بقلم: د. حورية الخمليشي (*)
القارئ لرباعيات الخيام التي ترجمها الشاعر أحمد رامي نظماً من الفارسية يحس بأن أحمد رامي ليس مترجماً للنص الأصلي فحسب، ولكنه مبدع أفكار وأخيلة مُستلْهَمة من حياة الخيام وفلسفته. فكأنه هو كاتبُها وناظمُها ما يدعو إلى التساؤل هل يمكن للترجمة الشعرية الإبداعية أن تفوق الأصل جمالياً في بعض الأحيان؟ وهل هي رباعيات الخيام، أم رباعيات أحمد رامي بفكر الخيام؟
إن ترجمة النص الأدبي والشعري منه على وجه الخصوص أصعب أنواع الترجمات على الإطلاق لما يمتاز به من طبيعة تخييلية. لذلك فالمترجم للنص الشعري يقتضي مجموعة من المواصفات أهمها التمكن من اللغة والموهبة. فلا يكون الشاعر مبدعاً إلا إذا كان ملمّاً بأسرار اللحن الشعري والموسيقي التي تمكنه من الصياغة الفنية والموسيقية للتعبير عن المشاعر والأحاسيس. وكان أحمد رامي شاعراً وملحناً وموسيقياً فأغدق عليها من شاعريته وطلاوة أسلوبه وعمق مشاعره وأحاسيسه التي أحيت روح الخيام في رباعياته، فتفوّقت ترجمته على كل الترجمات في الشهرة والانتشار، لجمالية صياغتها وبراعة صورها. ولعل هذا سبب انتشارها الكبير في العالم العربي.
ويرى “بورخيس” أن الترجمة يمكن أن تتفوق على الأصل في بعض الأحيان إذا تمكن المُترجِم من الإمساك بالنص الأصلي واستوفى شروط الترجمة. فترجمة “وايتمان” إلى اللغة الألمانية أفضل من أصلها في الإنجليزية. كما أن ترجمة “كيخوط” حسب “بورخيس” من الإسبانية إلى اللغة الإنجليزية أرفع بكثير مما كتبه “سيربانطيس” بالإسبانية.
لقد تعلم أحمد رامي الفارسية ليحس بهذه الروح الخيامية. وقد صدر ديوانه لأول مرة عام 1924م وغنتها أم كلثوم عام 1949م. واعتمد أحمد رامي في هذه الترجمة على عدة مخطوطات بالمتاحف والمكتبات الأجنبية بكل من أكسفورد، وباريس، وبرلين ولندن وكمبردج بالإضافة إلى مراجعة العديد من الترجمات والمراجع الشرقية والغربية. فقد مكنته دراسته بجامعة السوربون من إتقان عدة لغات وخاصة اللغات الشرقية كالتركية واليونانية والفارسية. تألق في القصيدة العربية الفصحى، وكتب الشعر بالعامية فرفع بها إلى قمة الإبداع. كان يلقب بشاعر الشباب وشاعر الحب والجمال. ويذكر توحيد رامي أن والده حينما قرأ الترجمات المختلفة لرباعيات الخيام “أحس أن هناك تناغماً بينه وبين الخيام، فهو طروب مثله، غنائي مثله، محب للحياة مثله”[1]. وقد صرّح أحمد رامي بأن ترجمته تزامنت مع فقدان أخيه بفرنسا. وظهر هذا الحزن جليّاً في ترجمته التي جاءت أكثر قربا وإحساسا بالشاعر عمر الخيام. فقد شعُر بما شعُر به الخيام من حزن على مصير الإنسان وتفاهة الحياة، فأهدى ديوانه للخيام المدفون في نيسابور ولأخيه الشهيد المدفون في حيفا.
