بعيداً من الديماغوجيا المنتشرة عن الانتصارات لـ «محور الممانعة» في سورية، وبعيداً من الحديث عن اقتراب التسوية، فإن الوضع في سورية لا يزال أسير دوامة المساومات بين القوى المتحكمة بمصير النظام ومصير الشعب السوري على السواء. تتحكم في الوضع السوري أربع قوى استعمارية «تتلذذ» بتدفق الدم السوري على مذبح مصالحها الخاصة في تقاسم سورية، مناطق ونفوذاً. هذه القوى هي روسيا وأميركا وتركيا وإيران. لكل قوة توابع من ميليشيات تأتمر بأوامرها. فكيف تدير هذه القوى الوضع، وكيف تعمل على إبقاء «الرجل المريض» الذي هو سورية ونظامها على قيد الحياة بانتظار التسوية المنشودة؟
يكاد يكون هناك شبه إجماع على هيمنة روسية على الوضع العام في سورية، فهي التي حسمت معارك عدة، وهي الرئة التي يتنفس من خلالها الحاكم السوري، فتمنع إزاحته، إلا عندما ترى أن وظيفته قد انتهت. تحت الجناح الروسي تنضوي كل من إيران وتركيا، فتحدد لهما حدود هيمنتهما في مناطق معينة، يمتنع عليهما تجاوزها. لا يعني هذا الاحتضان انعدام التناقضات أو التباينات بين الأطراف الثلاثة، فروسيا ليست سعيدة بالدور الإيراني، وتعرف أن مناخ الشعب السوري معادٍ لوجود إيران، لكنها ترى في إيران ورقة بيدها للمساومة على المصير النهائي، وعندما تصل الى هذه المرحلة، لن تكون ممانعة في طرد إيران من سورية. لذلك ترفض روسيا، الآن، مطلب المعارضة بخروج القوات الإيرانية، على غرار اعتراضها على رحيل الأسد.
أما تركيا، فقد باتت مطالبها متواضعة جداً. فبعد أن تخلت عن «عنترياتها» بالتدخل ومنع المجازر في سورية، انكفأت الى المطالبة بعدم تمكين الأكراد من قيام حكم ذاتي. لا شك في أن انبعاث القضية الكردية على النحو الذي حصل في العراق عشية الاستفتاء على الاستقلال، وتسجيل «قسد»، التي تمثل القوى الكردية، لانتصارات في سورية، أقلقت تركيا المهددة بانتقال القضية الكردية الى داخلها، بكل ما يعنيه من خطر على الكيان والنظام فيها. لذلك تسارعت خطاها لعقد الصلة مع إيران، وتسليم الراية الى روسيا لتحدد المسار الذي تراه مناسباً.
لكن روسيا تتعاطى مع تركيا وإيران بوصفهما ورقة ضغط في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وخططها لسورية. تعرف روسيا كما أميركا أنهما القوتان اللتان تقرران مصير سورية والتسوية فيها. لا يمكن القول، حتى الآن، إن الخطوط العريضة الروسية- الأميركية قد وضعت على الطاولة. على رغم أن روسيا متلهفة للوصول الى التسوية، بما يسمح لها بعدم الغوص أكثر في الوحول السورية، وهي تلوّح بأن قواتها ستنسحب تباعاً، إلا أن الولايات المتحدة تتصرف على غير عجلة من أمرها. تريد أميركا من روسيا صفقة تتجاوز سورية الى مناطق تقع في قلب النفوذ الروسي. وإذا كان لا بد من سوء الظن، فإن أميركا تمعن في التهرب من الحلول، وهي سعيدة في رؤية الروس وقد باتوا في حالة استنزاف على الأرض السورية.
لذلك، يدور الكباش عملياً بين أميركا من جهة والحلف الثلاثي الروسي- الإيراني- التركي من جهة ثانية. في هذا السياق، يمكن فهم السعي الروسي الى عقد مؤتمر في منتجع سوتشي يضم روسيا وإيران وتركيا، من دون أي ذكر لأميركا أو دعوة لها. صحيح أن المؤتمر قد تأجل لفترة غير قصيرة، وهو ما يعني فشل التهويل بهذا الحلف، إلا أنه يعكس موقفاً روسياً في وجه أميركا عن امتلاك روسيا أوراق قوة وضغط، يسمح لها بفرض شروطها في التسوية القادمة.
وسط هذه الصراعات، يتعاطى الجميع مع الحاكم السوري على أنه ليس أكثر من «طربوش». تُعقد المؤتمرات لتقرر مصير سورية من دون توجيه دعوة لحضوره ولو بصفة مراقب. تدخل الجيوش الى سورية وتذهب من دون أن يملك حق الاعتراض، بل يُجبر على القول إنه استدعى هذه القوة أو تلك. والأغرب من كل ذلك أنه لا ينفك يتحدث عن الانتصارات وقراره باستعادة سورية بالقوة، وبسط هيمنته على مجمل الأراضي السورية. ما يُسجل له، أنه قد نجح في استكمال تدمير المناطق السورية، حتى تلك الخاضعة لخفض التوتر، فلم يكفّ عن قصفها وتدميرها.
أما المعارضة السورية، فقد وصلت الى أعلى ذرى تشتتها، مما زادها ضعفاً في موقعها معطوفاً على ضعف أصلي. كانت المؤتمرات الأخيرة والاستقالات التي رافقتها، والإملاءات عليها، كافية لإظهار أن موقعها في الحلول والتسويات هامشي جداً، إن لم نقل معدوماً.
تبقى كلمة حول الشعب السوري الذي يتلقى الضربات ويعاني من التهجير والذل في المنافي. هذا الشعب يتوق الى وقف شامل للنار، والى انتهاء هذه الحرب، والى حلول تسوية وبدء إعمار سورية. هذه التسوية تبدو اليوم بعيدة، حتى وإن كان الكلام عنها، اليوم، فضفاضاً، اما الإعمار فدونه أهوال، أولها إنجاز التسوية، وثانيها إنهاء حكم الأسد، كشرط لهذا الإعمار. في كل حال، لا تسوية فعلية مع نظام الأسد.