“ثورات الغضب والأمل” في زمن الإنترنت 

لعبت الحركات الاجتماعية في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين دوراً مهماً في انتشار تكنولوجيا الاتصالات، خصوصاً الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وهذا ما ينطبق على الحركات التي قامت في أوروبا (إسبانيا وآيسلندا) وفي الولايات المتحدة (تظاهرات وول ستريت) وفي البرازيل والأرجنتين، وأخيراً في انتفاضات العالم العربي.

بات للسلطات الديكتاتورية عدو يصعب تطويعه والسيطرة عليه، وأصبح للجماهير وسيلتها في التعبئة والتحريض من دون أن تكون لها قيادة، وغدت الأحزاب التقليدية القائمة تلهث للحاق بالحدث من دون أن تتمكن من ذلك. هذا الفاعل الجديد لم تكن الحركات الاجتماعية تعرفه في القرون الماضية، ولا تزال عوامل التدخل التكنولوجي موضع سجال حول الحقيقي في دورها والوهمي في المهمات التي ترتبت على تدخلها. لكنّ الثابت أن أحداً لم يعد بإمكانه إدارة الظهر لثورة الاتصالات، في كل عمل سياسي أو جماهيري مهما كان حجمه.

وفي هذا السياق، صدر أدب غزير بغية دراسة هذا الموضوع ومراقبته، ولا يزال هذا النوع من الأدب يتوالى، على الصعيد العالمي والى حد ما في العالم العربي. ومن ضمن الكتابات الجادة، ثمة كتاب «شبكات الغضب والأمل، الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت» لمؤلفه الأميركي مانويل كاستلز (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة هايدي عبد اللطيف).

يرى الباحث أن كتابه يشكل محاولة لإلقاء الضوء على الحركات الاجتماعية التي عرفها أكثر من مكان في العالم، وإظهار ديناميتها وآفاقها في المساهمة في التحولات الاجتماعية. لا بد من الإشارة بداية الى أن الحركات الاجتماعية التي قامت، أو التي يمكن أن تقوم، تطرح علاقة السلطة في المجتمع. في الأساس، لم تقم حركة احتجاج في العالم، وآخرها في العالم العربي قبل سنوات قليلة، إلا جواباً اعتراضياً على السلطة وسياساتها، وهي سياسات قائمة على الاستبداد والديكتاتورية وحرمان الشعوب من حقها في ممارسة حقوقها السياسية، ومن الذل والمهانة التي وضعتها فيهما هذه الأنظمة، ناهيك بالفقر والعوز الناجمين عن فشل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية… لعل أحد النماذج الأخيرة عربياً، كان يتمثل في شعارات تلازم الحرية والكرامة والخبز وإسقاط النظام القائم.

ما يميز الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت، تأمين التواصل السريع بين الداخلين فيها، وإمكان التواصل مع كل المجموعات أينما كانت وبالسهولة القصوى. ومن الميزات أن كل فرد يمكنه أن يكون قائداً في الحراك، من خلال خبرته في إدارة التكنولوجيا. والإنترنت قادرة على تجييش الجماهير في شكل مذهل، وهو ما أثار الدهشة في العالم العربي الذي شهد حشوداً مليونية في الساحات، ما كان لها أن تحدث من دون شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن ميزات الحركات الجديدة أنها متفلتة من الوصاية السياسية للأحزاب القائمة، التي لم تستطع استيعاب الجديد الحاصل وعجزت عن فهم الدور الذي يمكن أن تلعبه، ففشلت في المقابل في أن تكون قيادة لهذه الحركات الاجتماعية. ينطبق ذلك على انتفاضات العالم العربي، كما على سائر الحركات الاحتجاجية التي قامت في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة وفي أوروبا.

