وقفة مع قصة “هاتف مجهول” للقاص إبراهيم الدرغوثي
القصة
هاتف مجهول
منذ أسبوع، يدق جرس الهاتف عند منتصف الليل فأضغط على زر الاستقبال. ينفتح الخط فأسمع خشخشة يليها شخير متواصل يدوم حتى أغلق الخط .
عندما وقفت أمام موظف الاستقبال لشركة الاتصالات وعرضت عليه الموضوع والرقم ظهرت على وجهه الحيرة. ترجاني أن أترقب لحظة ثم دخل إلى جهازه وألقمه المعلومات ويظل يخبط على الأزرار مدة، ثم رفع عينيه في وجهي وقال :
جاءنا أقارب هذا الرجل منذ أيام يا سيدي وطلبوا منا إغلاق هذا الرقم، فصاحبه ميت منذ ثلاثة أعوام!!! انتهت.
بداية أقول: أنت أمام نص ينصح بالاحتفاظ بمسافة الأمان إزاءه، حتى لا يبتلعك داخل رحى مكعباته الافتراضية ومتاهاته ذات الوجهين؛ المتشابه والمُحكَم، وأول شراك يمكن أن تُكبَّل به هو الاكتفاء بأول قراءة والجزم بأول فهم يتبادر إلى ذهنك، وكذا التعويل على أول تفسير، أما الدهشة التي تقذفها القفلة في روعك فإنها قد تزحزح تركيزك، تماما مثلما يربكك وجه جميل، فينسيك ما جئت لأجله، ومع ذلك فعندما تتجاوز هذه العتبة، فإنك تصبح أسير الإعجاب بالنسج القصصي المحكم الذي لا يميل إلى الشاعرية، و إنما يلتزم بالعقيدة السردية في بذلتها الرسمية .
اختار هذا العنوان (هاتف مجهول)، وهو مبتدأ وخبر، أو ما شئت من التقديرات، إلا أننا لن نختلف أننا أمام اسمين، و هذه التركيبة مخالفة لتركيبة نصه عموما، حيث يعدل في خضم حكيه بين الأفعال والأسماء في مفتاحية الحدث، و إلا فإن من المنطق أن تتجاوز الأسماءُ الأفعال كمكملات (فضلة)، أما كونها مركز الحدث، فلم يولها اهتمامه، لتمر القصة خفيفة دون ضغط نفسي، كما أراد لها أن تتخذ مكانها في روع القارئ
وإذا رجعنا إلى الجانب اللغوي، فإن الهاتف هو المنادي، وهو الصوت يُسمع دون أن يرى الشخص، أو هو صوت باطني، و عندما نخرج من المنظار اللغوي، فإنه جهاز التواصل الذي هو نتاج ثورة الاتصالات .
(هاتف مجهول)… يمكن أن يتقاطع مع الجندي المجهول.. لكن الجندي المجهول معرف بـ(الـ) التعريف، لأنه قد نال الاعتراف من خلال رمزيته، أما هاتف مجهول، فلم ينل الاعتراف به،هذا النداء هو داخل ضمائرنا كلنا، لا نسمع منه إلا خشخشة، أي كلاما غير مفهوم، ثم بعد ذلك شخيرا، و هو دلالة على اللامبلاة من قبلنا، وراحة الضمير من قبله .
كما أن له نقاط تماس مع التلبياثي (Telepathy) الذي يعني التخاطر عن بعد وهناك قصة (يا سارية الجبل )، وقد يقصد به الضمير، أو التأنيب أو حاجة في نفس المجهول لم يقضها. كما يحكى أنه يسمع صوت الآذان في (بواتيه) (معركة بلاط الشهداء)، صوت بقيت له كلمات لم يقلها في حياته .
لذلك أعتقد أن الكاتب في عنوانه يناور على حبلين؛ هما الخيال واللغة، وأن الأصول اللغوية كانت متجذرة في خلده وهو يخط حروفه، فلقد كان من المفروض أن يكون العنوان (هاتف شخص مجهول)، لم يكن الحذف بسبب مراعاة خصائص فن ق ق ج،لأنه لا يميل في سرده إلى هذا الاقتصاد الذي يلجأ إليه الكتّاب ولو على حساب المعنى ليضمنوا توفر أحد الشروط الشكلية، فالمرجح أن فكرة (الصوت الباطني) كانت ترافقه، يريد أن يقول بأن هناك صوتا خفيا لشخص مجهول يحاول أن يتسرب إلينا. هذا مع الإشارة إلى أن القاص يوظف الهاتف النقال في قصص أخرى، قد يكون أحد أسباب ذلك أن هذه المادة خصبة وولادة بحكم سنه وسني ، لأن من عاش وقتا قبل ظهور هذه الثورة الاتصالية يكون أشد حساسية تجاهها من الجيل الجديد الذي فتح عينه عليها أو على إرهاصاتها. إن معاصرة هذه الاختراعات تحرك هرمونات الفنتازيا في رحم الحرف، وحينما رضعت من عنب اللغة في اللاشعور عملت عملا مهما .
تبدو مفصليات القصة كالتالي: الدق المتكرر لجرس الهاتف النقال، الضغط على زر الاستقبال، سماع خشخشة والشخير، غلق الهاتف، المتصل ميت… لكي نعرف أنه ميت لا بد أن نكمل القصة إلى النهاية. أما الأنسجة الرابطة بينها فهي الأزمنة المتداخلة من جهة، وما تحمله من نسبية من جهة أخرى، فهناك زمن السارد الذي يبدأ من أسبوع، و زمن الأقارب الذي يُشرَع في عدّه من ثلاثة أشهر، أما زمن الميت فلا يمكن أن نقارنه بالشخص الحي، لذلك سنربطه بالرقم الذي توقف منذ ثلاث سنوات .
