(حَولَ كِتابِ “خَمِيلَةُ الياسَمِين” لِلأَدِيبِ جوزف مهنَّا)
“خَمِيلَةُ الياسَمِين”، جَدِيدُ الأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا، هَيكَلٌ مَرمَرِيُّ الجُدُرِ والأَبهاءِ، سامِقُ الأَعمِدَةِ والأَبراجِ والقِباب. أَمَّا وُلُوجُهُ فَيَتِمُّ عَبرَ خَمسَةِ أَبواب.
أَوَّلُها، “تُراثِيَّات”، يُفضِي إِلى أَركانٍ قُدَّت حِجارَتُها مِن مَقالِعِ قُرانا في زَمَنِها الهَنِيءِ الجَمِيلِ، صَوَّانِيَّةٌ صَلْدَةٌ لا تَخشَى الزَّعازِعَ والأَعاصِير. نَحتَفِي فِيها، مع أَدِيبِنا، بِبَراءَةِ العَيشِ الَّذي كانَ، بِتَناهِي هُمُومِهِ وبَساطَتِها، مِن تَنجِيدِ الفُرُشِ واللُّحُفِ، وتَبيِيضِ الأَوعِيَةِ المَنزِلِيَّةِ، وتَجلِيخِ المِقَصَّاتِ والسَّكاكِينِ، وسِفْرِ التَّنُّورِ السَّعِيدِ الذِّكرِ وما كان يَضُمُّ في جَناحَيهِ مِن أُلفَةِ القُرَى، إِلى الكَرَكَةِ المُبارَكَةِ وعَرَقِها الَّذي يَطِيرُ بِالرُّؤُوسِ، ويَشِيلُ بِالهِمَمِ، ويَملأُ بِالغِبطَةِ أَضلُعًا أَضناها وَلَهٌ أَو هَمٌّ أَو فِراق.
ثُمَّ هُناكَ، لِصْقَ هذه القَرَوِيَّاتِ الحَمِيمَةِ، صَنْعَةُ الحَفْرِ على الزُّجاجِ، بِكُلِّ ما فِيها مِن فِطرَةِ الفَنِّ، ونَباهَةِ أُولئِكَ الَّذِين مَنَّ اللهُ عَلَيهِم بِمَوهِبَةِ الإِبداعِ بِالعُدَّةِ البِدائِيَّةِ، قَبلَ أَن يَأتِيَ العِلمُ بِمُنجَزاتِهِ الَّتي تَكادُ أَن تَستَغنِيَ عن الإِنسانِ، وتَقُومَ عَنهُ بِجُلِّ أَعمالِه.
والبابُ الثَّاني، “مِن قِرَى الرِّيف”، فَإِلى لَوحاتٍ ساحِرَةٍ لِشَخصِيَّاتٍ مِن ماضِينا، تَنبُضُ بِالحَياةِ، وتَتَحَرَّكُ بَينَ السُّطُورِ، وتَقفِزُ إِلى الذَّاكِرَة، لَكَأَنَّها أَشباحٌ مِن المَجهُولِ، تَأتِي بِالفَرَحِ ولا تَأتِي بِالرُّعبِ، وهذا عائِدٌ لِمَقدِرَةِ الكاتِبِ المُمَيَّزَةِ الَّتي تَستَحضِرُ مَن غَبَرُوا وَتُجَسِّدُهُم حَتَّى لَتَخالُهُم بَشَرًا أَسوِياء.
وثالِثُ الأَبوابِ، “قُدُسِيَّات”، فَيَقُودُنا في رَهبَةِ التَّجَلِّي، وخُشُوعِ الصَّلاةِ، إِلى أَطهَرِ المَزاراتِ، إِلى عَذراءَ إِزارُها الطُّهْرُ، وإِلى ابنِها الطِّفلِ الإِلهِيِّ، ثُمَّ إِلى مَن تَسَمَّرَ طَوْعًا على خَشَبَةٍ لِيَرفَعَ عَنَّا عارَ الأَزمِنَةِ، ويَرفَعَنا مَعَهُ إِلى حَيثُ لا يَكُونُ “مَوتٌ ولا نَوْحٌ ولا صُرَاخٌ ولا وَجَع”(1).
