صدر عن دار “بيسان للنشر” كتاب للباحث خالد غزال بعنوان :”الإصلاح الديني في الإسلام : قضايا في الإصلاح الديني”، سيجري توقيع الكتاب في جناح الدار بتاريخ 9 – 12 – 2017، بين الساعة الخامسة والسابعة مساء. وهذه مقدمة الكتاب.
تعيش المجتمعات العربية، في هذه المرحلة من تطورها، حروباً أهلية تكاد تلف جميع الأقاليم العربية. تظهر هذه الحروب مدى الإنهيار البنيوي الذي أصاب هذه المجتمعات وأدى إلى تفككها وتذرر نسيجها الاجتماعي. لعل أخطر ما أبرزته هذه الحروب الدائرة هو انهيار بنى الدولة التي شكلت عنصر حداثة في أعقاب نيل هذه المجتمعات استقلالها. هذا الإنهيار أتى على حساب ما تمثله الدولة من مساحة مشتركة ومن هوية وطنية جامعة، وذلك لحساب العصبيات العشائرية والطائفية والقبلية والإثنية، وتحوّل هذه العصبيات إلى هوية لكل مجموعة. عندما تتفكك الدولة إلى مكونات ماقبل قيامها، لا يعود غريباً أن تحكم العلاقة بين هذه المجموعات نزاعات أهلية على السلطة والمواقع والموارد. ليست المجتمعات العربية فريدة في بابها في هذا المجال، فتاريخ تكوّن الدول هو تاريخ فك وتركيب وتسويات لمكوناتها قبل أن تتبلور في صيغتها الوطنية أو القومية العامة.
ما يميز الحروب الأهلية الدائرة في مجتمعاتنا أنها توظف الدين الإسلامي في هذه الحروب وتجعل منه عنواناً لصراعاتها. ليس الاستخدام هذا بغريب عن واقع المجتمعات العربية والإسلامية، فهو يعود إلى خمسة عشر قرناً مضت، حين اندلعت الحروب على السلطة والموارد بين قبائل الجزيرة العربية بعد وفاة النبي محمد مباشرة. انحكم التاريخ العربي والإسلامي بصراعات طائفية ومذهبية لقرون، عمدت فيها كل فرقة إلى استحضار الدين والإله وتوظيفهما في خدمة مشروعها، ولفقت أحاديث نبوية لا حدود لها خدمة لهذه الصراعات. لم يقتصر استخدام الإسلام على الحروب المذهبية، بل تحوّل أداة في يد السلطات والأمبراطوريات التي تكونت، تستخدمه لتبرير مشروعية سلطتها وإكسابها طابعاً إلهيا، موظفة في ذلك المؤسسات الدينية وعلمائها وفقهائها.
منذ أن بدأ المشروع النهضوي يدخل مرحلة الإنهيار في أعقاب حرب حزيران 1967، وما ترتب عليه من انهيار في قوى هذا المشروع، القومية منها واليسارية والليبرالية، بدأت الساحة العربية تخلي المكان للحركات الأصولية الدينية وفكرها السلفي، وارتفعت شعارات “الإسلام هو الحل” بما هو الخلاص لشعوب المنطقة العربية واستعادة كرامتها القومية. لم يكن ذلك غريبا عن منطق التاريخ، لكن هذه الحركات الأصولية التي عانت من إرهاب الأنظمة الاستبدادية، كما عانت القوى التقدمية منها، بدأت تحوّل شعاراتها إلى مشاريع سلطوية، تسعى من خلالها إلى استعادة الخلافة الإسلامية التي تدعى أنها سادت في عهد الخلفاء الراشدين، من دون الأخذ في الاعتبار أن هذه الخلافة لم تكن في الأصل دولة دينية، كما باتت من التاريخ البائد عملياً. من أجل بلورة مشروعها أيديولوجياً، استحضرت هذه التنظيمات ما يختزنه التراث الإسلامي من تشريع للعنف والإرهاب تحت عنوان الجهاد في سبيل الله، وقتل غير المسلم. لم تعد هذه الشعارات مجرد تعبئة دينية في السر، بل تحولت إلى القضية المركزية على الأرض. هكذا بات الإسلام في صيغته “الإرهابية” هو الواجهة لممارسة هذه التنظيمات. لم يقتصر عملها داخل المجتمعات العربية والإسلامية بل امتد إلى مجتمعات غربية في وصفها “ديار حرب” من الواجب مقاتلتها لتدخل الإسلام. تحت إسم الجهاد ونشر الدين والتصدي لأعداء الإسلام، تحول هذا الدين إلى خطر للشعوب العربية والإسلامية ولسائر شعوب العالم.
