هواجس نهيويّة

                 

بزخم زوبعة هوجاء، يبعث الى الأعالي هواجسه النهيوية، وراء جذر يلتفُّ لفّ ثعبان محنَّط، ترقد عروقه على دماء ضحايا ما زالت تنزف حتى الأعماق على عتبة جدار الارض. ضحايا نسمع صراخهم وانينهم ونتنشق رائحة دمائهم…ضحايا تخدّرت، وقد اصابها الغثيان من تخمة رهصاتها، فتنفست الصعداء لتبث سمومها وتتشفّى داخل دائرة وجود مغلقة.

هكذا استوحت الرسّامة نيغين فلاّح خبطات الغلاف من شاعر يبشّر ببدءجديد.. مستهلاًّ بكلمة إهداء صريحة تختزل ايمانـه بإلـه ” يستلذ الذبائح ” ليرسم بنجيعهـا بـدءَا.. كان في البَـدء، يصنع منه حـوّاء يلد منها الشعر، وهو ضائع داخل الدوائر يفتش عن خشبة خلاصه..إهداؤه هذادعَّمه مكرم غصوب على الصفحة الأولى في كتابه الأخير ”الطارق” بتحدٍّ فيه الغمز من قناتي الإيمانية: إلى الإله في لويس الحايك… هذا الغمز لم يأت دون إشعار بل جاء تذكيراً بنقد كتبته سابقا عن كتابيه ”كذبة صدف” و”نشيد العدم“، اعتبره شاعرنا تجريحًا مع انه، برأيي، وكما اذكر،  كان نخلا هادئا ومقوِّماً..

مكرم غصوب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

موجة الكفر والتكفير

أقول له في البداية إن موجة الكفر والتكفير التي أثارت حماسة الشباب عندنا في القرن العشرين واعتبرت جزءا لا يتجزأ من حداثتنا، لم تكن فتحا جديدا من فتوحاتنا فقد عمت العالم قبل وصولها الينا ونضجت نضج المسوخ وكان من روادها الأوائل ادباء المهجر وشعراؤه، وكان الريحاني اول الملحدين واول من خلخل عمودية الشعر وصيّره نثرا، كما ان موت إله يستلذ الذبائح فيكتب بالشعر حكاية خلقه من جديد…ليس سوى هذيان لضلالية نيتشوية اكتشفت وجود الله بموته ولضلالية شاعر مشدود بالزور الى الأعالي، محلـقاً بأشباحه للوصول الى عتبة باب الرحيم، وهو باب لم يوصد مرة بوجه انسان،  وهو المشرّع دائما وأبدا لفضول سائل يسأل وفضول لاه يتفرج وهما، في تحليل كانت، وجهان لعبثية مدركة وعبثية جاهلة تتماهيان بالصمت./فالصمت هو موسيقى التكوين… والأذن التي لا تسمع الصمت، أذنٌ صماء/.

ألا ترى معي ان هذا الصمتُ يتجاوز مطبّات كلِّ أسئلة وأجوبة حول الوجود والمصير لأنه في حِلٍّ بين إمرأتين الاولى تختزل سرَّ الخلق بموسيقى لا تسمعها أذن كأنين نـاي جبران والثانية تختزله في سماء يستريح فيها الإلـه، ليس لتعب في عملية خلق لم ير فيها ما يشهر وجوده، بل لفوزه بإيلاد عقل يستطيع ان يعرفه ويشعر بوجوده، فيعبده ويؤمن به، أو يتـنكر لهو يعلن موته، أو يصلي له في ساعات فرحه أو يدعوه الى حضور وليمته في ساعات مرضه وهزيمته… فالإله لا يعنيه ان نسال عنه او نثبت وجوده بالإيمان فحسب.. وهذا ما شعر به الطارق فراح يحلق بعيدا ليطاله، آملاً بفك رموز العقدة العصية التي لا يمكن لمخلوق ضعيف أن يجد لها حلاًّ ولا يستطيع ان يضبط شواردها في انعكاسات الأنا وتجاذبها مع المجهول حول الفناء، أوعودة الروح الى جذرها في الأرض، وهو مربوط بالمرأة الموحّدة ِ ”أناه” آمل لأن يجد حلاًّ بالعودة اليها بعد الموت/بعد موتي واحتراقي سيعيد الموج رمادي المرمي فيوسط البحر/ليذوب زبداً على جسدك العاري ويسكن مسامك وأشعة الشمس حتى الإحتراق الجديد”.

