تخيل نفسك جنينا مكورا على نفسه في رحم امه.. وتخيل انك تملك من الوعي ما يكفي لكي تسأل نفسك الاسئلة المصيرية: أين انا؟؟ من اين جئت؟؟ والى اين المصير؟؟
ستتصدى للسؤال الاول فتجد نفسك سابحا في ظلمات ثلاث يشكلون بالنسبة لك الكون كله.. ستضع جانبا السؤال الثاني حينما تعجز عن العثور على أي خيط للجواب.. ويبقى السؤال الثالث: “الى اين؟؟” سيؤرق هذا السؤال مضجعك فالمصير مجهول بالنسبة لك وان كنت تدرك يقينا ان لا مجال لأن تبقى هنا.. فالكون (أي الرحم) صغير جدا عليك وانت تكبر يوما بعد يوم بشكل تدرك فيه يقينا ان الكون لن يتسع لك.. هذا عنك.. فماذا عن الخارج؟؟
في الخارج لا يدركون معاناتك.. هم ينتظرون قدومك المرتقب على احر من الجمر.. يجهزون لك اجمل انواع الثياب والهدايا والالعاب.. في الخارج يعدون الايام بشكل عكسي.. الشهر التاسع معناه ان الولادة قد أزفت.. وأن المولود الذي طال انتظاره سيبصر النور قريبا.. هذا بالنسبة لهم اما بالنسبة لك فالولادة بداية النهاية.. بداية الاقتراب من المجهول الذي طالما كنت تخشاه وتدرك في الوقت نفسه ان لا مفر منه.. وحينما يأتي هذا اليوم.. ستبكي بكاء مرا.. ستخاف وتجزع.. ستتألم.. سيتغير كل شيء من حولك.. ستخرج الى عالم اوسع واكبر ولكن مخيف ومرعب فأنت لم تعتد الا الرحم.. وجسدك لم يعتد الا شعور الامان في السباحة فيه.. والنور اقوى من ان تتحمله عيناك.. والتنفس مباشرة من الهواء امر لم تعتده الرئتان بعد.. سيدوم هذا الشعور بضعة ثوان.. ثم تبتسم..
ما جئت لاتحدث اليوم عن البيولوجيا وعلم الاجنة.. انما عن الموت.. هذا البعبع المرعب الذي يخيفنا ويحزننا ويصدمنا ويقهرنا.. واسأل نفسي واسألكم.. ماذا لو كنا اجنة في رحم الحياة؟ وكان الموت هو بوابتنا للعالم الآخر؟؟ ماذا لو كان الموت ولادة؟ ماذا لو كان هناك من ينتظرنا في العالم الآخر على احر من الجمر؟؟ ماذا لو كانت اعوام الشيخوخة التي نضيق ذرعا بها ونتأفف منها هي العد العكسي للولادة الحقيقية؟؟ وماذا لو كان المسنون محظوظون لأنهم اقرب منا للخلاص من سجن الرحم الضيق والتحرر من الظلمات..
قد يبدو ما اقوله لك غريبا يا صديقي الجنين.. فكل ما حولك لا يوحي بما اقول.. ستشكك في كلامي وتسألني ان كنت امتلك اي دليل حسي على هذا العالم الآخر الذي ينتظرنا.. فأجيبك: حاول ان تتحسس – من داخل الرحم- لمسة امك الحانية على رأسك.. استمع وانصت – من داخل الرحم- لصوتها الملائكي العذب يخترق جدران الرحم ليصل الى اذنيك.. انظر الى كل الاعضاء المعقدة في جسمك والتي لا تملك اي جدوى حتى هذه اللحظة.. هل يعقل انها خلقت عبثا؟؟ ام انها خلقت لعالم آخر تماما ككل الاحلام التي نحملها في قلوبنا وعقولنا عن العدل المطلق.. عن السعادة التي لا تنغص.. والخلود الذي لا ينقطع. ” وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”
لا ادري لأي مدى يحمل هذا التشبيه من جديد لكم.. فكثير منا مؤمنون بالبعث.. مع ذلك قلة منا يحاول ان ينظر للأمور من منظار آخروي.. اكثرنا يترك ايماننا بالبعث باردا مجردا نظريا ومقطوعا عن اي مشاعر دافئة وحارة تحييه داخل القلب والوجدان.. حالنا في حال هذه الدنيا كتوأم يرقب اخيه يخرج من الرحم قبله فيتحسر لفراقه ويبكي ويضرب برأسه على جدران الرحم.. علام يفعل هذا وهو ملاقيه بعد لحظات؟؟ وعلام الجزع؟؟ انتم السابقون ونحن اللاحقون.. ومن آمن بالله وعمل صالحا فلا خوف عليه.. علينا ان نكون سعداء لتحرر توأمنا من سجنه وانقضاء محكوميته ونوقن انه الآن في عالم اوسع واكبر.. في العالم الذي خلق لاجله.. أكثرنا يزور القبور ويظن انه يزور فيها احبائه.. هذا حاله كمن ينشغل عن حبيبه بخرقة بالية لبسها هذا الحبيب يوما.. زيارة القبور برأيي للعظة فقط.. للتفكر في الحياة القصيرة في رحم الحياة وللتفكر في حتمية الموت (الولادة).. وتذكر جيدا ان حبيبك – ان كان صالحا- لا يعيش تحت الارض.. انما في جنة وسعها السموات والارض..
الخلاصة
في كل مرة تنظر فيها للموت ولفراق الاحبة وألمهم ومعاناتهم وتدهور صحتهم تذكر هذا المثال.. وفي كل مرة تتعاطف مع (او تسخر من) الشيخوخة والزهايمر والخرف تذكر هذا المثال ايضا.. تذكر انه في خارج رحم الدنيا هناك عالم اكبر واوسع هو العالم الحقيقي وفيه اناس لهم نظرة مختلفة تماما عنك وتقييم مختلف تماما عنك حتى في التفاعل مع الحدث نفسه .. ليس هذا فحسب بل كن على ثقة ان هذه النظرة هي النظرة الحقيقية التي ستتبناها يوما ما.. عاجلا ام آجلا.. حينها ستنجلي كل غشاوة عن عينيك وترى الأمور على حقيقتها.. “فبصرك اليوم حديد”
ختاما لا ادعي اني تجردت تماما من الحزن واليأس والاحباط مع تقدم العمر ومع مفارقة الاحبة.. فأنا مثلكم لا زلت اسير رحم الحياة او الدنيا ولكني اقول اني املك –في وجداني- نسخة اخرى من الواقع الجأ اليها حينما تنتابني تلك المشاعر متقينا انها الواقع الفعلي.. قد تعيش فكرة الواقع الفعلي للحظات في خاطري قبل ان تذوي واعود لاغرق في دوامة الحياة ولكنها ستكون لحظات كافية لي كي اجدد طاقة الصبر والتسليم والأمل.