وجاء في مقدمة ديوان أحمد رامي أيضاً أن أقدَم مخطوط للرباعيات كتبه أحد سكان شيراز سنة 865ه أي بعد موت عمر الخيام ب350 سنة، وكلما بَعُد بها الزمن زاد عدد الرباعيات وذلك لما وقع فيها من تحوير حتى وصل عددها في أحد مخطوطات كمبردج إلى 800 مخطوط. وأقدم مخطوط في أكسفورد لا يحوي إلا 158 رباعية.[2] وقد حاول العديد من النقاد فرز الأصيل عن الدخيل في الرباعيات. ومن أهم الدراسات في هذا المجال دراسة جلال زنكابادي الذي يرى أنها تُرجِمت إلى ما يقرب من مائة لغة ولهجة. وتكاد تكون الترجمة الإنجليزية لفيتزجيرالد، التي ترجمها عام 1859م، أفضل الترجمات للغتها الشعرية العالية التي توازي اللغة الشعرية الراقية في الشعر الكلاسيكي الإنجليزي، وإن كانت هي نفسها، كما يذكر بعض النقاد، لم تسلم من الأخطاء والإضافات. ثم توالت الترجمات بعدها إلى اللغات الأجنبية. وشكلت انقلاباً في الثقافة الأوروبية وحركة تجديد الشعر الأوروبي. وتجاوزت نسخ الكتب المطبوعة الكتبَ الأكثر شهرة. وتأخر اكتشاف الرباعيات في الثقافة العربية أكثر من نصف قرن من الزمن عن اكتشافها في الثقافة الأوروبية والعالمية.
ولم ينشغل عشاق الرباعيات بشعر الخيام فحسب بل بما يحمله من صور وأخيلة عميقة وفريدة، إذ تحمل الدواوين صوراً ولوحات رائعة تستلهم أجواء صاحب الرباعيات المنفتح على الحب والجمال واستلهام العقل والحواس. وقد أنجز الفنان الإيراني العالمي “سركيس خجا دوربانّ” المختص في رسم الآثار والرسوم التاريخية لوحات متفرقة رفيعة لما رسمه الخيام بالكلمات. وتضم “موسوعة الخيام، رسائله العلمية والفلسفية والأدبية” الأعمال الكاملة للخيام، كما تضم مائة صورة ورسم. وهي من تحقيق وتقديم رحيم رضا وترجمة وتقديم جلال زنكابادي. وقد صدرت الموسوعة حديثا في 2013م.
ولا يوجد ديوان واحد لرباعيات الخيام، وما تُرجم إلى العربية هو مختارات فقط من الرباعيات. والحقيقة أن الخيام لم ينظم إلا رباعيات محدودة نالت شهرة منقطعة النظير كان يختص بها بعض أصدقائه، أما باقي الرباعيات فهي منسوبة إليه. وهذه المسألة يمكن أن تقع في كل الآداب الإنسانية. وبحسب “بيير باسكال” فقد تجاوزت دراسات وترجمات رباعيات الخيام ثلاثة آلاف كتاب ودراسة إلى حدود عام 1960م. وفي العقود الموالية زاد الاهتمام بالرباعيات وفاقت شهرتها الآفاق. وتُرجمت رباعيات الخيام إلى مختلف لغات العالم. اكتشفه الغربيون شاعراً قبل الفرس، وكُتبت عنه آلاف الكتب ومئات الدراسات بمختلف اللغات. ولعل أول من ترجمها إلى العربية هو وديع البستاني ثم توالت بعد ذلك الترجمات. فالكثير ممن ترجموا للخيام هم من مشاهير الأدب العربي المعاصر، كترجمة أحمد الصافي النجفي، وإبراهيم العريّض، وجميل صدقي الزهاوي، وأحمد زكي أبو شادي، ومحمد السباعي، وعلي محمود طه وغيرهم. ويجمع النقاد على أن ترجمة أحمد رامي الشعرية للرباعيات أفضل الترجمات وأشهرها.
وتبقى الرباعيات تحفة أدبية من روائع الشعر الفارسي. والرباعية قالب من قوالب الشعر الفارسي، فهي مقطوعة شعرية من أربعة أبيات ويمكن أن نقول أنها قصيدة قصيرة لا تتعدى أربعة أسطر بقافية موحدة وتعبر عن فكرة واحدة، وفي بعض الأحيان يختلف السطر الثالث.
