شاعرٌ تسكُنُ إِلَيهِ الكَلِماتُ والقُلُوب

    (حَولَ كِتابِ الشَّاعِر طَلال شَتَوي، “بَعدَك على بَالِي”)

 

وَفَدَ عَلَيَّ، وأَنا في زَحمَةِ مَشاغِلَ كِتابِيَّةٍ، أَقتَنِصُ الفُرَصَ لِفَكاكٍ مِن أَعمالٍ قَلَمِيَّةٍ أَلزَمتُ نَفسِي بِبَعضِها، وأَلزَمَتنِي صَداقاتٌ ولِياقاتٌ بِبَعضِها الآخَر. ولَكَم تُحرِجُ حَياءَكَ الصَّداقاتُ، وتُكَلِّفُكَ ما أَنتَ عَنهُ بِغِنًى.

وقُلتُ لَن أَكُونَ خارِجَ الزَّفَّةِ، وأَخَذتُ كِتابَ الشَّاعِرِ طَلال شَتَوِي، “بَعدَك على بَالِي”، الَّذي قارَبَ المِئاتِ السِّتَّ مِن الصَّفَحاتِ، وتَفَوَّقَ في تَهافُتِ النَّاسِ على اقتِنائِه.

وشَرَعتُ في قِراءَتِهِ، بِفُضُولٍ أَدَبِيٍّ يَتَمَلَّكُنِي، وضَعفٍ يَنتابُنِي أَمامَ هذا الجِنِّيِّ الَّذي يُسَمُّونَهُ “كِتاب”، وقُلتُ: مَن تُراهُ يَكُونُ هذا الشَّاعِرُ، الَّذي أَجهَلُهُ، والَّذي اقتَحَمَ السَّاحَ، في أَوَّلِ جَولَةٍ لَهُ، بِهذا الجَحْفَلِ اللَّجَب؟

طَلال شَتَوِي إِسمٌ غَرِيبٌ، وعُنوانُ مُؤَلَّفِهِ يُزاوِجُ بَينَ العَامِّيَّةَ والفُصحَى، ويَدخُلُ إِلى شَغَافِكَ مِن دُونِ استِئذانٍ لِأَنَّهُ يَنضَحُ طاقَةً حَمِيمَةً مِن الوِجدان.

شَدَّنِي الكِتابُ إِلى أَعماقِهِ بِقُوَّةِ تَيَّار. هو سِيرَةٌ ذاتِيَّةٌ، وهي لَونٌ أَدَبِيٌّ أَثِيرٌ عِندِي، بَدَأَها بِعَرضٍ شَيِّقٍ لِمَطارِحِ الحَنِينِ في ذاكِرَتِي، مَطارِحِ الصِّبَا وَرَيِّقِ الشَّبابِ اللَّاهِي وفَورَتِهِ وصَبَواتِهِ، في المَدِينَةِ الأَعَزِّ عَلَيَّ، طَرابُلُسَ، الَّتي حَضَنَت إِقامَتِي ودِراسَتِي الثَّانَوِيَّةَ، وحَيثُ كانَ لِلقَلبِ أَحلَى أَيَّامِ عِشقِهِ البَرِيءِ، في زَمَنٍ دافِئٍ، سَقْيًا لَهُ مِن زَمَنٍ، هو النِّصفُ الأَوَّلُ مِن سِتِّينيَّاتِ القَرنِ العِشرِين. وَ”هَل يَنجُو الإِنسانُ مِن ماضِيه؟ وهَل لا يَحمِلُ مَعَهُ دائِمًا الأَمكِنَةَ والوُجُوهَ واللَّحظاتِ الَّتي تَرَكَ فِيها شَيئًا مِنهُ، وأَخَذَ بِالتَّالِي شَيئًا مِنها”؟ (صَفحَة 68).

فَبِاللهِ عَلَيكَ، شَوَّقتَني، في كُلِّ مَحَطَّةٍ أَصِلُ إِلَيها في قِراءَتِي، أَن أَشُدَّ الرَّحلَ إِلى المَحَطَّةِ التَّالِيَةِ، ثُمَّ أَن أَتَتَبَّعَ خُطاكَ، وأَستَكشِفَ سِفْرَ حَياتِكَ الَّتي لا تَتَقاطَعُ مع حَياتِي لِكَي أُبَرِّرَ شَوقِي. وسَأَلتُنِي، وأَنا في سَرَحِي الهانِئِ مع قَصِّكَ المُنسابِ نَغَمًا: ما الَّذي يَسحَرُ في صَحِيفَتِك؟!

