عمر الخيّام… أبو العلاء يتقمّص أبا نوّاس؟

              

يمكنُ للنَّسب أن يكون من النَّكِرات لا يُعرفُ له وجود ولا يُحفَظ له تاريخ، وأشخاصُه يعودون الى أَقيالٍ لا يُعرَفُ لهم إسم.

أمّا الشّهرةُ في القَدر والوضع، فتصلحُ تمام الصلاحيّة حتى للمَكتوم النَّسَب، حين تَرفعُ الأسماعُ له حُجُبَها وتلتقي تحت عينِها منه جِدّاً صراحاً رشيقاً وساحرَ النَّظر.

عمر الخيّام الفارسيّ المُعَرَّب، والذي تنقّلَ مزاجُه بين ثَوبَي نرجسٍ وشقائق، فجدَّدت له النَّزواتُ البَيعة، كان رَجلاً مرِحاً طروباً ذا نفسٍ لَعوب أوحت إليه أفانينَ من الأدب الماجن المُطعَّم بالمرونة العقلية، ما جعل تركيباته مُمتِعة شائقة. لكنّ بعضهم اعتبر أنّ أكثر ما كتب ممّا تنبو عنه الطِّباع، لِما يحمل من جانب الدَّعابة والخلاعة الباديةِ علناً وكأنّها جارية مُبَرقَعة في مجلس شُرب. والشُّرب السَحّار مَذهب لا يلحظه الخيّام كعُطلة، بل يدعو اليه كتَلَمُّس، وهو القائل ” هاتِ المُدام…” و” هاتِ الكأسَ أنعمُ بها… وَرَوِّ أوصالي بها…” و” أطفئ لظى القلب ببُرد الشَّراب “. ومَن يدري، بِحَسبِ هذا البعض، فلعلً الخيّام، في روح حياته وسرّها، يعيش في رذائله أضعاف ما يعيش في فضائله ؟  

عمر الخيّام المُتأمِّل الذي يُسمَع تَهَامسُ أبياته لنعرف الى أيّ حدّ كان صاحبها كريم النَّفس، ساغَ لبعضهم ألاّ يُسقط عنه تهمةَ الإختلاق، تارةً بإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم، وتارةً أخرى بافتعال جرأة جامحة في أبياتٍ لا يسمو إليها ولا يقوى على تكاليفها، إلاّ مَن وثقَ بأنّ كلامه الخلاّب يجعل الناس أن يسمعوه طائعين. لكنّ الخيّام لم يدَّعِ أنّ الشّعر رَوضٌ لم يوزِّع نوّاره لسواه، أو بحرٌ لم يغترف نَميرَ مائه غيرُه، فهذه الخُيَلاء ما تعقَّبت شخصه ولا نشرَت مَطاويَه.

رسم لعمر الخيام

إنّ شِعر الخيّام جسمٌ خصب يرنو بطَرفٍ مريض الجفون، فالى ما تحت ثوبه من مَلاحات أسرار الجمال وتَعَقُّب أخبار المُجون، يَخفي حسرةً كامنة وكَرباً وجيعاً، فما أتعسَ القلبَ الذي لم يصب “في العَيش إلاّ الشَّقاء ” . إنّ النفسَ المُسرِفة بالزَّهو والمُفتنَّة بالّلذائذ تحضرُ طبخَها من دون تعفُّف، ولا يأتيها بها حياءٌ أو سِتر، قد جرَّ الدّهر لها أسباب الحياة من دون صِباغ، فعاشت وِفرَها قبل الشَّيب وبعدَه. لقد عصرَ الخيّام خمرته من خدود الحِسانِ في يوم زفاف، وسكبها في أطواق الحَمام وسوالفِ الغزلان، لتُسقى مع غمزاتِ العيون. لكنّ خُطوب الدَّهر المُغرِضة مادت به، هو الكَريم الصّيت، وهي المَشغوفة بطَمس أسرار السّرور وتأليب السِهام على الناس، فذاق من لُذوعيّتها عجباً، ولو بعقلِه.     

