اللغة والهوية في الجزائر: تنوع أم صراع؟

■ الهوية كلمة مستحدثة لا أثر لها في الكتب والمعاجم العربية القديمة. وهي من المفاهيم التي دخلت اللغة العربية بواسطة الترجمة، مشتقة من الضمير المنفصل «هو» الذي يعود على الذات. والهوية، كما جاء في تعريف المعجم الوسيط، حقيقة الشيء أَو الشخص التي تميزه عَن غيره. وهوية الأمة هي سمات مشتركة أساسية، تحدّد شخصيتها الثقافية والحضارية، وتميزها عن الأمم الأخرى. والمجتمع الجزائري، مثل كثير من المجتمعات في العالم، يتألّف من مجموعات إثنية مختلفة.

والتنوع العرقي والثقافي نعمة ونقمة معاً، فإن انفتحت الأمم والمجموعات الإثنية على غيرها وتعاملت معها بحسن نية وتفهم واحترام وتسامح، أفضى ذلك إلى المحبة والتعاون والأمن والسلام، مثلما هي الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، التي استوعبت شعوبا وقبائل من أصول مختلفة، وإن انغلقت على نفسها وتعاملت مع غيرها بِنِيَّةٍ سيئة وازدراء وتعصب، أفضى ذلك إلى فقدان الثقة والتنافر والاضطراب والصراع، مثلما هي الحال في الجزائر التي تشهد صراع هوية ولغة منذ العهد الاستعماري، يقوده الأمازيغ والعرب.

ولحسن حظ الجزائر، فقد شاءت الظروف ألاّ يصعد هذا الصراع إلى هرم السلطة نتيجة عدم اهتمام المجموعات العرقية بالسلطة وقلة طموحها السياسي، لا سيما بعد تجربة العشرية السوداء الدامية والمدمرة. فما برح الصراع منحصراً في الحقل السوسيوثقافي.

لكنّ الوضع شهد تصعيدا مع مرّ السنين نتيجة التحول الديمقراطي الذي شهدته البلاد، مستفيداً من مزايا حريات التعبير والرأي والإعلام. وقد أخذ أبعادا خطيرة في السنوات الأخيرة، إذ وقعت صدامات عنيفة بين العرب والأمازيغ في ولاية غرداية في جنوب الجزائر خلّفت ضحايا ودمارا وفرَّقت أسراً جمعتهم الألفة وحسن الجوار لأجيال.

وأخذ الجدل منعطفاً جديداً مؤخراً مع بروز جيل جديد من الكُتاب الفرانكفونيين، يحرِّكهم الطموح إلى ارتقاء منصة النجومية وكسب الجوائز العالمية بقفزة واحدة، من خلال طعن مقومات المجتمع، ومنها لغته الرسمية، على شاكلة بوعلام صنصال وكمال داود الذي خوّل نفسه حقّ التحدث باسم الشعب الجزائري بكل عناصره العرقية قائلاً: «نحن الجزائريون ـ لسنا عربا» تحت تصفيقات الجمهور الفرنسي، وتغطية إعلامه، ومن فرنسا نفسها التي سعت طويلاً للتفريق بين العرب والبربر خلال احتلالها الطويل للجزائر، ولا تتردد اليوم في دعم كل من يستطيع رعاية مصلحتها وحفظ ثقافتها في مستعمرتها السابقة الجزائر.

وها هي اليوم مواقع التواصل الاجتماعي تفتح جبهة جديدة تتدفق من بركانِها حممُ السخط والكراهية والتعصّب العرقي، الذي لا يقل خطورة عن التعصب الديني، تتردد فيه عبارات متعصبي اللغة والهوية من الجانب الأمازيغي: «هذه أرض الأمازيغ، أرجعوا إلى شبه الجزيرة العربية!» على منوال العبارة العنصرية: «أرحل إلى بلدك أيها الأجنبي» التي نسمعها أحيانا في بريطانيا من ذوي العقول الضيقة، ويعاقب عليها القانون البريطاني الصارم في تعامله مع العنصرية.

واليوم ونحن نتأمل هذه الحرب الباردة بين أبناء الوطن الواحد، فإننا لا نجد بدا من التساؤل: إلى متى هذا الصراع؟ وما جدواه؟ ثم، ألا يمكن حلّ مسائل اللغة والهوية بطرق ودية، على أساس تقبل الآخر واحترامه والتعايش معه. وهل ثمة خيار آخر عدا التعايش الذي جمع الأمازيغ والعرب منذ أواخر القرن السابع للميلاد في أرض واحدة هي أرضهم الوحيدة، وليس لهم غيرها.

وفي هذه الأرض التي تعاقَبَ عليها ما لا يحصى من الأمم والحضارات المختلفة، من أمازيغ ورومان وعرب وإسبان وأتراك وغيرهم، ووقع ما وقع من تزاوج واختلاط، سيكون من السذاجة الإيمان بوجود أصول عرقية خالصة والتعصّب لها.