وحاولتُ أَن أَرصُدَ مَناحِيَ البَهَاءِ التَّقلِيدِيِّ المُتَّفَقِ عَلَيهِ في الأَدَبِ، بَينَ سُطُورِك. فَما وَجَدتُ بَلاغَةً مُنَمَّقَةً، ولا لُغَةً عالِيَةَ المَنافِ، ولا رَمزِيَّةً وافِيَةً في انزِياحاتِها، ولا إِيقاعًا يَتَواتَرُ لِيُحَرِّكَ المَشاعِرَ، وَلا، وَلا… ولَن أَزِيد. حَسبِيَ أَنِّي وَجَدتُ لُغَةَ القَلبِ، تُستَلُّ أَلفاظُها مِن جَسدِ الحَياةِ، ولُهاثِ الحَنايا… وكَفَى. وقالَها الأَدِيبُ خَلِيل تَقِيِّ الدِّين: “الأَدَبُ الَّذي لا يَنبُضُ بِالحَياةِ ولا يَفُورُ مِنهُ الدَّمُ، لَيسَ إِلَّا جُثَّةً هامِدَةً في كَفَنٍ مِن وَرَق”.

ثُمَّ أَلَيسَ سِحرُكَ في بَيَانِكَ السَّلِسِ، الَّذي يَطرُدُ المَلالَةَ، والَّذي يَقطُرُ شَهدًا، ويَتَهادَى في الصَّفَحاتِ فَراشَةً سَكْرَى بِالعَبِير؟

كاتبُنا…

شاعرٌ مُرهَفٌ، في كَلِماتِه حَنِينُ الغاباتِ لِلمَطرِ، ورَنِيمُ السَّواقِي بَينَ تِلالِ الشَّربِينِ، ولَثَغُ الأَطفالِ وضَحِكاتُهُم، ونَبْضُ القُلُوبِ الهاجِسَةِ بِأَحلامٍ تَضِيقُ عَنها الصُّدُور.

“فَيرُوزِيُّ” الهَوَى، هُو، بَل عَمِيدُ “شَعبِ الحَنانِ” (صَفحَة 24) “الفَيرُوزِيِّ”، في دِيباجَتِه صفاءُ الفَيرُوز، وفي سَردِه انسِيابُ جَدوَلٍ حَنُونٍ وجَرْسُهُ على حَصَبَاءِ عَقِيقٍ، ومُقَطَّعاتُهُ الشِّعرِيَّةُ أَغانٍ لا يَلِيقُ بِها أَقَلُّ مِن صَوتِ “فَيرُوزَ” الشَّجِيّ.

مِن أَعمِدَةِ الكِتابِ الرَّواسِخِ لُغَةٌ سَلِيمَةُ البُنيانِ، صَحِيحَةُ الإِعرابِ، غَنِيَّةُ الدَّلالِيَّةِ، خِلْوٌ مِن الأَخطاءِ، مُنَزَّهَةٌ عن سَفسافِ القَولِ، مُجانِبَةٌ التَّقلِيدَ البَلِيدَ والنَّقلَ الخَبِيثَ ووَحشِيَّ اللَّفظِ، رَشِيقَةٌ سَهلَةٌ مَشحُونَةٌ بِالوِجدان.

مِن رِوايَةِ أَحداثٍ خاصَّةٍ ما كان لها أَثَرٌ في جُملَةِ المُجتَمَعِ، وقَد لا تَعنِي جَمهَرَةً عَرِيضَةً مِن القُرَّاءِ، استَطاعَ صاحِبُنا أَن يَستَخلِصَ عِبَرًا، ويَختَطَّ طَرِيقًا، ويُثرِيَ عُدَّةَ القارِئِ، ويُوَسِّعَ آفاقَهُ، في سُلُوكِهِ مع مَشاكِلِ الحَياةِ، وتَقَلُّباتِها، وفي مُجابَهَةِ الدَّهرِ وعُبُوسِهِ، ومُناوَراتِ القَومِ السَّوداء. أَوَلَيسَ هذا مِن تَمَيُّزِ الكاتِبِ الفَذِّ الَّذي يَشتَارُ مِن فُرُجِ “الأَشيَارِ” العَصِيَّةِ عَسَلًا لم يَعرِف إِلَّا نَكهَةَ الزَّهرِ وقُبُلاتِ الشَّمس. فَكَم مِن عِثَارٍ أَلقاهُ أَقرَبُونَ وأَبعَدُونَ أَمامَ خَيلِهِ الجارِيةِ في الشَّوطِ، فتَلَقَّاهُ بِعَزمٍ صُلْبٍ، وصَدرٍ وَسِيعٍ، ومِراسٍ لا يَلِينُ، وتَرَفُّعِ فارِسٍ، فَارتَدَّت سِهامٌ على رَامِيها، وخَرَجَ مِن الأَتُّونِ صَقِيلًا كالمَاسِ، وخَسِئَ المُنافِقُون. ولَطالَما خِلتُهُ مُرَدِّدًا مع ابنِ الوَردِيِّ:

“أَنَا كَالخَيزُورِ صَعْبٌ كَسرُهُ      وَهوَ لَدْنٌ كَيفَمَا شِئْتَ انفَتَـل”.

