بقلم: إبراهيم بن نبهان (*)
الزمن، رغم عدم إدراكه باللمس أو بالمشاهدة أو بأي عنصر من عناصر الحواس الخمس، فإن له وجوداً في الذهن يحسب على أساس الفعل الإنساني أو حركة الأشياء في الكون، حتى أصبح من أهم المعايير في الحياة البشرية، بل عليه تتوقف الحياة في تحديد مصيرها. والخوض في هذا الموضوع يتطلب وقتاً نظراً إلى محاوره الفلسفية العميقة، وما يتعلق بعلم الفيزياء والنظريات التي وضعت القواعد والمناهج الفلسفية للبحث في مفهوم الزمن.
إلا أن طرح موضوع علاقة الزمن بالفنون قد يشوبه الغموض ما لم يتم تحديد مفهوم الزمن ولو بالحد الأدنى من الفهم البسيط. هناك اتجاهان في تحديد مفهوم الزمن. أحدهما يقول: للزمن وجود مستقل عن المادة وهو مطلق وأنه حقيقة وليس فعل الذهن. والثاني: الزمن مطلق فلسفياً ونسبي فيزيائياً. أي أنه يتوقف على حركة الأشياء في الكون. أما بالنسبة إلى الفنون فقد قسمها الباحثون إلى تقسيمين: فنون زمانية وفنون مكانية. تشمل الفنون الزمانية، المسرح والشعر والرواية. أما المكانية فتشمل الفنون التشكيلية، الرسم، النحت، التصميم، العمارة، والخزف. ففي الفنون الزمانية يجلس الفرد يشاهد على خشبة المسرح حركة الأشخاص ويتابع سير الحكاية وهذا يستغرق (الزمن) وهكذا مع الشعر حيث وقت الاستماع للقصيدة.
أما في الفنون (المكانية ) فلا يقف المشاهد أمام اللوحة ليصرف وقتاً كالذي يصرفه في مشاهدة مسرحية، وكذلك أمام النحت أو العمارة. إذن على هذا الأساس فالفنون التشكيلية فنون (مكانية ). إلا أن بعض الفلاسفة اعتبروا هذا الاعتقاد خاطئاً اعتماداً على أن هناك اختلافات تلاحظ في طريقة استخدام الزمن في بعض الفنون وتوظفه توظيفاً مخالفاً يتماشي مع خصوصية العمل الفني. فـكان يقر بوجود اختلاف ما بين الحواس الخمس التي يقوم عليها الوعي الحسي المادي للأشياء من جهة وبين الحدس الباطني الذي يدرك الزمن كتقدير وتخمين نفسي من جهة أخرى.
خلقت تلك التباينات في فهم الفنون التشكيلية في ما يخص علاقتها بالزمن، فالموسيقى والشعر والمسرح والرواية عمل فني تتابعي وفق مراحل زمنية. وفن الرسم والنحت والعمارة والتصميم أعمال فنية ترى بلحظة زمنية واحدة، حيث يدرك فن الرسم وفن النحت والتصميم ككل من خلال نظرة واحدة لذلك العمل، لا يكون فيها تتابع زمني: بداية ووسط ونهاية إنما يسقط النظر مرة واحدة، يتضمن التأمل والفحص والتحليل، ولكن الا يستهلك التأمل والفحص والتحليل للعمل الفني زمنا؟
يمكننا أن نتأمل ذلكK وهي لحظة يتجسد فيها العمل الفني، خاصة في الفن المعاصر “فن الأداء، بحيث يتوقف المشاهد في لحظة زمانية تقوم على بداية وتحمل نهاية بانتهاء العرض الذي يقوم به الفنان. ففن الأداء يقوم على مفاهيم تكون بدورها مغذية لفكر الفنان وفكر المشاهد في نفس اللحظة من حيث أن الفنان يشارك بجسده وبتفكيره في اكتمال العمل، أما الجمهور فقائم على التأمل والتحليل والنقد والشرح والتأويل. الملاحظ أن خصوصية فن الأداء تكمن في قياس الزمان مع خصوصية الفضاء “المكان”. وهنا تحضر التجربة الجمالية بالنسبة للفنان لكونها تحتوي على معانقة روحية تتم في جدال بين المشهد البصري ووضعية الفنان التي هو فيها. وهنا يمكننا تسليط الضوء على تجربة السويسرية فيكتورين مولر وهي فنانة تجمع بين خصوصيات النحت و الرسم والأداء وتبرز خصوصيتها الفنية في شكل دينامكية روحية عاطفية من حيث وجودها في داخل نموذج نحتي مليء بالهواء.
تتلمس الفضاء الزمان والمكان، في نفس الوقت، تتأقلم فيهما محاولة في ذلك الإحساس بحواسها. فهي تسعى إلى نقل الأفكار والمفاهيم الفنية للمشاهدين ولتحدث ضجة فكرية تنبع من عمق المشهد. فالفنانة السويسرية تتواصل مع جمهورها عبر قوة فلسفية ومجازٍ رمزية تهدف عبرها إلى شد المتقبل واختبار قدرته الفكرية في التركيز على الأشياء. وتسعي إلى نقل المشاهدين فكرياً إلى حالة مختلفة وخير دليل عملها “الخط الزمني” “timeline”.
وهنا في هذا العمل كأننا بالفنانة فيكتورين مولر تبحث عن وجودها أو تريد أن تبين معنى للوجود بالنسبة إلى الجمهور تقترن بفلسفة فكرية موغلة في المفاهيم. وهنا يمكننا الحديث عن علاقة الفن بالفلسفة والوجود بحيث يذهب “هايدغر بأن ماهية العمل الفني، ليس تجربة ذات مبدعة، تدشن الجمال كقيمة، وتنتج أثراً استطيقياً يحمل نفس تلك الذات المبدعة، وحساسيتها وتاريخها الشخصي، ذلك أن فيلسوف الغابة السوداء يرفض كل تحديد للعمل الفني في علاقته بالذات أو الأنا الاستطيقية كما تذهب إلى ذلك الاستطيقا الحداثية.
الفن برأيه، لا يتعين إلا في مجاورة الوجود، وفي جوار الكينونة. إن الفن ”يحفظ حقيقة الوجود، ويهب الكينونة مسكناً تسكنه، ومفزعاً قدسياً تفزع إليه“. والفن لا يستحق أن يسمي فنا أصيلا، ولا يكون ذو قيمة بتلك التسمية، إلا حين يكون فسحة، وحين يدع الوجود يوجد. كذلك لا يكون الشعر فناً، حسب هايدغر، إلا بمقدار ما هو تسمية مؤسسة للوجود ولماهية كل الأشياء، “أهمية الفضاء والزمان من أهم القضايا الوجودية وبالتحديد في عالم الفنون التشكيلية وغيرها من الفنون الأخرى. وذلك لتحديد إنسانية الإنسان وحقيقة وجوده في الواقع هذا، في حدود الفن والفلسفة . أما ماذا يمكننا أن نقول عن الفن والعلم؟
*************
(*) باحث في الفنون التشكيلية، تونس.
الهوامش
G. Steiner: Martin Heidegger, trad par Denys de corona, Flammarion, 1978, P.174 .
M.Heidegger : Approches de Holderlin, Gallimard, 1962, p.55.
كلام الصور
اللوحة للفنان السعودي بدر بن عبدالمحسن