ربما لن تنتهي…

 

أُخِذتُ على ما أخذتني به رياح النهار. تلك تحملُ في نسائمها شذرات الحياة وحبّ الحياة. تحملكَ بعيدًا، وتدفع بك إلى المزيد… هي ترتقي بكَ عاليًا من حيث أنت لا تدري، وأنت على حين غرّة لا تعود تميّز فيها واقعًا من حلمٍ.

ثمة ما نلتقي به في الحياة وما يلتقي بنا ممّا يعسر على العقل رسمه وما يستحيل على الكلام وصفه. هو فقط يتسلل من أنفك ليلامس روحكَ، يدخل أعماقك، فتشعر معه بحاجةٍ إلى عينَيك مغلقَتَين…

لا أدري، ربّما وبشكلٍ لا إرادي، نمنحه ما يريد… نمنحه فرصة الابتعاد بنا إلى العالم الآخر، ذاك العالم الذي نتوق إليه، العالم الذي نجد فيه أنفسنا وسط حديقةٍ من أبهى الزهور، حديقةٍ تعبق بأزهى أنواع العطور.

لا أعرف من أين أتاني الشعور ذاك، إنما أنا قدتُ عربتي ودون أدنى سببٍ وجدتُني قد حللتُ ضيفًا عند صديقي البحر. ذهبتُ هناك شوقًا لمن أحبّ. نعم… هو الشوقُ قد حملني إلى هناك.

يسهل على من يصعب علينا ملاقاتهم جسدًا أن نلاقيهم روحًا. هي الأرواح والأفكار تلتقي عند بحر الحبّ. لمَ بحر الحب؟ ما الذي يجعله بحرًا للحبّ؟ لا أدري… إنما للبحر القدرة على الإبحار بنا إلى هناك حين يستحيل على الأرض أن توفِّق في اللقاء. والبحر يلقي شباكه مع أفكارنا فيروح بها وتروح هي معه.

أطفأتُ محرك العربة، علّني به أطفئ العالم من جنبي وحركته. نظرتُ البحر، يفصلني عنه حاجزٌ حديدي يكاد وهو أبيض اللون، يفقد بياضه كليًا. حيث كسته أسماء من زاروا المكان، ووجدوا من الرومانسية الكثير في حفر أسمائهم عسى أن تبقى في ذاكرة هذا المكان وتعيد إليهم،  إن هم عادوا إليها، حكاياتهم العذبة حين هم يحتاجون إليها لتغذيهم وتغنيهم.

أسماءٌ كثيرة… آلاف الأسماء… هي أكثر من أسماء… هي حكاياتٌ تقاطعت هنا، على هذا الحاجز تحمل عواطف ومشاعر وأحاسيس… لقد حوّلوا بأسمائهم حاجزًا حديديًا إلى لوحةٍ… إلى كتابٍ… إلى شاهدٍ حيٍّ.

ترجّلتُ من على عربتي، ووقفُ وقد لامستُ بيديّ الحاجز ذاك. قدّمتُ ظهري إلى العالم من خلفي، ورحتُ بنظري إلى البحر… كلمتُه بصمتٍ وأخبرته قصّتي، أجابني بصوت موجه… موجه ذاك قد مُدَّ نحوي، يحمل إليّ آذانًا مصغية…

يحاولُ العالم أن يعيدني إليه، بأصوات الناس وعرباتهم، بأصوات ضحكاتهم وصراخهم… ليس بعد، أنا لن أعود الآن… قد قدمتُ هنا لغاية، قدمتُ لأمدّ بنظري طول البحر… وأروح به وأفكاري… قدمت لألتقي من أريد… ارتفع البحر بصوت موجه وكأني به يحاول أن يطغى على بقيّة الأصوات. ابتسمتُ له أنا هنا، وشكرتُه!

فكرتُ لو كتبتُ على ذاك الحاجز الحديدي، إنما لا… سأكتب في الهواء، سأحمّله قصتي… ثمّ لا، قصتي لم تنتهي بعد… ربما لن تنتهي!

اترك رد