في غمرةِ البشاعة، وفي زمن الانحطاط الفنّي ورحيل الإبداع، وفي زمن تقهقر الشّعر وتحوّله إلى طلاسم ومربّعات كلماتٍ متقاطعة، وإلى إسفافٍ لغويٍّ أين منه إسفافُ عصر الانحطاط، وتحوّلِ الرّسم إلى مكعّباتٍ ومربّعاتٍ وزوزقةِ ألوان تنفر منها العين قبل الذوق، وفي زمن تحوّل الرّقص إلى حركاتٍ شيطانية وإلى قفزٍ أين منه قفزُ السعادين على أغصان الشجر، وفي زمن تحوّل الموسيقى إلى قرقعاتٍ وأصواتٍ تؤذي السَّمعَ وتودي إلى أوجاعٍ في الرّأس لا تنتهي، وفي…وفي…وفي…تولدُ هناك إبداعاتٌ من نُطَفٍ أصيلة في رحِم الحياة، تُبقي على شيءٍ من الأمل، لتُبشّرنا بأنّ الأصالة لا تموت، وبأنّ الموهبة هي أساس العطاء الإبداعي، وبأنّ الزنبقة لا تخنقها الأشواكُ مهما تكاثرت، لأن مصيرها اليباس في نهاية الربيع، وبأنّ الريحانة لن يموت عطرها مهما تلبّد الجوُّ بضباب الخريف.
في غمرة هذا كلّه كانت ولادة ريشةٍ مبدعةٍ خلاّقةٍ في الرسم التشكيلي، هي ريشةُ الفنانةِ اللبنانية البعلبكية خولة الطفيلي.
تخرّجت في كلّيّة الفنون في الجامعة اللبنانية بإجازةٍ في الفنّ التشكيلي، لتنالَ بعدها شهادة الماجستير في الاختصاص عينه، ولتشرَعَ في تحضير أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في هذا الاختصاص.
شاركت في عددٍ وفيرٍ من المعارض المنفردة والجماعية، ليس آخرها معرض “البورتريه”بالأكواريل، إذ قدّمت مئة بورتريه لشعراء وفنّانين وأدباء وأصدقاء ورجالات في الدين والعلم والسياسة، لبنانيين وعربٍ وأجانب، كان، في رأيي، من أنجح المعارض التي شاهدتها، إنْ لم يكن أنجحها على الإطلاق..وقد نال قسطًا وفيرًا من المدح والثناء، تصريحًا وكتابةً، وفي غير وسيلةٍ إعلامية.
يقول لسنغ : ” الرسم شعرٌ أخرس والشعر رسمٌ ناطق.”
والفنُّ يحفر هُوَّةً بين ظاهرِ هذا العالمِ الرديء والقابلِ للهلاك ووهمِهِ من جهةٍ، والمضمونِ الحقيقيِّ للأحداثِ من الجهةِ الأخرى، كي يُلبسَ هذه الأحداثَ وتلك الظواهرَ واقعيةً أعلى وأسمى، متولِّدةً من الروح. هكذا نجدُ أنّ ظواهرَ الفنِّ، البعيدةَ عن أنْ تكونَ محضَ ظواهرَ وأوهامٍ بالنسبة إلى الواقعِ الجاري، تمتلكُ واقعيةً أسمى، ووجودًا أكثر حقيقةً. فأسمى مقصدٍ للفنِّ هو ذلك المشتركُ بينَه وبين الدينِ والفلسفةِ، فهو كهذينِ الأخيرين، نمطُ تعبيرٍ عن الإلهيِّ، وعن أرفعِ حاجاتِ الروحِ وأسمى مطالبِهِ.
والفنُّ الحقيقيُّ هو من إبداعِ التخيُّلِ Fantaisie ، وليس من إنتاجِ الخيالImagination، لأنَّ الأولَ خيالٌ مبدعٌ، بينما الثاني خيالٌ عاديٌّ يعتمدُ على الذاكرةِ، كما يقول هيغل.
بين الخيالي والتخيُّلي فرقٌ كبيرٌ، فإذا كان الأول يستعينُ بالذاكرةِ لاستعادةِ شريط الصور، فإنَّ الثاني (التخيُّلي) يقول: أُريد أن تُلقي روحي ضوءًا على الأشياء، وأن أعكس هذا الضوء على الأرواح الأخرى، لأنّ الفنان الكبير لا يرى في العالم ما يُعجبه، لذلك كانت صرخة بودلير الشهير: L’Art, c’est faire changer le monde. . الفن هو أنْ تُغيِّرَ العالم.