هذه الـ”قُدُسِيَّاتُ” هي، بِحَقٍّ، صَلَواتٌ تَكشِفُ قَلبًا مُنسَحِقًا في حُبِّ العَذراءِ وابنِها، ونَفْسًا نَقِيَّةً تَبكِي لِخَطِيئَتِها لأَنَّها تُدرِكُ نُورَ الأُفُقِ، ولكِنَّها تَسقُطُ في ظُلمَةِ الدَّربِ، في لَحَظاتِ ضَعْفٍ وتَوانٍ.
في مُقَطَّعاتِهِ هذه نَراهُ “مُتَفَجِّرًا كَالسَّيلِ حُبًّا”(2)، وإِيمانُهُ دافِقٌ طَهُورٌ بِرَبٍّ خالِقٍ أَحَدٍ، وفي بَثِّهِ نَفَسٌ صُوفِيٌّ خالِصٌ، يُذَكِّرُ بِانخِطافِ أُمِّ الخَيْرِ رابِعَةَ العَدَوِيَّة في حُبِّها الإِلهِيّ.
يَقُول: “دُمُوعِي أَجنِحَةٌ إِلَيكَ يا يَسُوع. مَن مُؤْنِسٌ سِواكَ وقد أَجهَمَتْ دُرُوب…”(3).
فَيُعِيدُنا بِالذِّكرِ إِلى صَيْحَةِ العَدَوِيَّة:
“أَنتَ رُوحُ الفُؤادِ أَنتَ رَجائـِي أَنتَ لِي مُؤْنِسٌ وشَوقُكَ زادِي”.
وفي بابِهِ الرَّابِعِ، “سِندِيانٌ في العاصِفَة”، يَبسُطُ صاحِبُنا نَوْرَهُ في مَحطَّاتٍ أَدَبِيَّةٍ، وفِكرِيَّةٍ، خَلَّاقَةٍ في مَضامِيرِها، ويَدعُونا إِلى سِفْرٍ مِنَ المَوَدَّاتِ عَرِيقٍ، هو مِن مُتَلازِماتِ خُلُقِ هذا الأَدِيبِ المُحِبِّ، الوَفِيِّ، الَّذي يَفرَحُ بِالبَدْعِ أَنَّى وُجِد، ويَرفَعُ لِأَجلِهِ الأَنخاب.
فَها كِبْرُهُ الَّذي لا يُجارَى، وقد دَبَّجَ الرَّصِيعَةَ الغالِيَةَ في صَدِيقٍ لَهُ، شاعِرٍ، يُقَطِّرُ مِن شَقِّ قَلَمِهِ هذا الوَفاء: “الله! يا صَدِيقي، كَم أُكَرَّمُ وأَنا أَقِفُ اليَومَ في مِحرابِكُم أُصَلِّي، وأُصَلِّي…”(4).
والبابُ الخامِسُ، الأَبرَزُ، فهو البابُ الرَّئيسُ الَّذي تَتَفَرَّعُ إِثْرَهُ باقِي الأَبوابِ، أَلا وهوَ بابُ اللُّغَةِ المُتَفَرِّدَةِ في اللُّغاتِ، لا تُشبِهُ غَيرَها، ولا تَحذُوها الحَذْوَ أُخرَيات. حَمَلَ صاحِبُنا لِواءَها مُذْ كَتَبَ، فَراحَ في أَسفارٍ طَويلَةٍ يَلِجُ بُطُونَ أُمَّهاتِ المَعاجِمِ، يُفَتِّشُ في ثَناياها عن دُرِّهَا المَكنُونِ وَإِبرِيزِها الخَبِيءِ، ويَكشَحُ تُحَفَها مِن غُبارِ الإِهمالِ، ويَعُودُ مِن مُغامَراتِهِ الشَّيِّقَةِ سِندَبادًا تَفِيضُ صَنادِيقُهُ مُعجِزاتٍ صَقَلَتها قُرُونٌ طِوالٌ ماسًا نادِرَ الخامَةِ، سِحرِيَّ البَرِيق.
