رندلى منصور… الشاعرة الثائرة

              

 

 

 

 

 

 

 

 

وما الحياة إلا دوران ودوران، ” وما حدا بياخذ دوره ودور غيره” و ” يا دارة دوري فينا” ودارت الدائرة عليه، ” يوم إلك ويوم عليك”. رندلى منصور، الشاعرة الثائرة، التي أرادت أن تتحدى الدوران بتسعة وثمانون قصيدة، كاشفة النقاب عن كلّ خفاياه فكانت معها الكلمة متحدّية حتى حروفها في الصفحة الأخيرة من هذا الديوان قائلة لها: ما عُدتُ أريد تدخلك في كتاباتي، سأحيا من دونك، وأرسم الشعر بألواني”.

ديوان أدخلنا بين طياته إلى أنفاقٍ وأنفاق لنخرج مع كلّ نهاية نفق إلى نور الحبّ، إلى نور الحق، إلى نور الخير، إلى نور الجمال، إلى نور الإبداع، حيث يلتقي دوران الذات مع دوران الوجود، فأسقطت الشمس من عليائها وجاهرت بادعائها في الدوران الأول “أعرف أن الشمس لا تُشرِقُ إلا من جبيني” فأعطت للحياة معنى أبعد من حدود الإدراك البشري.

دوران بائس يائس، محبط مؤلم، عندما نحيا من دون أمل، والسنين تصفعنا كلّ يوم، لا بل كلّ لحظة بضرب مبرح ونصرخ معه بصوت مرتفع أحيانًا، أما غالبًا فبصمتٍ مدوي ولا من يسمع ولا من يستجيب. ويبقى الصدى وحده يتردّد في سماء العبودية؛ أخرجونا من هذا السجن المريب كفى دوران. ولن يتوقف الدوران، ولم يتوقف الألم، أما الذي يتوقف فليس غير الأمل المغيّب حتى مع إشراقة الشمس.

أما على الضفة الأخرى، قادنا الدوران إلى حيث تتربّع الشاعرة على عرش الحريّة، نضال، كفاح، سهر متعب، شقاء وثورة من أجل عدالة على الأرض لتلاقي بها عدالة السماء، تنثر الأمل، تزرع الحبّ، تحصد السلام. تردّ الصفعات بالقبلات، وتختم المسيرة بدموع وذكريات، دموع الحزن على ما خسرنا ودموع الفرح على ما جنينا، وما بين الحزن والفرح دوران ودوران.

ندور مع الدوران لنحافظ على التوازن دون السقوط والاندثار.

والحياة مستمرة بِنَا وبغيرنا، فرحنا أم حزنّا، ضحكنا أم بكينا، بقرار أم بغير قرار، وطالما الأمر كذلك، فليكن لي القرار، وآخر همي هو الدوران.

من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى الشعر، ومن الشعر مجددًا إلى الرواية الأخرى، هو دوران آخر لرندلى منصور.

من ديوان الشعر الأول “بلا عنوان” إلى الرواية الأولى “حرية وراء القضبان” إلى ديوان الشعر الثاني “دوران” ونحن الآن على عتبة الرواية الثانية للأديبة وما أدراكم ما عنوانها.

لا يدور محرّك من غير حريق، فقالت في الدوران الخامس والثمانون ” علّمتني يا حطب سرّ الإحتراق” “ولا نعرف أنَّك تحترق رغم سكونك” “علّمتني: نموت ليسعد الآخرون”

حطب من غير حريق، محرّك من غير دوران، يتآكله الصدأ ويخطفه النسيان. أما شاعرتنا في دورانها الثاني والأربعون، “هي التي تدير المحرّكات وتختار السرعة، والوجهة، وتقلع إلى عمق الطوفان”، ليس إلى برّ الأمان وتحطّ برحالهافي عمق فلسفة الوجود وحيث السؤال مازال منتظرًا ردّه الشافي: جوهر كلّ شيء هو في المادة، أم جوهر كلّ شيء هو في الروح؟ أم أن الوجود هو الجوهر ذاته حيث الإتحاد بين المادة والروح ليبدأ معه الدوران وتبدأ معه الحياة. واستشهدت رندلى الشاعرة بذلك بدورانها الثالث في ديوانها، حيث قالت: “خارطتي تبدأ بك، تنتهي معك، وأنا لست أنا إلا فيك”.

دوران فيه مناجاة أنثى شفافة، مناجاة عاشقة ثائرة، فيه صرخة حقٍ أرادت أن تُسمعها إلى نزار، وكان ذلك في الدوران الثامن والثلاثون، فقالت له حين صادفته: “عذرًا نزار، لا لن أختار، بين صدرٍ ودفاتر أشعار، فبينهما علاقة أزلية، على صدرك سأنمو وأتماسك وبين سطورك سأبعثُ من جديد”.

وأنا أقول لك يا نزار، اطمئن وأنت بقبر جسدك وعلياء قصائدك، حبيبتك اليوم من عالم ما ألِفْتَهُ يومًا بحياتك، حبيبتك من عالم، الموت فيه بخيل، أما الحياة عندها فكريمة وكريمة جدًا، وإذا لم تصدق، أنظر إلى دورانها السابع والأربعون.

رندلى منصور، مبروكة لك دعوة الحياة ومبروك لنا “دوران”، فيه من الحق ما يجعله مرجعًا، ومن الخير ما يجعله قبلة، ومن الجمال ما يجعله متألقًا، أضفتِ به إلى مكتبة الشعر العربي قيمة إنسانية، حضارية، حقوقية، ستبقى ما حيينا، والسلام.

*****

(*) ألقيت خلال حفل توقيع ديوان “دوران” للشاعرة رندلى منصور في الندوة الثقافية- الاجتماعية القماطية في 29 يوليو 2017.

One comment

  1. يقول Shaerzad Fraiq:

    شعر رندلى بسيط. بساطته أول ما ينكشف منه. لكنها البساطة الموحية الملغزة التي ينبئ حضورها عمّا تتستر عليه من عمق والتباس، كأنما التدوين الشعري يتخذ هنا في هذه القصائد وظيفة الدلالة على ما لم يدوّن بعد.. فما يراد أن يقال على الحقيقة يتأخر دائماً عن الكلام. ولن يتبدّى بعد ذلك سوى الصمت، صمت ما قبل الكلام، كم جميل حين تقول في رشفاتها الصباحية :

    #رشفة_قهوة،

    أسافر بعيدًا
    ممتطية عينيك
    أجدني في قاع فنجانك
    بُنٌ بعطرك،
    وطعم شفتيك…

اترك رد