يطعن به امام المجلس الدستوري. كما أُعطيَ، وهي ظاهرة غريبة، ان يرد الى مجلس النواب أي قانون يقره، فيلزمه في اعادة درسه واقراره باكثرية مطلقة. كما يستطيع ان يوجه الرسائل الى مجلس النواب، في اي موضوع هام، فيُلزمه بالأولية في طرحه ودرسه والتصويت عليه.
صحيح ان السلطة التنفيذية صارت منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، ولكن مع التشديد على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، كما حدد الدستور صلاحيات رئيس مجلس الوزراء بأنه رئيس الحكومة يُمثلها ويتكلم باسمها، (فلا يتكلم باسمه الشخصي وولا يقوم بأي عمل لم يقرر او يتفق عليه في مجلس الوزراء) ويعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. ومن صلاحياته ان يتابع أعمال الادارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء، بعقد جلسات عمل مع الجهات المعنية في الدولة وإنما بحضور الوزير المختص… وصار الوزراء هم الذين يتولون إدارة مصالح الدولة، وانيط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين كل وزير بما يتعلق بالأمور العائدة الى إدارته… ويتحمل التبعات تجاه مجلس النواب.
كما فرض على مجلس الوزراء، وقد اصبح السلطة التنفيذية، ان يجتمع دوريا في مقر خاص. لا عندما تدعو الحاجة، مرة في قصر هذا ومرة في سرايا ذاك. والمقصود بالمقر الخاص ان يكون سرايا الحكم، يتمتع بنظام داخلي تام وجهاز اداري كامل، له مديريته العامة المستقلة، وامانة عامة قادرة على التنسيق بين مختلف الوزارات وتفعيل العمل بين مختلف الادارات العامة… وهذا ما لم يتحقق، وشكّل التقاعس عنه انتهاكاً للدستور، واستخفافا بمجلس الوزراء عند تخصيصه، في وقت مضى، بمقر غير لائق، شُبِّه بمقر الوجبات الجاهزة، يأتيه الوزراء من أجل إقرار ما اتفق عليه خارج الجلسات. بينما المقر الانسب والطبيعي ان يكون في الطابق العلوي من السرايا الكبير، ويخصص فيه جناح لرئيس الجمهورية، يقيم فيه عندما يحضر، ومكاتب خاصة لوزراء الدولة وللمستشارين.
بحكم العرف والعادة استمر انتهاك الدستور ومخالفة النص باناطة ادارة مصالح الدولة وتطبيق الانظمة والقوانين بالوزراء، على الرغم من تحديد صلاحيات رئيس الحكومة وفرض متابعته لاعمال الجهات المعنية بحضور الوزير المختص، نجد ان الدولة بأسرها لا تزال، بالعرف والعادة كما كانت قبل تعديل الدستور، في قبضة رئيس الحكومة. يفترض فيه ان لا يجتمع بأي جهة في الدولة الا بحضور الوزير المختص، وهو في الواقع يهيمن على كل موظفي ومرافق الدولة، سواء من خلال المؤسسات الادارية التابعة له، كمثل: مجلس الخدمة المدنية او هيئات التفتيش العامة وديوان المحاسبة، والتي يفترض ان تكون في عهدة وزير مسؤول، وعندنا وزير بالاسم لشؤون التنمية الادارية. وأغرب من ذلك ان كل المجالس التنفيذية في الدولة هي ايا ملحقة برئيس الحكومة، كمجلس الانماء والاعمار ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، ومجلس الجنوب ومجلس المهجرين وسائر المجالس التنفيذية والانمائية في مختلف المناطق. بدلا من ان تكون في عهدة وزير “لوزارة الانماء والاعمار”،
اما الهرطقة الدستورية الكبرى فتمس مبدأ اساسيا في الدستور ينص على “احترام جميع الاديان والمذاهب، فتكفل الدولة حرية اقامة الشعائر الدينية وحمايتها على ان لا يكون في ذلك اخلال في النظام العام… وهل من إخلال بالنظام العام أكثر من جعل فئة واحدة من بين هذه الطوائف والمذاهب تحظى بعناية رئيس الحكومة، وهي دار الفتوى والمجلس الشيعي الأعلى ومشيخة العقل الدرزية مع جميع محاكمها المذهبية وقضاتها الشرعيين، دون مرجعيات سائر الطوائف. مما يميز فيما بينها. بينما نجد في دول مجاورة، ان جميع المرجعيات الطائفية، تابعة لوزير خاص في وزارة للشؤون الدينية والاحوال الشخصية… والانتهاك الفاضح لمبدأ الفصل بين السلطات ان يكون هناك قضاة ومحاكم شرعية، خارج اطار وزارة العدل وتابعة لمرجية سياسية.! …
اما بالنسبة الى السلطة التشريعية، مصدر السلطات، فبقول النص الدستوري: ان لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية… وان الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية.
