حكامنا وساستنا في الميزان

        

 

تنتمي هذه السطور إلى النقد العلمي القائم على الدلائل والمعطيات ويخالطها بعض من “وجع وطن” فهو وجع يسكن روحي ولن ينفك منها أبداَ، وهي تفصح عن تأشيرات في جوهر وعمق التجربة القاسية التي عاشها ويعيشها العراق منذ نيسان 2003 وتتضمن “دعوة.. صراخاَ.. رجاءَ.. أملاَ”، لعلهم يرعون..

-إن أي إدانة تتضمنها هذه السطور لا تعني قطعا جزما تبرئة لفترات الحكم التعيسة التي عاشها العراق قبل 2003 والتي تتحمل الكثير من المسؤولية عما جرى في العراق، لكنها في ذات الوقت لا تبرء من جاء بعد ذلك معلقة الأخطاء كلها على شماعة الماضي.

-كانت أمريكا الراعي الأكبر لما جرى في العراق، وقد كان لجميع الوجودات السياسية التي شكلت التجربة الجديدة تنسيق مسبق وبدرجات مختلفة مع هذا الراعي ،وقد عاش الكثير من “حكامنا وقادتنا” في أمريكا ،ولكنهم لم يوظفوا أي من الوجهين “الإيجابي أو السلبي” لأمريكا في العراق الجديد ،فقد كتبوا “دستوراً” محملا بالكثير من التناقضات والمطبات والفخوخ والعورات أمثال “حق تقرير المصير” و “المناطق المتنازع عليها” و “توزيع الثروات وحق إدارتها” و “طريقة إدارة الحكم” وكلها ظهرت فيما بعد لتشكل مصدرا لمصائب ومحن يعيشها العراقيون بمرارة ،والأنكى من كل هذا تسوير التغيير للدستور بسور أقرب إلى المستحيل يضمن عدم القدرة على تغيره ،فلم يستفيدوا من دستور أمريكا الذي أستطاع استيعاب هذا التنوع المذهل فيها وتجاوز بحكمة مخلفات الماضي ونزاعاته ليؤسس لمواطنة فاعلة هويتها الوطن وعلمها واحد ،كما أنهم لم يستفيدوا من أمريكا التي لم يكن لها تاريخ لكنها راكمت سنين قصيرة من النجاح وعززتها بتواصل دائب لتكون تأريخ مرصوص قائم على الناجحين ،بينما مزقت “جماعات الحكم والسياسة” عندنا تأريخ موغل في القدم ،ووظفت تناقضات التاريخ وصراعاته في تمزيق مسمى الوطنية والهوية ،فصعدت الهويات الفرعية وغلب المذهب والدين والمنطقة والقومية بل والحزبية على هوية الوطن الجامعة فكان النتاج هوية رخوة مهزوزة مليئة بالتضاد ،كما أنهم لم يوظفوا الوجه السلبي لأمريكا المتمثل بـ “براغميتها” العالية وقدرتها على استثمار نجاحات الآخرين والوقوف على منصة الغالبين دون تقديم تضحيات ،بل كانوا مفرطين بنجاحاتنا بثمن بخس ومهملين للمصالح الوطنية وسائرين في ركاب الصفقات الخاسرة.

-عاش معظم حكام وساسة عراق ما بعد 2003 في إيران وقضوا شطرا طويلا من الزمن فيها ولعل بعضهم لم يغادرها إلى بلد آخر، ولكنهم لم يأتوا للعراق الجديد بتجربة إيران التي استطاعت أن تحافظ على التوصل الحضاري والتراكم التاريخي لهذا البلد القديم متجاوزة فوارق هذا التاريخ سواء كان زرادشتيا أو إسلاميا وسواء كان سنيا أو شيعيا وسواء كان ملكيا أو جمهوريا وسواء كان علمانيا أو دينيا بل رفعته علياً بوصفه تاريخ إيران وحسب ووظفت وجوهه الإيجابية، كما أنها أنتجت تجربة حكم همها المواطن وخدمته، وبلورة ثقافة شعبية تتوحد على حب إيران مهما كان موقفها من الحاكم ،ومعارضة تفرق بين الوطن والحاكم ،فالوطن باقي والحاكم زائل ،كما استطاعت إيران تطوير قدراتها الذاتية والإفادة من خزينها الوطني البشري قبل المادي ،كما أنها بلورت سياسية خارجية ودبلوماسية وطنية ذكية تجاوزت عشرات المصاعب والمحن التي مرت بها ،إلا أن “حكامنا وساستنا” لم يأخذوا ولو درسا بسيطا من هذا البلد الذي عاشوا فيه عشرات السنين ،بل جاءوا بـ “القطيعة التاريخية” و “الانقسام على المصالح الحزبية والشخصية مهما كان ضررها على الوطن” و “ثقافة الاستغناء عن الشعب” و “تخوين المعارضة” و “معارضة إسقاط الوطن قبل الحاكم”.

-قضى بعض من “قادتنا وحكامنا” سنينا في الدول الإسكندنافية مثل النرويج والسويد والدنمارك وهي دول تتصدر العالم في ديمقراطياتها ودقة تطبيقها، وشفافية الحكم فيها، وحرمة الخصوصيات والحريات والمال العام، وأهمية الفرد، ولكن هؤلاء جاءوا بكل ما يخالف هذه الدروس، فضربوا مثلا بالتدليس وتشويه الديمقراطية، وكانت اللصوصية سمة شبه غالبة، وكان للكثير رغبة للدكتاتورية والتسلط التي لو اتيح لهم المجال لقضموا كل الحريات الشخصية.

-ختاما نحن بحاجة إلى مراجعة جادة وشجاعة وصريحة لسنوات من الحكم تضمنت أخطاء فاحشة لا يمكن إغتفارها يتحملها الجميع دون استثناء والبدء برؤية سياسية تقوم على بلورة هوية جامعة تستوعب جميع التنوعات وتعطي تطمنيات حقيقية للجميع بحيث يجدوا أنفسهم ممثلين في هذا الوطن، وأن يتوقف عهر اللصوصية والعمالة والشره البغيض.

اترك رد