عمر الخيّام فيه شيطان يتبعه حيث ذهب، لأنه خلع نفسه عند عتبة المجون وإقبال الرَّخاء، كما يحلو للبعض أن يصوّره. وبالرّعم من أنّ أَحبًّ المنى لديه ” كأسٌ وأنغامٌ ووجهٌ صبيح “، لكنّ الحقيقة أنّ الخيّام كان صدى نفسه ذات الرسالتَين: رسالة الزَّوابع ورسالة الغفران. من هنا، حرصَ على كشف خفايا النّفس، وعرضِ المُعضلات الفلسفية في ” الرباعيّات” وبيان ظلالها في تعاريج حياته. وربّما كانت الأماني الإنسانية التي تحدّث بها الشّعراء والمفكّرون، هي ذاتها التي أراد الخيّام أن يصير بها عَلماً. ففي حضرة الفكر، تحلّ أسرار الكون محلاً بعيداً وتتقلَّد العناية، فينعزل العقل عن المادة وينعتق من أدران الحسّ ليتوهّج الرّوحُ في سرايا ما بعد الطبيعة، علّه يحظى بِلَمح الحقيقة البريئة من الدَّنَس، ولكن أوليست الحقيقةُ غَداً ” بِظَهر الغَيب ” ؟

ما يمكنُ أن يشطحَ إليه العقل في إيثار السؤال الذي ليس بذي حجّة، هو خطّة خطِرة على اليقين وعلى العقيدة. فالترجُّح بين الإيمان والنَّفي شوكٌ في خاصرة النفس أو هو سَحقٌ لمعالم العقل، وبحاجة الى وساطةٍ تُصوِّن من الشكّ والمَظانّ، وتشكّل للفكر عزاءً. من هنا، أسرف بعض النُقّاد في اعتبار الخيّام مُلحِداً مُنحازاً الى الأرضيّات، وبالتالي فإيمانه بحاجة الى صيانة. واتّهموه بأنه في حدثانه عن الموت لم يذكر النُّشور والمَعاد إلاّ سلباً، كما أنّ البَعثَ مردودٌ هو الآخر لأنْ  “ليس مِمَّن فاتنا عائدٌ “. ربّما استفزَّ الخيّامَ موضوعُ الحقيقة، فأغرَتهُ فطمعَ في خدمتها، بمعنى أنه يَسَّر لعقله درب البحث انطلاقاً من مواقع الظّنون، وهذا فِعلُ الفلاسفة الذين يعتقون العقل من الهزيمة ومن العجز في صحّته. لكنّ قسوةَ العقل أعتى من قسوة الزَّمان، وهذا مَشربٌ فيه من العَلقم ما جعل الكثيرين يؤثرون الظمأ. أمّا إلحادُ الخيّام فمَوضع جدال، وربّما يكون الأمر برُمَّته من الحقائق الكاذبة، إذ كيف بمَن يُصوِّر أسباب الغفران والرحمة في الآخرة أن يصطَبرَ على اعترافٍ بالله ” الغَفور الرَّحيم ” ؟ وكيف يمكن له أن يتوجّه الى مَن لا يعترف بوجوده بالقَول: ” يا عالِمَ الأسرار… يا كاشِفَ الضَرِّ…. يا قابِل الأَعذار….”، ويطلب منه بالتالي العفوَ وتَقَبُّل توبة التائبين ؟ وهل أوضحُ من قوله ” قد عشتُ لا أُشركُ في وحدتك”، لردّ تهمة الإلحاد وبالتالي تهمة الطَّمع بغفران ذنوبه في الآخرة بعد حياة صاخبة فاسقة، ما يذكّر حتماً بأبي النوّاس؟