هذا الكِتابُ يَستَأهِلُ احتِفاءَ قَومٍ بِقائِدِهِم العائِدِ بِأَلوِيَةِ النَّصْر.
***
مُتَفَرِّدٌ، هو، في كِتابَتِهِ، لا يُقَلِّدُ ولا يُقَلَّدُ. تَعرِفُ صِياغَتَهُ أَنَّى قَرَأتَها، حَتَّى ولو استُعِيرَ لها اسْمُ مُنْشِئٍ مَجهُول. أَوَلَيسَتِ اللُّغَةُ هِيَ هُوِيَّةُ الكاتِبِ، كما يَرَى الرِّوَائِيُّ الأَمِيركِيُّ فِيلِيب مِيلتُون رُوث؟!
سَمْتُ صَدِيقِنا يُفضِي إِلى مَطَلَّاتٍ على جَنَّتِهِ الوارِفَةِ الغَنَّاءِ، المَرصُودَةِ، المُسَوَّرَةِ بِقِلاعٍ مَنِيعَةٍ، وفُرسانٍ مَرَدَةٍ، حتَّى لَيَستَحِيلَ امتِلاكُ جُزْءٍ مِنها، أَو ادِّعاءُ مَثِيلَتِها. على أَنَّها مُتاحَةٌ لِلأَبصارِ والبَصائِرِ، يُستَمتَعُ بِغِناها وأَلوانِها وعَبِيرِها، ولكِنْ يَحُولُ دُونَها سِياجُها المَسحُور.
ويَقُولُ بَعضٌ: ولكِنَّ لُغَةَ الرَّجُلِ تَستَعصِي إِلَّا على قِلَّةٍ مِن النَّاسِ، هُم المُتَمَرِّسُونَ بِالعَرَبِيَّةِ، النَّاذِرُونَ في مِحرابِها الكَثِيرَ مِن ضِياءِ المُقَل.
نَعَم… هو هذا، فَقَلَمُهُ لا يَستَسِيغُ إِلَّا شَهْدَ الصُّخُورِ العالِيَةِ، حَيثُ لا تُحَوِّمُ إِلَّا النُّسُورُ، ووَلِيمَتُهُ وَلِيمَةُ مُلُوكٍ، ودِيوانُهُ دِيوانُ سَراةِ الحُرُوف.
هو يَطمَحُ أَن يَرفَعَ القارِئَ إِلى رِحابِهِ العُلَى، لا أَن يَتَسَكَّعَ مَعَهُ في الأَزِقَّةِ المَطرُوقَة. كما يَسعَى إِلى خَلقِ نَهضَةٍ في لُغَةٍ طالَ سُباتُها، فَخَشِيَ عليها أَن تَصِيرَ في المَوات. أَلا رَحِمَ اللهُ عَمِيدَ الأَدَبِ العَرَبِيِّ طهَ حُسَين الَّذي قال: “الوَظِيفَةُ الأُولَى، العَمَلُ الأَوَّلُ، المَنصِبُ الأَساسِيُّ لِكُلِّ أَدَبٍ إِنَّما هُو أَن يَرفَعَ النَّاسَ إِلَيهِ لا أَن يَهبِطَ هو إِلى النَّاس”(5).