الفتاوى النهيوية

وبعد، ما لنا ولهذه الفتاوى النهيوية التي لا حل لها منذ اسطورة الطوفان الأول، ولندخل الى نصوص الكتاب في فضائياته الشاعرية، فنقول أن نثرياته المرقَّمة تحمل الكثير من عناصر الشعر الطليق.

لنقرأ في عشق اناه واناها، في معركة الوجود مع خالق مجهول ومخلوق تائه:”حين أشتاق اليك، ابحث عني/حين أشتاق إلىيَّ، أبحث عنك/حين أشتاق الينا، ابحث عن الله”…

كلمات مشذّبة لا ابتذال ولا عاديّة ولا غموض في طرح رموزها.

وإذ يكمل بهذه المقوّمات الصحيحة للكلمة الشعرية في نصوص الكتاب: ” نموت ليبقى الإله حياً…/أمشي بين الأشجار الواقفة/ظلال أرواح عند الغسق/كل الأرواح تنام على تعب/أجراس الصمت تناديني/الزيّاح على نيّة الأموات الصائمة/أذوب كقطعة ثلج/والشمس غائبة عن الإله/ما عدت أراني في الأفق/بعيدا صرت عنّي/حتى ولدت مني/قتلني إله ليتجدد “.

نجده أحيانا يحشر هذه الكلمة بسرد طويل اقرب الى الوعظ:/عرفت ثلاثة أصناف من البشر/الأول يعدّ أمواله/الثاني يعدّ أيامه/الثالث يعدّ الحياة للأجيال الآتية/الأول يصنع حضوره/الثاني يصنع غيابه/الثالث يصنع الوجود الإنساني. في تكوين البشري 70% من الماء/الإنسان مكوّن من الحب بنسبة 100%

ويحشرها أيضا بسرد قصصي ممغَّط:/صراخ الباعة يؤرقني ” أسماك طازجة “/ اصوات الباعة تلاحقني، حتى المنادي على ” الصمت “…!

مع المرأة يحاكِم ويحاكَم

سرد رائع يتقن صناعته مكرم غصوب لكني أصر، في عملية صناعة القصيدة المنثورة على التلميح والتشذيب وهندمة الكلمة بتنسيقها واختيار موقعها كما تهندم باقة الورود والأزهار.

وبعد، ماذا عن هواجس الطارق، فهل وجد الحل الذي يفتش عنه أم بقي معلقا بين أرضه وسمائه!

مع المرأة يحاكِم ويحاكَم لأنها سرّ بقائه:/أعرف ان الطريق ليس لي ولا حتى لحذائي../وان الوقت ليس وقتي../أعرف كل هذا وأكثر…/لكني احبك وإن أردت أن أبقى فقط لأنك سرُّ بقائي…ص. 109.

ثم يحاول إختصاراللعبة في النشيد الثاني ” إله من إله ” ويقول :/بحربلا موج اله بلا خلق… ص165 رقم67فإذا به يجد نفسه طائعا مرغما على الإعتراف بوجود الله مع طبيعة توحي بوجوده : “الطيور لا تقصد الغابة من أجل ألوانها أما أنا فبلـى./وحدها الطبيعـة تتكلم لغـة الله”. ص 262 رقم 62. إذاً، الله موجود في قلبه وعقله يتناغم معهلكنّ قيد المرأة شديد التعقيد ورباطها يستفز عقله فيحاول الفرار بتغريدات ايمانية وخلقية فيفشل لأن حلولَه بها وحلولُها به متماهيان في بوتقةروحيٍّةأبديّةكحلول الموت بالفناء وحلول الفناء بالموت.

اقول في الختام ان معركة الشعراء الغاوين، تستحق المحاولة التي افتعلها الشاعر مكرم غصوب بعمل يمكن ان يفتعله أي غاوآخر عندما يُصدُّ باب القصر بوجهه فيضطر الى تحطيم جدرانهتشفِّياًكي يهدأ.. وهذهطبيعة في الإنسان الباحث عن حقيقة المصير، وبالأخص،  إذا ألحد… وهي طبيعة لا يغيرها سوى الكفن..

 

اترك رد