هل يعني ذلك أن الحركات الاجتماعية افتقدت الى قيادة سياسية تمثل السلطة فيها؟ يجيب الكاتب بالسلب. في رأيه، إن هذه السلطة يتحكم فيها أولاً «المبرمجون»، ممن يملكون القدرة على برمجة كل واحدة من الشبكات الرئيسة التي تعتمد عليها حياة الناس، من قبيل الحكومة والبرلمان والمؤسسات العسكرية والأمنية والمالية والإعلامية وغيرها. وثانياً، هناك «المبدلون» الذين يشغلون الروابط بين الشبكات المختلفة، من قبيل تقديم أقطاب الإعلام في الطبقة السياسية، النخب المالية الممولة الطبقةَ السياسية، والشركات الإعلامية المتشابكة مع نظيرتها المالية. وتمارس هذه الحركات الاجتماعية السلطة المضادة للسلطة القائمة من طريق تكوين نفسها في المقام الأول، عبر اتصال مستقل عن سيطرة السلطة السياسية.

في معاينته عدداً من الحركات الاجتماعية التي حصلت، يقدم الكاتب جملة خلاصات خرج بها حول ما أنتجته هذه الحركات. لقد استطاعت أولاً أن تتكون في جماعة، واستندت الى العمل الجماعي الذي يشكل آلية نفسية تساعد على تجاوز الخوف، بل والتغلب عليه.

وفي بعض الحركات، تم احتلال بعض المؤسسات التي ترمز الى مواقع أساسية في السلطة. فالسيطرة على المكان ترمز الى السيطرة على حياة الناس. لكن المسألة الحاسمة في الحيز الشبكي يبقى التواصل المستقل. فاستقلالية التواصل هي جوهر الحركات الاجتماعية، لأنها تسمح للحركة بالتشكل، وتتيح لها الاتصال بالمجتمع بأسره بعيداً من سيطرة أصحاب السلطة على سلطة الاتصال.

إن نجاح الحركات السياسية والاجتماعية في إنزال الملايين الى الساحات، بمقدار ما كان عنصراً حاسماً في نجاح الانتفاضات أو الثورات، بمقدار ما تركبت عليه أوهام سرعان ما ظهرت وتسببت في إحباط في العالم العربي.

ثمة تمييز قام به الكاتب بين حركات اجتماعية استندت الى الشبكة الرقمية في البلدان المتقدمة، وبين تلك التي قامت في العالم العربي، حيث أمكن الأولى أن تفيد الى الحد الأقصى من استخدام الشبكة، وأن تتلمس النتائج الإيجابية للاستخدام في عملية التنظيم للقوى المتمردة. لم يكن الأمر ناجحاً في العالم العربي، خصوصاً على صعيد التثمير للحركات القائمة. بعضها يعود الى العناصر الذاتية، والآخر الى ردود فعل السلطات الديكتاتورية القائمة التي سعت بكل الوسائل الى إجهاض هذه الحركات وتحويلها في بعض الأحيان الى حروب أهلية.

في العالم العربي، سادت أوهام أن الإنترنت هي التي أشعلت الانتفاضات، وهي مقدمة خاطئة، لأن ما أشعلها هو انفجار الاحتقان الناجم عن الاستبداد والقهر والذل في كل الميادين. أما دور الإنترنت فكان في الاندماج بالحراك الذي نشأ ودفعه الى الأمام بقوة عبر نشره في كل مكان، ما أتاح للجماهير النزول بقوة. وهم آخر عربياً، أن الانتفاضات لا تحتاج الى قيادات تقودها، فعفويتها وحدها كفيلة بتحقيق التغيير وإسقاط السلطات القائمة. لذا انطلقت دعوات ضد التأطير والتنظيم، مستعيدة تجربة الأحزاب السياسية، من دون التمييز بين المبدأ في ضرورة الأحزاب الذي هو شرط أساسي للنجاح، وبين التجارب الفاشلة للأحزاب التي يمكن القول فيها ما لا يحد من السلبيات.

لعل النتائج التي انتهت اليها الانتفاضات العربية، واستلام قيادتها من الأحزاب المالكة قدرات تنظيمية من قبيل «الإخوان المسلمين»، خير دليل على وهم النظريات المتمسكة بالعفوية الجماهيرية طريقاً للتغيير. في كل الأحوال، ما عاد بإمكان، اليوم، أي فئة سياسية أو مدنية أو اجتماعية، الاستغناء عن الإنترنت وحاجاتها الماسة في كل عمل مهما كان نوعه وشأنه، وهو أمر يفرض نفسه على كل مكان في العالم.

اترك رد