يَكتُبُ بِالإِيقاعِ الواحِدِ، والخُطَى الواثِقَةِ، فَلا خَلَلَ في سِياقِهِ آتِيًا مِن تَنَطُّحِ تَعبِيرٍ على آخَرَ، أَو هُبُوطٍ مُربِكٍ، أَو تَكرارٍ سَقِيمٍ، أَو نَشازٍ، أَو تَرَهُّلٍ، أَو فُتُورٍ، أَو نَمَطِيَّةٍ بَلِيدَة. فَمُواءَمَةُ الأَلفاظِ المَعانِيَ والصُّوَرَ في أَتَمِّهَا، لَكَأَنَّ صاحِبَنا، مُنْشِئًا، يَرصُفُ النُّوتاتِ لِسِيمفُونِيَّةٍ سَتَعبُرُ الحِقَب.
وتَتَناسَقُ رَهافَةُ لُغَتِهِ، وجَرْسُها، ونَسِيجُها المُتَخَيَّرُ، ورَصْفُها المُنتَخَلُ، ودَلالاتُها الثَّاقِبَةُ، معَ سُمُوِّ المَوضُوعَةِ المَطرُوحَةِ، فَالمَقالُ يُوائِمُ الحالَ، والصُّبْحُ لا يُستَقبَلُ إِلَّا بِابتِسامَة. يَقُولُ، مُخاطِبًا العَذراءَ مَريَم: “… أَنا الكَرَّامُ الَّذي أَوهَنَت عَزِيمَتَهُ وُعُورَةُ الطَّرِيقِ، وأَثخَنَت نَفسَهُ على تُخُومِ الشَّهَواتِ، جِراحُ الخَطِيئَةِ، وسَرَقَ السَّفَرُ في خَمرَةِ الأَيَّامِ ودُجْنَتِها لَونَ عَينَيهِ، فَتَلَبَّسَهُ سَرابُ الضَّياع…”(6).
ولَرُبَّ صَرخَةٍ يُطلِقُها، تَعبُرُ القَلبَ شِهابًا لا يَذوِي وَمِيضُهُ، وحِكمَةً تَثبُتُ بِالبالِ، ويَتَلَقَّفُها اللِّسانُ كُلَّما شِيْمَ في العُنفُوانِ غُبارٌ يُلَطِّخُ أَردانَهُ الوضَيئَة. يَقُولُ: “فَالجِباهُ المُنسَحِقَةُ لا تَعرِفُ سَبِيلًا إِلى الحَياة”(7).
مَعَ “تُراثِيَّاتِهِ” نَعُودُ إِلى أَصالَةِ الرِّيفِ، وبَساطَةِ القُرَى، وبَراءَةِ ابنِ الجَبَلِ، والعَيشِ الهانِئِ الَّذي لا تُكَدِّرُهُ هُمُومٌ قاتِلَةٌ، ودِفْءِ الأَيَّامِ الخَوالِي.
أَمَّا كَيفَ تَأَتَّى له هذا الجَمعُ السِّحرِيُّ بَينَ عَفْوِيَّةِ المَوضُوعاتِ وبَساطَتِها والتِصاقِها بِالعامَّةِ، والبَلاغَةِ العالِيَةِ في بَيانٍ مُعْجِزٍ عالِي المُرتَقَى، مِن دُونِ أَن يَنتَقِصَ تِلقائِيَّةَ المُتَناوَلِ، أَو يُشَتِّتَ استِغراقَ القارِئِ في حَمِيميَّاتِ الذِّكرَياتِ، وأَجواءِ الحَنِينِ، والاستِرجاعِ الأَنِيسِ لِعُهُودٍ وَلَّت ولَن تَعُودَ، فذلكَ مِن تَفَرُّدهِ في صَنْعَةِ الأَدَبِ، وتَمَلُّكِهِ الفائِضِ لِلُغَةٍ قَلَّما تُسلِسُ قِيادَها، واجتِنابِهِ إِعادَةَ ما قَرَأَ على الجَهابِذَةِ الأَعلامِ في لَيالِيهِ الطِّوالِ مع الكُتُبِ، والخَطَرانَ في دُروبٍ سابِلَةٍ تَعِجُّ بِالأَقلامِ على تَنَوُّعِ أَلوانِها، وتَفاوُتِ مَنافاتِها في أَرضِ الكِتابَة.