لا يختلف أحد في انتساب الرباعيات لعمر إبراهيم الخيام النيسابوري (1040م- 1123م) الذي وُلد بنيسابور مدينة العلم والمعرفة والتي أنجبت العديد من العلماء والأطباء والفلاسفة والأدباء. ذاعت شهرته في عهد السلطان ملك شاه. ويعسر تصنيف عمر الخيام في علم من العلوم. فقد كان رياضياً وفيلسوفاً وفلكياً وشاعراً وعالمَ طبيعيات. وكان يجيد اللغة العربية ويكتب بها. كتب العديد من المؤلّفات العلمية والفلسفية باللغة العربية كغيره من العلماء الغير العرب كالفارابي، وابن سينا، والزمخشري، والبيروني وغيرهم. وقد ألف بالعربية كتاب (الجبر والمقابلة). برزت موهبته في علم الفلك وله إنجازات كبيرة في مجال الرياضيات. ويذكر وديع البستاني في مقدمة ترجمته لشعر الخيام أن “الخيام وُلد فيلسوفا، وعاش عيشة الفيلسوف ومات فيلسوفا وشاعرا. والرباعيات هي سفره الفلسفي الجليل، وأثره الشعري الخالد “[3]. فالرباعيات هي أيام الشاعر وفلسفته ورأيه في الكون والوجود والحياة. ويرى بعض النقاد أنه متأثر في رباعياته بشعر المعري.
وقد اختلفت تأويلات شعر الخيام بين كونه الفيلسوف واللغوي والمؤرخ، وبين كونه عالم الطبيعيات والفلك والرياضيات، وبين كونه الأديب والموسيقي والشاعر الذي لم يُشهد عنه مجون ولا زندقة. فقد حملت أشعاره تأويلات عديدة بين الزندقة والإيمان والمحافظة والمجون. فعشقه للخمرة أثار الكثير من الجدل منهم من رآها خمرة إلاهية صوفية، ومنهم من أثارت لديه الكثير من الشكوك حول سيرته. فبقدر ما في شعر الخيام من دعوة إلى التمتع بجمال الحياة ونسيان همومها، مادام الإنسان مآله إلى الفناء، بقدر ما فيها من زهد وورع ومناجاة إلاهية.
هكذا يبدو الخيام في رباعياته تقياً ماجناً ومتصوفاً مستهتراً ومتفائلاً متشائماً يهاب الموت ويدعو إلى التمتع بمباهج الحياة، ويشعر بالندم فيتوب إلى الله ويرتمي في أحضان الوجود، محاولا فك أسراره في عالم روحي يتخلص فيه من إغراءات الحياة الزائلة فإذا هو متزهد ورع من أولياء الله الصالحين. ولم يثر شعر ما أثارته الرباعيات الخيامية من الحيرة والشكوك، لما تحمله من صور مليئة بالمتناقضات. ولا أظن أن هذه المتناقضات يمكن أن تجتمع في رجل كالخيام عُرف في زمانه بالحكمة. وهو الملقّب ب”حجة الخلق” و”الإمام” و”الحكيم” و”الدستور”. ولعل هذه المتناقضات هي التي جعلت أحمد رامي يستهل ديوانه بآخر عبارة قالها الخيام حينما شعر بدنوّ أجله، قام وصلى ركعتين ثم قال: “اللهم إني عرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي، فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك”[4]. وختم أحمد رامي الرباعيات بانتقائه لأروع مقاطعها في المناجاة والاستغفار والذي يقول فيه:
يا عالمَ الأسْرار عِلمَ اليَقين
يا كاشِفَ الضُرِّ عَن البَائسين
يا قابِل الأعْذار عُدْنا إلى
ظِلِّكَ فاقْبَلْ تَوبَةَ التائبين
وتمرّ زهاء ألف عام تفصل بين الحكيم والشاعر الفارسي عمر الخيام وبين الشاعر العربي الكبير أحمد رامي، وهي مدة زمنية تكاد تُختزل في لحظة واحدة هي زمن القصيدة. بين شاعر الرباعيات ومبدعها وبين عاشقها ومترجمها لحظات فريدة، لحظات لامتناهية من العشق الأبدي لأسرار الكون. خاصة بعد أن أخرجت أم كلثوم القصيدة من ديوان أحمد رامي وجعلتها تجري على ألسنة الناس وعشاق الفن الراقي. فالقصيدة في الغناء العربي أرقى الأشكال الغنائية، وظلت تحتل دائماً مركز الصدارة في الغناء العربي.