رسم لأبي العلاء المعري

الصوفيّةُ في رباعيّاته من غير المعقول ردُّها الى الإستهتار، وهي حاصلُ القَلِق والقَدَري غيرِ المطمَئِنّ الى منهجٍ موصِلٍ الى الكَشف. وهذا الإرتياب عند الخيّام لم يتمادَ ليعتبر الحقائق الكونية خُرافات، والمعرفةَ بها وهماً، فبعضُ الوَهم صواب. كذلك لم يتطرّف الشّاعر ليلتزم مذهباً يسمو بالنفس الى مَصاف المكاشفة والمشاهدة. من هنا، لا يمكن اعتبار الخيّام صاحبَ مذهب صوفيّ، أو طارحَ طريقة صوفية لتطهير القلوب، بقدر ما كان مفكِّراً يُدرجُ تأمّلاته بصياغةٍ صوفية، وتاركاً طائفةً كبيرة من الحِكَم التي تصرَّفت بها الخبرةُ وتطعَّمَت بالعقل. من هنا، يتصاهر الخيّام مع”أبي العلاء المعرّي”، في الأغراض الحِكَميّة التي أَرَتهُ أنّ فوق العِلم عِلماً، فتواضعَ ولم يتناهَ ليسقط بجهله. فالحكمة يعرفها العاقل ويقرّ بها الجاهل، وهي الوقارُ في مقاربة مسألة الماورائيّات ومنها قضية الحياة والموت، لذا يقول الخيّام : “فاتَ عمري وأنا جاهلٌ كتابَ هذا العمر….” الذي يعتبره لَغزاً بعيدَ المنال . والحكمةُ كذلك هي التوغُّل في علائق البشر ومسلكيّاتهم المُمتَدَّة الى القِيَم وخدمة الخير واجتناب الشرّ، وكلّ هذه مُرتَجاةٌ في حين أننا في الواقع ” نلبسُ ثوبَ الرّياء ” ونوقع الإثم ونُذنِب. في هذا الإطار، تصرّفَ الخيّام تَصَرُّفَ الواعظ المُصلِح، ونزَّل أحكاماً تدعو الى انتصار المروءة والإحسان والمسامحة وصفاء القلوب، والى الإبتعاد عن زخارف الدنيا فهي ” أساس الألم “.  

لم يبسطِ الله للخيّام في الرّزق موهبةً أدبية تبدَّت في رباعيّاته، بل ضخَّ في جبلته فُضولَ العِلم ودقّةَ الفهم وسعةَ الإطلاع. من هنا، فإنّ هلهلة النَّسج هي أبعدُ من أن نَصِف كلامه بها، فشعره الذي غَلّ العقلُ عنقَه في ثناياه، يجمع بين المعنى والصورة، لذلك لم يكن الخيّام، صاحبُ الإحساس بالجَمال، يبيع في شِعرهِ الفخّار. فهو يتصيَّد جيّد التّصاوير ونقيّها حتى يصيب الغَرض الذي يريده، فالمحسِّنات في رباعيّاته طِيابٌ ألقى عليها الخَيال مَسحة الرَّونق، وصوّرتها التعابير بالجِدَّة فوقع من ذلك شيءٌ كثير. فأين إخلادُ أبياته الى الخُمول في قوله ” قد مزَّق البدرُ سنامَ الظلام “، وهل الإيحاءُ غائبٌ عن شَطرِه ” فليس يزهو الوردُ بعدَ الذّبول “؟

بقَدر ما كان العِرف الإجتماعيّ يرى في الخيّام نزّاعاً الى التعليم، يصرخ بوجه ظلم الدنيا والموت في الحياة، بقَدر ما كان يتمتّع بالضياء العقلي ميزاناً بين الحقيقة والسَّراب. أمّا المِحنة ففي السؤال: هل رصانةُ الخيّام تُنبئ عن نفسٍ سامَتها الأيامُ سوءَ العذاب؟ وهل مُجونُه كان ردّة فِعل؟ مهما يكن، فالواضحُ أنّ الخيّام اعتنقَ مذهب الخمرة، وتَطَرّفَ حين ارتفع بها الى مصاف الألوهة فاعتبر أنّ البعثَ لا يحصل إلاّ بها، بقوله:  

” فصَغْ وعاءَ الخمرِ من طينتي

واملأهُ تَسْرِ الروحُ في جُثَّتي “.

اترك رد