هو عاشِقٌ مَجنُونٌ لِلُغَةٍ جَمِيلُها جَمٌّ كَصَعبِها، ووُرُودُها دُونَها أَشواكٌ صُلْبات. وهي جادَت عليه بِوِصالٍ كَثِيرٍ، لِأَنَّ مِن شِيَمِها هَوَى الفُرسانِ الَّذين يَقتَحِمونَ الصِّعابَ إِلى أَخدارِها المَنِيعَةِ، لا الصَّعالِيكِ الَّذين يَكتَفُونَ بِحَسَكاتِها، وفَضَلاتِها المَطرُوحَة.
ولِلَّذِين يُعِيبُونَ عليه صُعُوبَةَ مُعجَمِهِ، أَو تَمَنُّعَ أُسلُوبِهِ ودِيباجَتِهِ، نَتلُو في آذانِهِمِ الآيةَ الكَرِيمَةَ، لَعَلَّهُم يَتَنَبَّهُون: ﴿فَليَأتُوا بِحَدِيثٍ مِثلِهِ إِن كانُوا صادِقِين﴾(8).
ولِمَن يَرمِيهِ بِجِنايَةِ لَجْمِ اللُّغَةِ عن الانطِلاقِ في التَّعبِيرِ الحُرِّ، السَّلِسِ، ودَفْقِ المَشاعِرِ وصِدقِها ونَصاعَتِها، نَسأَلُهُ عَمَّنِ ادَّعَى أَنَّ الأَدَبَ الرَّفِيعَ، المُتَرَبِّعَ في ذُرُواتِ اللُّغَةِ، لا يَحمِلُ شِحِناتِ الحَنِينِ الخالِصِ، ولا يُحَرِّكُ بِأَوتارِ اللُّغَةِ أَوتارَ القُلُوبِ الَّتي رانَ عليها السُّبات؟!
لِنَقْرَأْهُ مُناجِيًا “صُندُوقَ الفُرْجَةِ”، بِهَمْسٍ مِن رُوحٍ طالَ مَسِيرُها في مَتاهَةِ الحَياةِ، فَآنَ الرَّواحُ: “سَأَلتُكَ يا صُندُوقَ الفُرْجَةِ، وقَد مَضَت آنِفَةُ الصِّبا، وكُدَّت سَفِينَتِي مِن اللَّفِّ والدَّوارِ حَولَ نَفسِها، أَن أَعِدنِي طِفلًا إِلى قَريَتِي أَجتالُ حافِيَ القَدَمَينِ في حاراتِها… أَلُمُّ بِالأَهدابِ أَزاهِيرَ حُقُولِها، وأَتَعَبَّبُ مِن شَمِيمِ تُرابِها حَلاواتِ الزَّمَنِ الجَمِيلِ، فَقَد آنَ لِهذا الفارِسِ الجَهِدِ أَن يَتَرَجَّلَ، فَيَستَرِيح”(9).
ولِلَّهِ مِنهُ وهوَ يَتَأَوَّهُ مِن على شُرفَةِ العُمرِ المُغِذِّ في تَرحالِهِ، مُطَوِّفًا خَلفَ الأَجفانِ المُغمَضَةِ مع ناسٍ يَعُودُونَ، في الخَرِيفِ الوافِدِ، أَطيافًا واهِيَةً كَأَذيالِ غَمامٍ، والقَلبُ تَمَلَّكَهُ الخُمارُ، والخَمرُ مِن ذِكرَى أَيَّامٍ نَأَت وما عَفَت، أَيَّامٍ “لا يَنصاحُ في لَيلِها أَبدًا فَجْرُ المَشِيبِ، وتَقصُرُ دُونَ ذُبالِ سُرُجِها جُهْمَةُ الأَيَّام”(10).