من الخطأ تحميل الإسلام لوحده مسؤولية انتشار التطرف والعنف. فقيام هذه الحركات الأصولية يرتبط بعدة عوامل بنيوية داخل كل مجتمع، من هذه العوامل الاستبداد الذي مارسته الأنظمة القائمة بكل أشكاله السياسية والفكرية، وزج القوى المعارضة لها في السجون أو إرسالها إلى المنافي والقبور. ومن العوامل أيضاً فشل هذه الأنظمة في تنمية هذه المجتمعات وحل مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى الى تفشي الأمية بشكل مذهل، وارتفاع منسوب البطالة الى حدود خيالية، وتهميش القوى المتعلمة ورميها خارج ميادين العمل أو المشاركة السياسية، وهو ما جعل شعوب هذه المجتمعات تقبع في أعلى درجات الفقر والحرمان، ناهيك بالهزائم أمام العدو القومي وما سببته من انجرحات في الكرامة القومية.. هذه العوامل مجتمعة استطاعت الحركات الأصولية أن توظفها في خدمة مشروعها المدعي الخلاصية لهذه الشعوب، فكان من الطبيعي أن تغلفها برداء أيديولوجي تحت إسم الإسلام المخلّص. ومن أجل ذلك كان عليها أن تستعيد التراث بمجمله وتسقطه على الواقع الراهن من دون الأخذ بالتحولات التاريخية وتغير ظروف صدور الققه الخاص بهذا التراث.
إن الصورة المقدمة اليوم عن الإسلام على لسان هذه الحركات تجعل من الضروري التصدي لهذا الفهم للإسلام، وتبيّن ما هو حقيقي وجوهري في هذا الدين، ووجوب تجاوز ما هو غير جوهري أو نزل في ظروف تاريخية لم يعد لها من مكان اليوم في مجتمعاتنا. تبدو عملية الإصلاح الديني الجذري أكثر من ضرورية خدمة لهذا الدين وللمؤمنين برسالته ومبادئه. إن الظروف والأحداث الجارية لا تدعو أي مجال للشك في وجوب الولوج إلى هذا العالم من الإصلاح.
من البديهي القول أن الإصلاح الديني لن يطال العقيدة بمبادئها الأساسية المتعلقة بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فهذه من الثوابت، ليس في الإسلام وحده، إنما في سائر الأديان التوحيدية. الإصلاح الديني يتناول الشريعة وترجمتها في الفقه، فأحكام الشريعة تخترق اليوم كل ميادين الحياة، وتتدخل في السلوك البشري في أدق تفاصيله، وتتحكم بالعادات والتقاليد والثقافة.. لا يعني الإصلاح شطب والغاء هذه الشريعة واقتصار الدين على القيم والمباديء الإنسانية والروحية التي تبقى الجوهري في الدين. ولأن الشريعة تتدخل في كل مناحي المجتمعات العربية والإسلامية، كان لا بد من التوقف أمام أحكامها وفق عدة مقاييس. إذا كانت العقيدة مباديء سماوية تخترق الزمان والمكان، إلا أن الشريعة نتاج بشري جرى وضع الفقه الخاص بها على امتداد العصور، وهي خاضعة لتبدلات الزمان والمكان، وللتحولات الاجتماعية. لا ينطبق عليها ما ينطبق على العقيدة.
المقياس الأول، يتعلق بكيفية جعل الشريعة متوافقة مع العصر الذي نعيش فيه، ومدى ملاءمتها للتطورات التي وصلت إليها البشرية وتتحكم اليوم في مجتمعاتنا. إن شريعة تتوافق أحكامها مع حاجات المسلم المعاصر تجعل الالتزام بها أمرًا ميسورًا، بما يسهل حياة الناس وأعمالهم ولا يجعل المسلم يعيش في عصور غابرة، ويحتكم إلى شرائع تعود لتلك العصور.
المقياس الثاني يقوم على مدى توافق أحكام الشريعة مع مباديء حقوق الإنسان، وهي نقطة مفصلية اليوم في ملاءمة أية تشريعات لحاجات المجتمعات. إن حقوق الإنسان اليوم المتجسدة في مواثيق وقوانين قائمة على المساواة بين البشر بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق، والاعتراف بالتعددية الدينية وبحق الإنسان في أن يؤمن أو لايؤمن، وفي حرية الرأي والاختيار، وفي الحقوق الكاملة للمرأة ومساواتها بالرجل.. وغيرها من المباديء التي باتت مسلمات ومقياس التقدم في هذا العصر لأي مجتمع من المجتمعات.
المقياس الثالث يتناول القراءة العقلانية للنصوص والأحكام التشريعية بمختلف مستوياتها. إن تحكيم العقل وجعله مقياساً أساسياً للحكم على هذا المبدأ أو ذاك، يطال قراءة النصوص الدينية، من القرآن والحديث وما توارثه الفقه في هذا المجال. واعتماد العقل واحدًا من المقاييس يساعد في تحرير النصوص الدينية من الأساطير والخرافات والقراءات واجتهادات رجال الدين غير المستندة إلى منطق في رؤية الأمور، وهي المعبرة عن نفسها اليوم في فتاوى عشوائية بعضها مهين ومنفر إذا لم نقل مقززًا، يطلقها رجال دين حول هذه القضية الدنيوية أو تلك..
