يعاني المثقف العراقي المغترب عزلةً من نوع خاص جداً، يسترجع فيها ومن خلالها حضارة عريقة وتاريخاً زاخراً وواقعاً مؤلماً، يتمثل في انهيار -وتداعي- هذا الوطن شيئاً فشيئاً إثر حروب وصراعات ونزاعات وأطماع لم تنتهِ إلا لتبدأ من جديد ولعقود طويلة، فلم تبقِ لهذا المثقف سوى شعورٍ مؤلمٍ بالغربة والعزلة سواء كان داخل الوطن أم خارجه.
الكاتب العراقي المغترب حميد العقابي صاحب المجموعة القصصية «يؤثث الفراغ ويضحك» (الهيئة المصرية العامة للكتاب- سلسلة الإبداع العربي) يقيم في الدنمارك منذ عام 1985، وأصدر الكثير من الكتب مِن بغداد والقاهرة وبيروت وبرلين وكوبنهاغن، تتنوع بين القصة والرواية والشعر. في مجموعة «يؤثث الفراغ ويضحك»، نجد حالة الاغتراب والعزلة، واسعة المدى، فهي لا تقتصر على اغتراب المكان والبعد عن الوطن، إنما هي حالة دينامية مستمرة داخل الكاتب عبّر عنها برحلته إلى «اللامكان» أو «الفراغ». كان هذا «اللامكان» له وطن يحاول من خلاله الولوج إلى «مكان» أرحب وأكثر هدوءاً وسلاماً. وربما كان الفراغ أكثر اتساعاً واستيعاباً لعقل مفكرٍ يحاول التخلص من حماقات استمدت قوتها من الماضي واستبدّت بالحاضر لتحيله إلى ماضٍ مستمر لا يقوى على مواجهة الواقع المؤلم لتصحيح مساره.
نحن هنا؛ نجد سرداً قصصياً بالغ المتعة، حيث الخيال والواقع يتمايزان ويتجانسان في آن واحد. يحاول الكاتب التمرد على الماضي وإعادة ترتيب أبجدياته لخلق سيرة ليس لها وجود إلّا في خياله، أراد من خلالها الشعور بالرضا عن ذاته التي لم يكن راضياً عنها. وهو ما نراه في قصة «اللعبة» التي تفتتح بها المجموعة، ومحاولة أخرى للشعور بالرضا من خلال صنع «البديل» ليحمل عنه صخرة أخطائه السابقة واللاحقة فيجلس هو في ركن بعيد ساخراً من بديله، متمرداً على ذاته. لكن بديله يضعه أمام سؤال وجودي لم يعثر له على إجابة: «ما جدوى وجودك الآن؟»، ما يضع القارئ الافتراضي أمام السؤال نفسه ويفتح آفاق فلسفة الوجود.
«يؤثث الفراغ ويضحك»، هي مجموعة قصصية تتنوع في أفكارها وخيالها، لكنها تتحد في الذات المغتربة غربة نفسية لها مبررات كثيرة، منها تجارب السجن بغير ذنب والعزلة المُختارة، والسخرية من هذه الذات على ما اجترحت من ذنوب، وما دفعت من فواتير لذنوب أخرى لم ترتكبها. قد تكون فواتير الوطن الذي تم انتزاعه من الروح قبل الجسد، فَغَدَا من الصعب استرجاعه عما قريب. لكن هذه القصص لا تخلو من الفكاهة وإن كانت هي الجانب الساخر من الوجع، لكنها تضيف إلى المجموعة حساً خفيف الروح كأنه ومضات يستند إليها الكاتب والقارئ معاً ليكملا رحلة الوجود المرّ الذي لا فرار منه. ومن هذه القصص «النغل»؛ وهو مصطلح عراقي يعني «اللقيط»، كذلك قصة «ميووووو»؛ التي تحكي عن زوجة محبة تحاول إخراج زوجها من حالة اكتئاب حادة، فما كان منها إلّا أن تحولت إلى قطة ليعج البيت بالضحك والبهجة.
الأعزل حميد العقابي يقرر في نهاية مجموعته أن يتفاعل مع قارئه كأنهما يجلسان على طاولة واحدة ويتشاركان هماً واحداً، فيمنحه بعض دقائقه التي قد تمثل سيرة ذاتية للكاتب، وقد تكون سيرة خياله الخصب، لكنها في الأحوال كافة ليست من القصص بقدر ما هي سردٌ لما يفعله أو يتخيله الأعزل في عزلته، فترتفع ضحكته وهو يقارن نفسه ككاتب بكتاب مشهورين كتبوا ما أطلق النقاد عليه بالواقعية السحرية، حيث خلقوا لشخصياتهم البشرية ذيولاً وأجنحة، أو بصاحب «المسخ» الذي جعل بطله يفيق ليجد نفسه وقد تحول إلى صرصار؛ «ماذا يكتبون لو عاشوا ربع ما عشتُهُ من أهوال ورعب؟» ص122. هكذا يفكر الأعزل، لذا يبدأ بإشراك قارئه في دقائقه المعزولة عن العالم، وبدلاً من لعن كوابيسه، يقرر اتخاذها مادة للكتابة، وربما للسخرية منها. «دقائق الأعزل» قد تمر علينا من دون أن تلفتنا، فهناك دقائق للحِداد، وأخرى للتأمل، وللغناء، والحلم، والرسم، والضحك، والسحر، واختبار الذاكرة، والتأنيب، وإصلاح الماضي والخلل، ومحاولة إنقاذ الصمت، والمشاكسة، والثورة، والشكوى، واللعب. وهناك دقائق لإخراج العزلة من عزلتها، وأخيراً دقائق للّاشيء، يمنح الكاتب من خلالها قارئيه فرصة قراءة نصوصه كل بحسب رؤيته مبدياً ملاحظاته لكل منهم؛ ليمنحهم فرصة الإضافة وملء الفراغ الذي تركه في نصوصه المعزولة.
«قد يجرب الأعزل الانتحار وهي فكرة تراوده دائماً لكنه يتراجع في اللحظات الأخيرة ليس خوفاً بل لأنه يستمتع بفكرة السير على شفا الهاوية مغمض العينين ليحيا موته ويعرف جيداً أن الموت نهاية الحياة ولا يريد لهذه اللعبة أن تنتهي فهي بكل مساوئها لعبة مسلية ولا تخلو من جمالية تستحق البقاء» ص147.
*****
(*) جريدة الحياة 8- 8- 2017