يَقُول: “… ويا كَرَكَةَ جَدِّي، هَلَّا أَستَوهِبُكِ كَأسًا صَداقًا، مِن تِلكَ الَّتي أَثخَنَتْ فِيَّ يَومًا، ولا أَخشَى مَعَها عَطْشَةَ القَبر؟!”(11).
ويَلفِتُ الانتِباهَ حَنِينُ صاحِبِنا اللَّاهِبُ إِلى عَهدِ الطُّفُولَةِ، وهو حَنِينُ كُلِّ مَن جازَت قافِلَتُهُ مُعظَمَ الدَّربِ، وباتَت إِلى أَذيالِ الأُفقِ أَقرَب. وهو، هُنا، وبِالأَخَصِّ في خَواتِمِ مَقطُوعاتِهِ المُرَصَّعَةِ، شاعِرٌ شَفَّهُ الوَجْدُ إِلى أَيَّامِ البالِ الخَلِيِّ، والصِّبا الشَّارِد. في تَعابِيرِهِ حَرارَةُ اللُّهاثِ، ورَنَّاتُها أَنِينُ المُهجَةِ الوَلْهَى، وفي أُبَّهَتِها أَناقَةُ الأَمِيرات. يَقُول: “ويا تَنُّورُ! هَلَّا أَنزَلتَ حاجَتِي على كَرِيمٍ، فَرَدَدتَنِي طِفلًا إِلى تِلكَ الدِّيارِ، أُقَبِّلُ في عَتَباتِكَ وَجهَ أُمِّي، ورُغْفانَ أُمِّي(12).
أَمَّا وقَد استَوقَدَ الوَجْدُ، وشَبَّت في الضُّلُوعِ بَقايا جِمارٍ، فَإِنَّهُ يُناجِي ويُناغِي ثَغرًا كان في غابِرِ الزَّمَنِ أُمنِيَّةً، وقِبْلَةً، ومَزارًا. يقول: “… ويا ثَغرَ حَبِيبَتِي، لو تَعُودُ بِيَ الأَيَّامُ القَهقَرَى، لَوَقَفتُ على بابِكَ عُمرِي!”(13).
وهو مُصَوِّرٌ بارِعٌ، يَرسُمُ المَشاعِرَ، وما وَراءَ المَشاهِدِ، وما تُسِرُّ بِهِ النَّفسُ في حَمِيمِ المُناجاة. ويَتَخَطَّى خَيالُهُ مَدَى الواقِعِ، والبَصَرِ، فَتَتَأَنسَنُ الدَّالِيَةُ، على يَدَيهِ، وتَغنَجُ، وتَتُوقُ لِلوِصالِ، ولو جَرَّحَها جَوَى هذا العاشِقِ الهَيمانِ، وتَرتَفِعُ اللُّغَةُ، والصَّولجانُ في يَمِينِها، إِلى مَرتَبَةِ الشِّعرِ الرَّقِيقِ، المُصَفَّى، على شَباةِ ساحِرٍ مِن سَحَرَةِ الحُرُوف. نَقرأُه: “وهَمَسَت دالِيَةٌ مِغناجٌ في أُذُنِه: إِنَّ مَوائِدِي رَحمانِيَّةُ الهَوى يُثِيرُها تَفَلُّعُ يَدَيكَ المَعرُوقَتَينِ المُخْشَوشِنَتَينِ […]. وكُلَّما التَفَعْتُ بِظِلِّكَ تَسُحُّ لَوابِنِي، فَأَعقِدُ وأَنضَجُ أَكثَرَ، ودَوْرَقُ ضِياءٍ يُشعِلُ مِرشَفَيَّ بِاللَّطائِفِ، وهاتِ يا لُؤْلُؤًا مُتَنَخَّلَ الحُبَّانِ يَختَلِفُ إِلَيكَ مِن جَوارِحِي بِغُرَّانِهِ وكَبائسِه”(14).
