في سنوات المراهقة وبواكير الشباب، كان الدمع عزيزًا؛ إذ البكاء لا يليق بالرجال. لكن حزنًا كالطوفان، كان يجتاح أسوار النفس العالية كل بضع سنوات. في ذاك الزمان كانت قصص الحب المجهضة، وخيانات بعض البشر، عواصف النفس وأعاصيرها. وحين تنهار سدودي، كنتُ أعيشُ لحظات الاستسلام لطوفان البكاء.
كنتُ أكره نفسي بعدها؛ أنظر في مرآتي، وأسدد البصر إلى عينيّ، وأقول: أيها الفتى: لن تُكرّر هذا مرة أخرى. ثم أقضي سنوات، لا تكاد تولد في عيني دمعة حتى أقتلها. وأقول لنفسي، غدًا يبيَض الشعر، وتمتلك الحكمة، وتجف ينابيع الدمع الضحلة، وتصبح كالأرض الرملية، لا يمكن أن يتفجر فيها نبع مهما كانت ضربات الفأس قوية. كنت تواقًا إلى الوقت الذي تصبح روحي فيه صلدة كالجرانيت؛ وكنتُ على أتم الاستعداد للتخلي عن أحاسيس البشر كي أُصبح عصيًّا على الألم.
لكنّ الغد حمل إليّ عكس الأمنيّة. فأنا الأربعيني في عمر نُبوة، لم أفلح في تجفيف منابع بئر الدمع الغائر، بل علا الماء حتى طغى؛ فأضحيتُ أعيش زمن الدمع الصامت المترقرق في العينين بين الفينة والأخرى. عجيب أمر النفس، إذ يزيدها العمر والنضج تضامنًا وتعاطفًا، وحساسيةً، لآلام الآخرين. مهما بلغ طوفان الآلام الشخصية التي تدهمني، لا أبكي نفسي، ولا يُفجعني أيُّ من شأني؛ ومهما يكن الفقدُ الشخصي كبيرًا، يكن صبري أكبر.
ومع ذلك، فإن الدمع الصامت غدا يتلألأ في عيني دومًا، ينساب حين أحتضن طفلا يتوجع، أو عجوزًا يتألم. تفتك بي مشاهد ويلات الحروب القذرة، ومناظر الفقر المُذل، وانكسارات البشر أمام سلطة لا ترحم. أتلوى حين أرى بشرًا يتجرعون كئوس الظلم المُرّة، صامتين، صابرين؛ لأنهم لا حول لهم ولا قوة.
أتألم حتى للرديئين من البشر، حين تنكسر نفوسهم، وتغمرهم مهانة يستحقونها بما كسبت أيديهم في أعمار شقيّة. الآن أفهمني على نحو أفضل، فأنا لم أعد أبكي إنسانًا، بل أبكي الإنسانية. وبدلا من حلم الماضي بأن أصبح حجرًا صلدًا، سأدرب نفسي، ليس على قهر آلام التعاطف مع البشر، بل على حجب أثره عن أعين الرديئين من البشر، المشوّهة نفوسهم كأرض خربة، وهذا غاية ما أطمح فيه.