وبخصوص شخصيات القصة، فأول ما يبرز هو جرس الهاتف، حيث يظهر قبل السارد نفسه، وهذا يعني إيعاز البطولة إليه قد ظهر منذ البداية، وما يليه من خشخشة وشخير هي أعراض مرافقة فقط، ثم بعدها يأتي السارد كشخصية ثانية، وهي تمتاز بالتلقي، واتباع الخطوات القانونية، كما أنها بعيدة كل البعد عن الانفعال. أما الشخصية الأخرى، فهي شخصية الموظف، وهي مسطَّحَة مرتسمة بالحيرة، ثم أقارب الميت الذين لم يبلغوا عن ميتهم الذي مات منذ ثلاثة أعوام إلا قبل ثلاثة أشهر. الملاحظ أنه لا صراع بين هذه الشخصيات، لا مجابهة ولا مقابلة مركزية وجها لوجها، مساراتهم كلها متوازية لا تقاطع ولا اصطدام.
وبخصوص حقل القصة فهو الفقرة الأولى والثالثة، ومن المؤكد أن الفقرة الوسطى ليست فاصلا إعلاميا، ولا (فقرة استراحة) للقارئ، وإنما هي قاعدة للتشويق الهادئ الاحترافي، حيث تُطبخ الأحداث على نار هادئة..
ويبدو القاص موضوعيا في سرده عادلا بين شخصياته، لا يميل لا إلى أي واحد منها، لذلك خصص القفلة لموظف الاتصالات وهو أهل الاختصاص، وهو الوحيد الذي أنطقه حواريا بشكل رسمي، و قد أسند هذا الموظف الإبلاغ إلى الأقارب، و أفرد عن الميت أيضا الجملة الأخيرة لا يشاركه فيها أحد .
وهناك مفارقات صنعت جمالية النص :
أولا: طرحه لعشرات الأسئلة دون أن يستعمل أداة استفهام واحدة، و دون أن يتوجه مباشرة إلى المتلقي، بحيث يجد هذا الأخير نفسه متورطا في وحل العديد من التساؤلات التي يجب عليه الإجابة عنها .
ثانيا:على الرغم من أن القصة فيها ميت يحاول الاتصال من عالمه المظلم المخيف، إلا أن الكاتب لم يستعمل لفظا من ألفاظ الرعب أو ألفاظ الغموض الفضفاضة التي كان بإمكانه اللجوء إليها ليغلق نفسه داخلها، ولتسعفه في هكذا أجواء
ثالثا: لا توثيق في النص للعاطفة، حيث كان بإمكانه توظيف الانزعاج من قبل السارد بسبب إيقاظه في منتصف الليل، أو اللوم على التأخير عن التبليغ، أو الشعور بالخوف من أي طرف كان، هناك مواطن عديدة قابلة لغرس العاطفة فيها، لكن القاص فضّل السباحة على أمواج الأحداث، ولم يصطدم بصخور العاطفة، فكانت السلاسة والانسيابية وانعتاق الفكر.
رابعا: مزجه بين الحقيقة والخيال بلمسة سحرية، وبمسحة خفيفة لم نكن نتوقعها منه، فعندما تعتقد يخطو خطواته تجاه عالم الشهادة إذا به ينزاح إلى عالم الغيب ..
خامسا: اعتماد قفلة مغلقة بالموت، و لكن لا حسم فيها، بل بعدها مباشرة تبدأ القصة الحقيقية في نسختها الأصلية، فعندما تعتقد أن النص قد انغلق على نفسه، يأتيك المخرج الذي هو نافذة فسيحة تعتبر حياة جديدة للقصة، هذه النافذة هي هذا السيل الأسهم المتهاطلة من التأويلات، و الذي يعطي للقصة امتدادها الفلسفي.. هي أسئلة وجيهة، تركها الكاتب لك، صحيح أن السارد لم ينتبه إليها، لكن الكاتب، تعمد وضعها، كألغام إن لم تبالغ في الانتباه ستنفجر فيك، و هذه إحدى ميزات النصوص الراقية، من هذه الانشغالات:
ـ ما الذي جعل الميت يصبر ثلاثة أعوام لكي يكلم السارد؟ ربما يكون قد كلم أناسا كثيرين من قبل، ربما كلمك أنت.. فيئس منهم ويئس منك، فوصل إلى السارد. احتمال كبير أنه ما زال يكلم أشخاصا آخرين، منهم من لم ينتبه، ومنهم الجاحد .
ـ لماذا لم يبلغ الأقارب عن ميتهم إلا بعد ثلاث سنوات؟ أتراهم ينتظرون عودته من خلال بعض البشائر والعلامات؟ أم تراهم تناهبوا ميراثه وغفلوا عن التبليغ؟
ـ لماذا لم تعلّق شركة الاتصالات الخط منذ ثلاث سنوات؟ الشركة مهتمة بالأحياء.. أو ربما لها مصلحة في هذه الخشخشة والشخير، فهي لا تهتم لأمر المضمون .
ـ لماذا اختيار ثلاث سنوات بالتحديد؟ نحن أمام كاتب عربي الحرف لكنه عالمي الامتداد، يمكننا أن نرجع ثلاث سنوات إلى أوضاع بلاده (تونس) لنحصل على بعض الإجابات التي قد تفيدنا في هذا المجال..
وفي الأخير نشير إلى أننا أمام (ق ق ج) طويلة النفس، سحيقة في الانطلاقة ومديدة في غايتها، تصاحبك أصداؤها بعد الانتهاء من قراءتها مدة من الزمن إلى أن تأتيك مكالمة أخرى في منتصف الليل.