ويَفِيضُ الجَوَى، فَتَطفَحُ لُغَةُ الشَّهوَةِ، ولكِنْ… على عُرْيِها إِزارُ “التَّقدِيسِ” مِن قَلَمٍ عَفٍّ تُقرَأُ غَزَلِيَّاتُهُ في حَنايا المَحارِيب…
فَتَستَتبِعُنا الدَّالِيَةُ بِنَجواها: “مِثلَما لا أَنقَبِضُ عَنكَ إِن قَسا مِقَصُّكَ فَكَدَّرَ بِقَساوَتِهِ شَغَفِي بِعِناقِ كَفَّيكَ، فَأَتَخَطَّاكَ، بَل بِحُبٍّ ورِضْوَةٍ وتَقديسٍ يُفتَحُ قَلبِي لِصَبِيبِ جَبِينِكَ ولا يُغلَق”(15).
عَبْرَ تارِيخِنا الأَدَبِيِّ الطَّوِيلِ، مَرَّت، على فَتَراتٍ مُتَفاوِتَةٍ، أَقلامٌ، بارِعَةٌ في تَجسِيدِ الأَلفاظِ صُوَرًا، بَزَّتِ الرِّيشَةَ في إِبرازِ الطَّبائِعِ أَمامَ صَفحَةِ العَينِ، ورَسَمَتِ “الكارِيكاتُورَ” بِاللَّونِ والدَّهشَةِ والنَّباهَة.
مِنَ الجاحِظِ، سَفَرًا في العُصُورِ، وُصُولًا إِلى عَبدِ القادرِ المازِنِيِّ ومارُون عَبُّود ويُوسُف حَبْشِي الأَشقَر، يُطِلُّ علينا، اليَومَ، في مُؤَلَّفِه الجَدِيدِ “خَمِيلَةُ الياسَمِين”، هذا “المُهَنَّا” الحاذِقُ، فَيُعِيدُ إِلى اللَّونِ الفَذِّ المُحَبَّبِ مِن الكِتابَةِ أَلَقًا يَخبُو ويَندَثِرُ بَينَ عَقْدٍ وآخَر.
في لَوحاتِهِ المُنضَوِيَةِ تَحتَ العُنوانِ الجامِعِ “مِن قِرَى الرِّيفِ” يَتَبَدَّى لنا صاحِبُنا واحِدًا مِنَ الأَساتِذَةِ الكِبارِ في الطَّرافَةِ، والتِقاطِ أَدَقِّ التَّفاصِيلِ في المَسلَكِ والمَقُولِ لَدَى شُخُوصٍ تُراثِيَّةٍ عايَشَها في بِيئَتِهِ، وهي، قَطْعًا، نَماذِجُ لِكَثِيرِينَ مِن بِيئاتٍ أُخَر. نَقرَأُه، فَتَنفَرِجُ شِفاهُنا حُبُورًا ولو في اليَومِ الجَهْمِ، ويَطبَعُ في ذاكِرَتِنا صُوَرًا تَبقَى شاخِصَةً على الأَيَّام.
فَسُلطانَه، ومَحْرُوسُ، والمُعَلِّمُ عَبْدُو، ومَشهَدِيَّةُ النَّجاحِ في الشَّهادَةِ الابتِدائِيَّةِ سَتَبقَى، في ذاكِرَتِنا، وُشُومًا لَن تُمْحَى لابتِساماتٍ مَرَّت، وبَقِيَت آثارُها تَثِبُ إِلى الذِّهنِ كُلَّما عَرَضَ لنا في الحَياةِ أُناسٌ يُحاكُونَ الأَبطالَ الَّذين رَسَمَهُم بِالمِدادِ على رِقاعِه.