فالعرب ينتسبون إلى قبائل عديدة توافدت على هذه الأرض من بقاع مختلفة أثناء الفتح وبعده، فلا يمكننا أن نحدّد مواطنهم الأصلية بعد كل هذه القرون مثلما لا يمكننا أن نحدد المواطن الأصلية التي قدم منها الأمازيغ للإقامة في شمال إفريقيا.

والأمازيغ ينتمون إلى قبائل متنوعة لها أصولها وهوياتها، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال التحدث عن كيان أمازيغي موحّد أو لغة أمازيغية واحدة تستطيع أن تجمع شمل القبائل وتفرض نفسها على غيرها، وإنما مجموعة من اللغات المختلفة. وهذا ما أكده المؤرخ الفرنسي غابرييل كامب بقوله: «في الواقع، لا توجد اليوم لغة بربرية، بالمفهوم الذي تكون فيه انعكاسا لمجموعة تحس بانتماء موحد، ولا شعب بربري ولا عرق بربري».
وما قاله غابرييل وصف دقيق للواقع، فاللغات الأمازيغية كثيرة ومختلفة بحيث يتعذر التواصل بين مختلف الطوائف العرقية الأمازيغية بدون اللجوء إلى الترجمة أو لغة أجنبية. فمن اللغات الأمازيغية:

. قبائلية: وهي منتشرة في منطقة القبائل شمال الجزائر، وتضم مدنا مثل تيزي وزو وبجاية والبويرة.

. الشاوية: منتشرة في شرق البلاد، وتضم مدناً مثل باتنة وسوق هراس وتبسة وقالمة.

. المزابية: منتشرة في منطقة بني مزاب في غرداية في الصحراء.
التارقية: وهي لغة الطوارق، منتشرة في ولايات إليزي وتمنراست وأدرار في الجنوب.

. الشناوية: وينتشر استعمالها في جبال الشنوة في ولاية تيبازة والشلف.

. الشلحة: منتشرة في ولاية تلمسان والبيض على الحدود الجزائرية المغربية.

. أمازيغية تقارقرانت: منتشرة بالقرب من ورقلة وتقرت في الجنوب.

كثرة هذه الأصول واللغات تدلّ على أنّ صراع الهوية أكثر تعقيدا مما نتصور. كما تنذر بأنَّ هذا الصراع لن يقتصر بالضرورة على العرب والأمازيغ، وإنما قد يتسع في أي وقت ليفتح مواجهات خطيرة بين شتى الفصائل الأمازيغية نفسها التي تختلف في ما بينها هوية ولغة.

فلا مفر إذا من تقبل الآخر واحترام هويته ولغته، والسعي لترتيب هذه اللغات الكثيرة، حسب عدد الناطقين بها، واعتمادها في الدراسة والحياة العامة ومحاربة التمييز والجهوية وزرع بذور الشعور بالانتماء إلى الوطن الواحد، فذلك أسلم وأبقى.
فصِراع الانتماءات يؤثر تأثيراً سلبيا في الممارسات السلوكية للأفراد، ويثير التوترات والمخاطر في كنف الأسرة والمجتمع معا، ويهدد استقرار الوطن. وهو ما يؤكد ضرورة الإسراع إلى احتواء الوضع وجمع هذه الانتماءات في منظومة تسمح بتفاعلها في ما بينها على نحو إيجابي بناء، وفق الاحترام المتبادل، خدمة للمصلحة العامة وحفظا للأمن وحماية لوحدة الوطن. فمصلحة الوطن تسبق مصلحة المجموعات الإثنية، ومصلحة المجتمع تسبق مصلحة الأفراد فيه.

فما يحدث اليوم بين أبناء الوطن الواحد ينذر حتما باحتمال انفلات الوضع وانفجار حرب عرقية دموية طويلة في أي وقت، ستكون حرب الجزائر الأهلية الثانية، إن لم يتم إخماد المشاعر المتأججة ومحاربة التعصب، وزرع بذور المصالحة والثقة والاحترام المتبادل، وإرساء ثقافة تقبل الآخر واحترام لغة الآخر وثقافته وتراثه والتعايش مع أفراده، والنظر إلى المستقبل المشترك بدلاً من حبس الأنظار في أزمنة غابرة لن تغيّر الواقع، وهدر الوقت في التساؤل عمَن سبق الآخر إلى هذه الأرض التي يحيا فيها العرب والقبائل معا منذ مئات السنين، فأصبحت منهم وأصبحوا منها، وليس لهم أرض سواها.

لن يستطيع الإنسان أن يغيّر التاريخ. لكنه بالتأكيد يستطيع أن يغيّر سلوكه ليكون أكثر تعقلا وتسامحاً وتقبلاً للآخرين ومراعاةً لمشاعر بشر آخرين يحيون بجواره، شاء القدر أن يختلفوا عنه في الأصل واللغة وخصائص أخرى. ويستطيع أيضًا أن يرسم مستقبلاً آمناً ومزدهراً له ولذريته، بعقله وحكمته.

****

(*) القدس العربي اللندنية.

اترك رد