وإذا كنّا نريدُ أن نعطيَ الفنَّ هدفًا نهائيًّا، فإنه لا يمكنُ أن يكونَ سوى هدفِ كشفِ الحقيقةِ، وتمثيلِ ما يجيشُ في النفسِ البشريةِ تمثيلاً عَينيًّا . وهذا الهدفُ مشتركٌ بينَه وبينَ التاريخِ والدين.
موضوعاتُ لوحاتِ خولة الطفيلي هي هي خولة نفسها، هي انطباعاتُهُا وعواطفُهُا إزاءَ الطبيعةِ، لأنها، على رأي ديلاكروا، تنظرُ إلى نفسِهِا لا إلى ما حولها. فخولة لا ترسمُ بالألوانِ وإنّما بالعاطفةِ، من هنا تجدُ لوحتَهُا قصيدةً مُغنّاة، أو سيمفونيةً تُحاكي أصداءَ الرياحِ وحفيفَ أوراقِ الشجرِ، وخريرَ السواقي الشتويةِ في ليلةٍ ميلاديةٍ يركعُ فيها الكونُ بأسره ليُسبِّحَ خالقَه..
ما يأخذني عند هذا الفنّانة هو دقّةُ الريشة في بدعِ الحركة واللون، لأنها غائصة في أعماق الكلاسيكية، القديمة منها والحديثة، لتخرج منها إلى عوالم المدارس الفنّية الأخرى، ولترسم، لاحقًا، خطًّا خاصًّا بها، يُحدّد هوّيتَها، ويُظهر شخصيتها المتفرّدة، فالفنّانُ، في النهاية، هو أن يوضّح الفرق بينه وبين غيره، لذلك أجزم بالقول: إما أن يكون هناك فنّانٌ ولوحة، أو شاعرٌ وقصيدة أو لا يكونان.
خولة الطفيلي أمينةٌ لريشتها، وصادقةٌ معها، وإذا كان الفنُّ، في بعض الحالات، هو تعويضٌ عن نقص، فإن خولة تساعد المشاهد على هذا التعويض قبل أن تُساعد نفسها، فالمشاهد لا يمكنه إلاّ أن يخرج من معرض رسومها صافي السريرة، قرير العين والبال، وإذا اعتراه قلقٌ ما، فإنه قلق الرّاحة النفسية، بحيث تتحوّل رسومها إلى مهدّئاتٍ يحتاجها واحدنا في زحمة الحياة الثقيلة والمُتعبة.
لقد قلت إنها أمبنة لريشتها، وأمانتها هذه جعلتها تُعطي مدينتها بعلبك الحبَّ والحنان، فانكبت عبى هياكلها تحاكيها وتناجيها، بأعمق ما فيها من أسرار، وبأدقّ ما في فنِّها من إبداع… من هيكل جوبيتر الشامخ بعمده الستة، إلى هيكل باخوس الراقد المطمئن، والغافي في سكرته الجمالية، إلى كل نقطةٍ من نقاط القلعة، فأعادت إحياء ماضٍ غبر، كان فيه الفنُّ مزاملاً للإله في برء الجمال…
نعم، لم تترك خولة الطفيلي قلعة بعلبك وحيدة مستوحشةً في هذا الزمن التَّاعس، فراحت تتحشّر بها، بكلّ حجرٍ من حجارتها، وتسرد حكاياتها التي تشبه الأساطير، في جوٍّ عابقٍ بالإبداع والسّفر في عالم الخلق.
رُبَّ قائلٍ إن خولة الطفيلي تقليديةٌ في رسومها عندما تنقل ما تراه عيناها، وبذلك يكون فنُّها تقليد الطبيعة على حدِّ قول أفلاطون في نظريته الشهيرة “المحاكاة”، لكنني أقول إنّ خولة لم تقلِّد بقدر ما زادت على الخلق خلقًا، فوصل إلينا الجماد حركة، والموت حياةً، وتحرّر اللون من هويته ليُصبح مزيجًا من عاطفةٍ وشعورٍ وحياةٍ ، وليكتسب هوّيةً جديدة هي اللاهويّة، وهنا يكمن سرُّ الإبداع عند هذه الفنانة الطموحة والعنيدة في سبيل الوصول إلى ما هو أرقى وأنقى.
بوجود خولة الطفيلي وأمثالها من الفنّانين اللبنانيين، نستطيع القول: إنّ بلدنا لن يموت مهما اشتدت أزماته، وقويت عليه أيادي الظلم والجهالة.