تتبلور في أقاصيص الأديبة والأكاديمية ناتالي الخوري غريبفي مجموعتها “العابرون” الصادرة حديثًا عن دار الإبداع، 2017، منظومةٌ من الأفكار الفلسفية الوجودية العميقة، ومن الأفكار الاجتماعية الهادفة التي تصوغها في قالبٍ فني أدبي مشوّق تبدو من خلاله خصوبة الخيال مُجيرةً لصالح العقل يؤطّرها، ويُحكم قيادها.
ولعلّ القصة الأكثر تمثيلاً على ما نذهب إليه هي قصة ( الغريبان)، حيث شخصية العرافة كمدركة واعية ترى إلى سرّ الوجود الكامن في الحركية لا في الجمود، في الحب والفن شريطة ألاّ يغتال الحبّ الحرية.
فضمن السياق السردي القائم على لعبة البحث عن الحبيبة (الراعية) والحبيب(العازف)، سنقع على ثنائية السجن/ الحرية، الجديد/ القديم، الماضي / الحاضر ، الجهل/ المعرفة ، الوعي/ واللآوعي. تتحرك الكاتبة عبر خيوطها الدقيقة لتغزل حبكتها السردية بجمل حكائية رشيقة تتلاءم مع هذا التقابل بين الاجتماعي والفلسفي، كما بين الخارجي والداخلي ، فيصبح التمرد على الجد تمرّداً على الموروثات اللصيقة المتحجرة، بينما يظهر رفض السياج تنكّراً للموروثات الخارجية المعيقة للحركة البشرية الحرة، وللتدفق العاطفي الإنسانيّ.
وإذا كانت القصة القصيرة مؤهلة بحكم قصر خطابها لتكون أكثر الأشكال الأدبية قدرة على التقاط مؤثرات حركة الواقع الاجتماعي بوتيرتها المتسارعة، وهي حركةٌ موصوفةٌ في تاريخنا العربي بالسرعة والخلخلة والانكسار، وبالكثافة والتناقض في آن، فإنّ الكاتبة تستغل هذه الإمكانيات في قصتها ” قوارب الموت ” لنطلّ من خلالها على بعض واقعنا العربي المتردي، وعلى حالة الشعوب التي تأكّلتها العادات والطقوس ومشهديات كمّ الأفواه وسحق حامليها.
ففي هذه القصة تمارس الكاتبة لعبة القفز بين محطات تاريخية مختلفة ما بين الحاضر، والماضي القريب انتهاءً إلى الماضي البعيد.فتنطلق الكاتبة من الحاضر القاسي حيث القمع واضطهاد المفكرين والكتّاب إلى التاريخ المعروف ( هولاكو من جديد يلوّن البحر بحبر إبن رشد جديد ص72)، إذ يتكسر زمن القصّ بحدّة ما بين الواقع الذي تحياه البطلة والواقع الذي عاشه والدها، وتتبدّى ذريعة البحث عنه وركوب القارب مع الراكبين – الجماهير التي تشاركها ألم الواقع المأزوم-لتصبح هذه الذريعة وسيلة الكاتبة للقول ولهذا التكسر الزمني، فاتحةً بهذا التكسّر زمن القص الحاضر على ماضٍ له محققة ًرغبتها في إسقاط المسافة بين الزمنين، وذلك لصالح التماثل القائم بينهما من دون أن تفسد على القارئ متعة القراءة الفنيّة في قصتها.
” أمّا في “عودة الإبنة الضالة “، وفي ” كتاب الناسك” فصوفية واضحة ودعوة حقيقية للتفكر في الحِكم والمقدرة الإلهيةوما يتجاوز التديّن السطحي إلى جوهر الإيمان.
وعلى الرغم أنّ في هاتين الأقصوصتين ما يحيل إلى اللاهوت المسيحي، إلا أنّ الحدث المحوري ومتوالياته السردية تجعلنا نتواجه مع الهواجس البشرية عامة،ومع الأسئلة الأبدية التي لا تعرف الإجابة حول: مفهوم العدالة الإلهية – مفهوم الخير والشرّ في السلوك البشري، العدالة الدنيوية، وظاهرةإطلاق الأحكام المسبقة على الناس
هي خمس أقاصيص تصوّر المجتمعالمشوّه تقابلهصوفيةٌومثالية ورغبةٌ حثيثة في الخلاص من وطأة الواقع،ولّدت الخطابية التي تقطع السياق السردي أكثر من مرة توصّف صاحبتها فجاجة الاجتماع الذي تحياه شعوبنا العربية ، وليستحيل الحب والحرية خلاصاً وحيداً للمأزق بالنسبة لها ،فالكاتبة تتحدّث عن الحبّ والحرية كتوأمين لا فكاك بينهما ” الحب والحرية حبيبان أزليان لا يثمر واحدهما إلا بالآخر” الناسك ص 23، وهذا مخالفٌ لما تعلمنا في حيّزنا : لأنّنا ” شعوب علّموها أنّ اللذات كامنة في جلد الذات ، وأن الحبّ العظيم هو في الانسلاخ عمّن نحب” ص31.
نقرأ ونقرأ ونحن نسأل أنفسنا : هل تحاول ناتالي الخوري غريب في كتابها “العابرون” العبور من ركود الواقع وأسنه إلى مثالية الحب ودفئه، وهل تدفعناحثيثاً إلى إعادة النظر في ثوابتنا أو على الأقل في ما تحجّر منها؟ أياً يكن ففي هذا الكتاب بحث حقيقيّ من قِبلها عن الاستواء الإنساني وعن توازن الإنسان الممزق في شرقنا، وفي أبعادها المضمرة في كل صفحاته دعوة إلى المصالحة الحقيقية مع الحياة وإلى اتخاذ الحب ضوءاً هادياً وحيداً لابن الإنسان في سُبلها المظلمة الملتوية.