مِن الأُمثُولاتِ الَّتي قَطَفْنا مِن رَوضَةِ صاحِبِنا، تَمثِيلًا لا حَصرًا، أَنَّ مُجالَدَةَ العَسْفِ والظُّلمِ والتَّجَنِّي والجُحُودِ، قد لا تَكُونُ أَجدَى بِسُقوطٍ مُماثِلٍ، وعَصْفٍ مُحَطِّمٍ، بل بِتَجاهُلٍ لِلجانِي، والتِفافٍ على دَسِيسَتِهِ، وحَزمٍ في رَدعِهِ، واستِمرارِيَّةٍ في تَعَقُّبِهِ، وإِصرارٍ على هَتْكِ وَرَقَةِ التِّينِ عن عَوْرَةِ الجَانِحِ وصَغَارِه.

ثُمَّ كَيفَ لا نَجنِي الحِكمَةَ والانفِتاحَ، في وَطَنِ العَبَثِ والجُنُونِ، مِن ثَقِيفٍ مُتَمَرِّدٍ، هَالَهُ ما أَصابَ الوَطَنَ الجَمِيلَ مِن ظُلمٍ على “أَيدٍ مُلَوَّثَةٍ بِالدَّمِ والتُّرابِ والرَّماد” (صَفحَة 319)، ونَما على أَرُومَةِ أَبٍ “لم يُلزِمْهُ بِدِينٍ أَو بِطائِفَةٍ أَو بِمَذهَبٍ، ولَم يَنصَحْهُ، ولَم يُخَيِّرْهُ، ولَم يَقُلْ لَه سِوَى إِنَّ اللهَ هو أَكثَرُ مَن تَعَرَّضَ لِلخِياناتِ مُنذُ بَدْءِ الخَلِيقَة” (صَفحَة 29)؟!

لَم يَشأْ تَأْرِيخًا جافًّا لِفَترَةٍ مِن عُمرِ لُبنانَ، ولكِنَّهُ مَرَّ بِها فَرَواها بِحِبرِ الدَّمعِ، وخَطَّها على رِقاعِ الحَنايا، مِن دُونِ أَن يَسقُطَ في التَّنظِيرِ، أَو التِزامِ جانِبٍ ما، أَو المَدِيحِ المُغرِضِ، أَو التَّثرِيبِ الاستِنسابِيِّ، فهو قَلَمٌ ناصِعٌ في بَنَانٍ عَفِيفَةٍ، والوَطَنُ أَسمَى مِن كُلِّ مَن كادُوا، وأَعلَى مِن مَكائِدِهِم وسُقُوطِهِم. إنَّه مُؤَرِّخُ الوِجدانِ اللُّبنانِيِّ الآتِي مِن مَنَاعِمِ “الزَّمَنِ الجَمِيلِ” إِلى مَآثِم الجَحِيمِ الدَّخِيلِ، والعَمَى المُفْرِط…

بَعضُ خَواتِمِ فِقْرَاتِه، فاتِنَةٌ، تُغمِضُ حِيالَها جَفنَيكَ، لِلَحظاتٍ، مُتَمَزِّزًا رَحِيقًا تَرَكَتهُ في رُوحِك. فَلَرُبَّما ذَيَّلَ أُحدُوثَةً يَروِيها، بِعِبارَةٍ تَطُولُ أَو تَقصُرُ، هي ثُمالَةُ الكأَسِ، وتَختَصِرُ بِلَسعَتِها شَمِيمَهُ، ولَطالَما حَمَلَت في طَيِّها تَأَمُّلًا يَدعُو إِلى التَّفَكُّر؛ وقَد تَرقَى، في كَثِيرٍ مِن حالاتِها، إِلى مُستَوى الحِكمَةِ العالِيَة.

طَلال شَتَوي…

عَرَفتُكَ عَبرَ قَلَمِكَ، فَسَكَنتُ إِلى صُحبَتِكَ، ووَجَدتُنِي أَقرَأُ في خَلَلِ حَياتِكَ الخاصَّةِ حَياةَ مَلَأٍ واسِعٍ كان في صَدرِ المَشهَدِ لِفَترَةٍ بَيِّنَةٍ مِن أَيَّامِنا. واستَسَغتُ سِياقَكَ، فَلَأَنت يَراعٌ تَزهُو بِهِ الكِتابَةُ، وتَرتاحُ لِحُرُوفِهِ الصَّحائِف.

أَتَمَنَّى لَكَ وافِرَ الصِّحَّةِ، وغَزِيرَ المِدادِ، لِنَرَى لَكَ أَعمالًا مُشرِقَةً، وبَدْعًا عَريضًا!

لَأَنتَ “بَوحُ اللَّيلِ”، مَفتُوحًا على الحُسنِ والشِّعرِ والسِّحرِ والغِناءِ، ولَأَنتَ “سَفَرُ الغَيْمِ” في أَحلامِ الحُقُول…

أَطالَ اللهُ لَيلَكَ لِيَطُولَ بَوحُكَ، ودامَت لَكَ الرِّيحُ لِيَبقَى سَفَرُكَ غَيمًا يُمطِرُ البَرارِي صَعتَرًا وصَنَوبَرًا وأَقاحًا…

 

اترك رد