متعة الإقامة في الحرب الأهلية

كشف قرار المجلس العدلي بإعدام قتلة بشير الجميل كم أن لبنان، نظاماً سياسياً وطوائف متعددة ومجتمعاً أهلياً وحتى مدنياً، ما يزال يقيم في الحرب الأهلية، يرضع من حليبها ويتغذى من لبنها. مع صدور الحكم، بدا المجتمع اللبناني في حالة من الانقسام الذي يذكر باصطفافات الحرب الأهلية. مقابل الترحيب، انطلقت الاتهامات بالعمالة، فجاء الرد بالعمالة المضادة. استعيدت عبارات التخوين المتبادل، وصدحت وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما تحمله من سقط المتاع من هذا الطرف أو ذاك، استعيدت ثقافة ومفردات الحرب الأهلية.

يتساءل المرء عن الدوافع التي جعلت المجلس العدلي ينبش موضوعاً يعود إلى زمن الحرب الأهلية، ومن الذي أوحى له بهذا الاستحضار وما الغاية منه؟ فبشير الجميل ليس الوحيد من ضحايا الاغتيال، قبله كان هناك اغتيال لرئيس الجمهورية رينيه معوض، فلماذا لم يبت بملفه، وقبله زعيم وطني هو كمال جنبلاط، وهناك ملف المفتي حسن خالد… وغيرها من الملفات العالقة في المجلس العدلي.

لم يكن قرار الحكم باغتيال بشير الجميل وحده الذي كشف حال المجتمع اللبناني. فالضرب على وتر هذه الحرب يمارسه النظام اللبناني الطائفي منذ زمن، في تسليطه الطوائف وزعمائها على الشعب، وفي إخضاع المواطن من الولادة حتى الوفاة إلى الطائفية، وفي جعل التحريض الطائفي مادة شبه يومية في ممارسته واتخاذ قراراته. هذا النظام كان ولا يزال مولّداً للانقسام الأهلي ونافخاً في نار الحرب الأهلية.

في الأشهر الماضية وأخيراً، عاش البلد وسط أجواء وتصريحات كلها تصب في إذكاء الصراع الأهلي. استعيدت نغمة الغرباء وخطر توطينهم، بعدما كان التركيز يطاول الفلسطينيين، استحوذ النازحون السوريون على الحيز الأساس في التحريض العنصري، بحيث عاد اللبنانيون يظهرون من «الإبداع» في هذا المجال، فصوروا النازحين مصدر كل الأخطار والسبب في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والخطر على الكيان. هذا التحريض كان من قبل الطوائف مجتمعة. وفي موازاتها، شكلت الحرب السورية والتدخل فيها من قبل حزب الله، وقبله من أخصامه، مادة ملتهبة في التحريض وتخويف اللبنانيين، خصوصاً المسيحيين منهم، وإفهامهم أن تدخل الحزب في الحرب السورية منع عنهم سيطرة داعش على مناطقهم وسبي نسائهم.

أما ممارسات الطوائف بين بعضها بعضاً، وبين الطوائف الأخرى، فكلها يرشح منها زيت الحرب الداخلية المستعرة. في المسيحية السياسية، عاد الصراع لينفجر بين التيار الوطني الحر وبين القوات اللبنانية، وهو صراع له جذور عميقة تعود إلى زمن الإلغاء. إذا كان ممثلو الطرفين يتحاشون، إلى الحد الممكن، إبراز هذا الصراع، فإن الانفجار على مستوى القاعدة جار من دون توقف. ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي للطرفين، سيرى من عجائب الشتائم والذم ونبش القبور ما لا حد له. في المقابل، يستعيد التيار الوطني الحر منطق استعادة «الحقوق المسيحية المسلوبة» منذ اتفاق الطائف، ويرى أن الفرصة مناسبة لاستعادتها، عبر إثارة الغرائز المسيحية، والشحن بمنطق استعادتها. فها هو وزير الخارجية ورئيس التيار يجول في الجبل، مصرحاً بانعدام حصول المصالحة، وداعياً إلى التكتل المسيحي لاستعادة ما كان لهم. نجح الوزير في خلق استنفار درزي ضد التيار، وبدا كأن الوزير يخطط لحرب الجبل مجدداً.

في الساحة الإسلامية، شكل الاحتفال بمناسبة عاشوراء وما رافقها من تحريض مذهبي إعلاناً بأن الحرب المتواصلة والمتناسلة بين السنة والشيعة هي حرب قائمة إلى الأبد. بديلاً عن جعل المناسبة الحزينة مناسبة لمجابهة الطغيان من جانب أي حاكم، ودعوة إلى العدالة الإنسانية، حفلت المناسبة في كل مكان أقيمت فيه بخطابات استثارت مشاعر الكره والدعوات إلى الانتقام لدم الحسين. لم يكن ينقص هذه الدعوات سوى امتشاق السلاح وتنفيذ عقوبة الإعدام بقتلة الحسين من أبناء المذهب الآخر المقيم في البلد. في جانب آخر، اعتبر مفتي الجمهورية أن المسلمين مضطهدون بالنظر إلى أن يوم الجمعة ليس يوم عطلة، وأن هذا يمس مقدساتهم. باتت هموم الطائفة السنية محشورة في هذا الإعلان. وخلال نقاشات المجلس النيابي، جال بعض النواب وصالوا في الإعلان عن الإحباط الإسلامي وحرمان الطائفة من حقوقها، بكل ما يعنيه ذلك من التهيؤ لاستعادة هذه الحقوق. في السياق نفسه، لم يحرمنا زعماء سياسيون من الطوائف المسيحية من أن مذاهبهم تعاني الحرمان وسلب حقوقها. منطق ساد عشية الحرب الأهلية، وكان أحد عناصر اندلاعها.

يبقى أخيراً ما يدهش في هذه الخطابات، أن حامليها والمتعصبين لها هم معظمهم من جيل الشباب الذي ولد بعد انتهاء الحرب الأهلية الساخنة. تؤمّن مواقع التواصل الاجتماعي وحسن استخدامهم لها فرصاً للتعبير عن المكنون داخلهم. لا يدرك هؤلاء الشباب أن البلد عاش حرباً أهلية طاحنة ومدمرة، فلم يستفد اللبنانيون من دروسها، فعاد أبناؤهم يشحنون هذه الحرب وينفخون بنارها.

 

 

اترك رد