منذ اقرار الوثيقة الدستورية والشعب( مصدر السلطات) لم يتمكن مرة واحدة من اختيار نوابه، اذ ان أول دفعة من النواب المستجدين جاءت بالتعيين من قبل النواب( نواب ينتخبون نوابا !..). ثم توالت الانتخابات بقوانين مفصلة على قياسات سياسية محددة، تختلف بين منطقة واخرى. فهي على اساس المحافظة في دائرة، وعلى اساس القضاء او القضائين في دائرة اخرى… وعندما كلفت لجنة وطنية ( لجنة برئاسة فؤاد بطرس) بوضع مشروع قانون للانتخابات يراعي وثيقة الوفاق الوطني من حيث المساواة بين مختلف المناطق والدوائر، وتحد من سيطرة المال السياسي. ( وقد توصلت الى صيغة انتقالية عملية تؤدي الى صيغة دستورية شاملة)، أطاحت باعمالها المصالح السياسية التي رفضت اعتماد أي قانون انتخابي عصري يحرر الناخب من تعليب اللوائح والتلاعب بجداول الشطب البدائية، وجر الناخب الى الاقتراع في مراكز القيد، والانتظار على ابواب الفرز اليدوي، حتى تظهر النتائج على ضوء الشمعة… وكأننا لم ندرك ان مختلف الدول الاقل منا ديموقراطية، قد توصلت الى اعتماد اساليب الاقتراع الآلي الحديثة، وما أكثرها وما أهونها، تخول الناخب الاقتراع حيثما يوجد، داخل البلاد او خارجها، ببطاقة هويته، ويُسجل صوته تلقائيا في المركز الرئيسي للانتخابات، وتظهر النتائج تلقائياً عند اقفال الصناديق… وبذلك يتمكن أكثر من نصف اللبنانيين، المنتشرين خاج مناطق قيدهم، في لبنان او في الخارج، من القيام بواجبهم الوطني، وممارسة حقهم في اختيار ممثليهم .
كل الانتخابات التي جرت، بعد اعتماد وثيقة الوفاق الوطني، لم تكن ميثاقية لأنها لم تجر على أساس قانون انتخاب جديد يؤمن صحة التمثيل الشعبي، على أساس المحافظة، بعد إعادة النظر في التقسيم الاداري وتحقيق اللآمركزية الادارية الموسعة.
خطوة ايجابية صغيرة يمكن ان نترقبها من قانون الانتخابات الجديد، بتحديد الدوائر الانتخابية (خمس عشرة دائرة)، وكان الاجدر اقرارها كمحافظات، في نظام لا مركزية صحيحة، قبل جعلها دوائر انتخابية، ونصف خطوة ايجابية أخرى، في هذا القانون، باعتماد النسبية بصوت تفضيلي، وكان الاجدر والأصح ان يكون الانتخاب مباشرة لهذا الأسم المضل، انتخابات إسمية ببطاقة الهوية، في اي مركز اقتراع، هنا اوفي الخارج، دون تعقيدات اللوائح المقفاة والمطبوعة، ولا مضايقات طرق الإقتراع الملتوية.
يشعر اللبنانيون بان الانتخابات المقبلة ستحمل الكثير من المفاجآت، لأن الوعي الشعبي بات يدرك أهمية صوته في تقرير مصيره، وفي بناء دولة الدستور والقانون، دولة تحكمها مؤسسات دستورية صحيحة، وتتحمل مسؤولياتها العامة بجدية وجدارة، وتمتثل دوريا للمساءلة الشفافة امام الرأي العام، سلبا او ايجابا.
الوعي الشعبي الذي يفاخر، في هذا الشرق الممزق، وقد احرقت رياحه السموم الربيع العربي، وفي عالم ينقض على كل فريسة ليغرز فيها مخالبه، بأنه في بلد هو منذ ما قبل التاريخ، وطن الحرية، غني بتنوعه الثقافي والحضاري، يعيش بتناغم بين القديم والحديث، وهو دائما قادر على تحقيق ذاته، وهو في عهده الجديد اثبت للعالم قوته في حرصه على خصوصيته وكرامته، اذا ما تعرض لمحاولة النيل منه والانقاض عليه, أثبت للعالم ان قوته واهميته لا يستهان بهما، وقد زادت قمم ارزه شموخا، ويطمح اليوم، اكثر منه في اي عهد مضى، بان يكون وطن الانسان، تتلاقى فيه كل الثقافات والحضارات، وطن الحق والعدل والمساواة.
اول ديسمبر 2017
*****
(*) مقال العدد السنوي الممتاز لجريدة ًالروابيً الزحلية ، ميلاد ٢٠١٧ ورأس السنة الجديدة ٢٠١٨ .