أما المقياس الرابع، وهو مقياس المقاييس في الإصلاح الديني، فهو المتصل باعتماد القراءة التاريخية للنصوص الدينية والتشريعات أو الفقه الذي نجم عنها. إذا ميزنا بين الثابت والمتغير في الدين، فإن الثابت ما يتصل بجوهره من قيم ومباديء وعقائد، فيما المتغير هو تلك الأحكام التي باتت تعرف بالشريعة، وبنى الفقه الإسلامي نصوصه عليها. هذه الأحكام والشرائع، سواء ما ورد منها في النص المقدس أي القرآن أو الأحاديث النبوية أو أقوال الصحابة والفقهاء لأي مذهب انتموا، هذه كلها مشروطة بتاريخية صدورها. أتت هذه الأحكام والتشريعات استجابة لحاجات المسلمين في ديارهم الأولى أو في الديار التي وصلوا اليها عبر الفتوحات، ما يتعلق منها بشؤون الحياة اليومية أو بالأمور الحربية. أسوأ ما تعرفه المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، استعادة تلك الاحكام والتشريعات وإسقاطها على العصر الراهن، من دون الأخذ في الاعتبار مكان صدورها وزمانه وأي احتياجات أجابت عنها. كما ان تلك الاحكام والفقه الناتج عنها محكوم بدرجة تطور تلك المجتمعات والحدود المعرفية للفقهاء والعلماء في تلك العصور، فيما شهدت العصور الحديثة قفزة في العلوم الاجتماعية والإنسانية والمناهج البحثية ما يجعل النظر إلى هذه النصوص مختلفاً عن نظرة فقهاء العصور الغابرة. تطرح هذه النقطة كل قضية الفقه الإسلامي ووجوب تجديده بما يتناسب مع العصر وحاجات المسلمين فيه، والتمييز فيه بين ما هو متجاوز للزمان والمكان، وبين ما هو متصل بعصره. ليس مقبولاً اليوم استعادة ما قال به هذا الفقيه قبل ألف عام أو أكثر في قضية من القضايا وإعطاء فتوى في شأنها كأن الزمن ما يزال متوقفاً هناك، وهو مما نراه شائعاً لدى المؤسسات الدينية ورجالها. فكل شيء في الحياة هو تاريخي، حتى مفهوم الله يخضع للتاريخية، فقد تغير المفهوم منذ أن وجد البشر، وتعددت التعريفات والتوصيفات له قبل أن يصل إلى الصيغة الراهنة من خلال الأديان التوحيدية.
اذا كانت الدعوة اليوم ملحاحة للولوج إلى إصلاح ديني يعيد للإسلام جوهره الحقيقي ويمنع عنه تهمة الإرهاب الموسوم بها اليوم، شاء أم أبى، بالنظر إلى الأعمال المرتكبة باسمه، فلا يعني ذلك أن الإسلام لم يعرف ارهاصات إصلاحية، تفاوتت إلى هذا الحد أو ذاك بين عصر وآخر. منذ العصور الإسلامية الأولى وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كان هناك من قام بمحاولات لقراءة النصوص الدينية والتشريعات قراءة يمكن إدراجها في سياق محاولات إصلاحية. صحيح أن الإسلام لم يشهد حركة إصلاحية متماسكة وشاملة على غرار الإصلاح الديني في المسيحية الذي قاده مارتن لوثر في القرن السادس عشر، لكن الإسلام شهد محاولات إصلاحية جريئة منذ عصوره الأولى. يسجل في هذا المجال ما قالت به المعتزلة حول استخدام العقل في قراءة النصوص، وما قال به آخرون من المفكرين والفلاسفة المسلمين. حتى الفرق والمذاهب الإسلامية نجد فيها طروحات إصلاحية تقرأ وتناقش وفق منطق عصرها، والدارس لتاريخ المذاهب الإسلامية والفرق الناشئة عنها والتراث الفكري الذي قدمته سيلمس خروجاً عن التقليد السائد أو القراءة الحرفية قام به مفكرو هذه الفرق. سنجد في تراث الأوائل، بعد المعتزلة، أن فلاسفة مثل الكندي والفاراي وابن سينا وأبوبكر الرازي وإخوان الصفاء وابن باجه وابن رشد وابن خلدون.. وغيرهم كثيرون، كانت لهم اجتهادات في قراءة النصوص الدينية، هي إصلاحية بمقياس زمنهم. وفي العصور الحديثة، نلمس المحاولات الإصلاحية الجريئة لدى رجال دين في عصر النهضة في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، أمثال محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورفاعة الطهطاوي وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم.. كما ن حركة التجديد في الفكر الاسلامي توسعت في القرن العشرين على يد رجال دين ومفكرين من أمثال عبد الله العلايلي وخالد محمد خالد ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي ويوسف الصديق ومحمد أحمد خلف الله.. ومحمد إقبال وعبد الكريم سروش .. وغيرهم في المشرق العربي ومغربه وفي بلدان شبه القارة الهندية.