إِنَّهُ الأَدَبُ الباقِي، تَتَطَوَّرُ المُجتَمَعاتُ، وتَتَبَدَّلُ طَرائِقُ العَيشِ، وتَتَغَيَّرُ الذَّوائِقُ، ويَدُومُ هو مُحتَفًى بِهِ، مُتَجَدِّدًا كَشَمسٍ لا تَشِيخ.
***
“لِلَّهِ دَرُّ القَلَمِ كَيفَ يَحُوكُ وَشْيَ المَملَكَة”…
نَستَعِيرُ قَولَ الخَلِيفَةِ المَأمُونِ، هذا، لِمَملَكَتِنا، مَملَكَةِ العَرَبِيَّةِ بِكُلِّ ما فِيها مِن غِنًى، يَبقَى فائِضًا مَهما تَطاوَلَت عليها الأَيدِي المُرتَكِبَةِ، طالما أَنَّ أَقلامًا عَنِيدَةً، فَرِيدَةَ العَطاءِ، كَقَلَمِ صاحِبِنا، تَبرُزُ مِن العَتَمَةِ مَشاعِلَ تُضِيءُ الدُّرُوب.
صَديقَنا!
لِلآتِي كَتَبتَ ما كَتَبتَ، وإِذا عَزَّ قُرَّاؤُكَ، في هذا العَصرِ اللَّاهِثِ، آن تُطلِقُ جُرْدَكَ المُسَوَّمَةَ، فَلَسَوفَ يَتَوافَدُ خِلافُهُم إِلى مَعاجِنِكَ المُبارَكَةِ، يَلتَمِسُونَ رُغْفانَ الجَمالِ بِشَوقِهِمُ اللَّهُوف. فَإِنَّ بَعدَ العُصارَى لَفَجرًا عَجِيبًا!
سَلِمَت يَداك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): سِفرُ يُوحَنَّا اللَّاهُوتِيّ 4.
(2): “خَمِيلَةُ الياسَمِين”، فَصْلُ “على مائِدَةِ طُهْرانِيَّتِكِ يا عَذراء”.
(3): م. ن، فَصْلُ “يا طِفلَ المَغارَة”.
(4): م. ن، فَصْلُ “جُورج غرَيِّب شاعِرُ الدَّهشَةِ والأَلَمِ والوَطَنِيَّة!”.
(5): طهَ حُسَين. مِن مُناظَرَتِهِ الشَّهِيرَةِ مَعَ رَئِيف خُورِي تَحتَ عُنوانِ “لِمَن
يَكتُبُ الأَدِيبُ: لِلخاصَّةِ أَم لِلكافَّة؟”، في الأُونِيسكُو، أَيَّار مِنَ العام 1955.
(6): “خَمِيلَةُ الياسَمِين”، فَصْلُ “على مائِدَةِ طُهْرانِيَّتِكِ يا عَذراء”.
(7): م. ن، فَصْلُ “الكَلِمَةُ الَّذي صارَ جَسَدًا”.
(8): القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الطُّوْرِ، الآيَةُ 34.
(9): “خَمِيلَةُ الياسَمِين”، “صُندُوقُ الفُرْجَةِ وحَلاواتُ الزَّمَنِ الجَمِيل”.
(10): م. ن، فَصْلُ “مَحْرُوس مَأساةٌ مُستَفِيضَة”.
(11): م. ن، فَصْلُ “كَأسٌ.. على رَنِيمِ العَناقِيد”.
(12): م. ن، فَصْلُ “التَّنُّور”.
(13): م. ن، سَلْوَى صُبْحٌ نائِر”.
(14): م. ن، فَصْلُ “كَأسٌ.. على رَنِيمِ العَناقِيد”.
(15): م. ن، فَصْلُ “كَأسٌ.. على رَنِيمِ العَناقِيد”.