وكان لغناء سيدة الطرب العربي لمقاطع من الرباعيات مصحوبة برقة ألحان السنباطي شهرة كبيرة في العالم العربي. هكذا اكتسب الخيام شهرته الواسعة عند العرب حينما اكتمل في شعره النغم الجميل والصوت العذب، والكلمة الجميلة الموحية، فاقترن اسمه بأحمد رامي الشاعر العربي الذي ارتبط اسمه أيضا بأم كلثوم التي غنت له ما يفوق مائتي أغنية من الروائع الخالدة. فأصبحت من الأغاني الخالدة في ذاكرة الشعر العربي. وكانت أولى قصائد الشعر العربي الفصيح الذي تغنت به أم كلثوم بألحان رياض السنباطي. وأول بيت لحنه السنباطي من الرباعيات هو: “أطفئ لظى القلب بكأس الشراب/ فإنما الأيام مثل السحاب”، لتتوالى بعد ذلك باقي الأبيات. وقد لحّن السنباطي كل رباعية بلحن مختلف.
وتضم الرباعيات 342 بيتا غنت منها أم كلثوم ثلاثين بيتاً. إلا أننا نجد اختلافاً بين المقروء والمسموع سواء في الرباعيات أو في شعر أحمد رامي بصفة عامة، أي أن القارئ لشعر أحمد رامي يجد فرقاً بين الديوان وما تغنّت به أم كلثوم. فلم تُراع أم كلثوم الترتيب العام للديوان كما غيّرت في بعض الكلمات. وكان رامي يترك لها الحرّية في أن تختار وتُغيّر ما يحلو لها من كلمات ولا يعارض على أي تعديل لأنه يؤمن بذوقها الرفيع وحسن انتقائها للكلمات التي تناسب الغناء. فهو يُعيد النظم من أجل الوصول إلى الصياغة التي تُرضي أم كلثوم. فعلى سبيل المثال اختارت كلمة “كأس المنى” بدل “كأس الطلا” وكلمة “تملأ” بدل “تفحم” في الشطر الثاني من البيت الثاني، بالإضافة إلى العديد من التعديلات. وفيما يلي بعض مقاطع رباعيات الخيام كما غنّتها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم:
سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر
***
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
***
غَدٌ بِظَهْرِ الغيب واليومُ لي
وكمْ يَخيبُ الظَنُ في المُقْبِلِ
ولَسْتُ بالغافل حتى أرى
جَمال دُنيايَ ولا أجتلي
***
القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربِ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ
والماءُ يَنْسابُ أمامي الزُلال
***
أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِقا
وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَقا
ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غير أن أهْوى وأن أعْشَقا
***
أفِقْ خَفيفَ الظِلِ هذا السَحَر
نادى دَعِ النومَ وناغِ الوَتَر
فما أطالَ النومُ عُمرأ
ولا قَصّرَ في الأعمارَ طولُ السَهَر
***
… إن لم أَكُنْ أَخلصتُ في طاعتِك
فإنني أطمَعُ في رَحْمَتِك
وإنما يَشْفعُ لي أنني
قد عِشْتُ لا أُشرِكُ في وَحْدَتِك
***
تُخفي عن الناس سنا طَلعتِك
وكل ما في الكونِ من صَنْعَتِك
فأنت مَجْلاهُ وأنت الذي
ترى بَديعَ الصُنْعِ في آيَتِك
هوامش
1- رباعيات الخيام، ترجمة أحمد رامي، ط. 25 عام 2000م، ص. 5
2- المرجع السابق، ص. 23
3- من كتاب رباعيات عمر الخيام ترجمة وديع البستاني ص.10
4- رباعيات الخيام، أحمد رامي، ص. 8.
******************
(*) جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط
لم يترك عمر الخيام و لا الشاعر احمد رامي ولا سيدة الطرب العربي و الملحن رياض السنباطي مجالا للتعليق أو النقد او الإبداع في كل القصيدة فالعمالقة إلتقوا فما علينا إلا الإستمتاع بما تركو لنا والإحتفاظ به والحرص علبه حتى لا يحرف ولا يزول