ما القولُ أنتَ تتكلَّمُ على الذّاتِ وأدبِ السِّيرة؟
فإن تحدّثت عنِ الذّاتِ والنَّفس، أو عن أمرٍ في إنسانٍ شغل العالم، تظنُّ ذلك على مدِّ زندِك، دونه القحمة.
وإن أنتَ اختصرتَ أو أبديتَ رأيًا مُغايرًا، قِيل تدلّى، أو أَشَرتَ إلى تفاريقَ مُخْتلفٌ عليها، قيل تصرّفَ كما يشاءُ.
وإذا اقتَصرَ السِّياقُ على واقعاتٍ انفردتْ بها الحياةُ والأديانُ والآراءُ والفلسفةُ، أنكروا عالياتِ الأدب والفكرِ، وإن ضُرِبَ في أغوارِ الظَّنِّ والتَّأويل، ضاع على القائلِ المعرفة.
ما تراكَ تقولُ، وما برئَ الفِكرُ من الملام؟
فإن لم تكنْ من حالِكَ في زماعٍ، هلك في القدرةِ تقويمٌ واعتدالٌ، وهان الهُروبُ والانكفاءُ.
على أنَّ للسِّيرة أمانة ومحطّات لا بُدَّ أن تُقال، وتُروى على المسامعِ، وللآراء مواقف في عُمر المرءِ والحياة، ولا سيّما إذا كان الكلامُ يطولُ أُمَّةً وشعبًا وعاداتٍ، وتقاليدُ “الذّاتِ بين الحجابِ والسّفور” للدكتورة هيبة عبدالصّمد.
دراستُها هذه، أخذتْ حيّزًا واسعًا في مقارنةٍ بنيويةٍ وسيكولوجيّة، تناولت سيرتي محمد شكري، وغراهام غرين.
ومن الطبيعيّ في دُنيا البشر، أن يفرضَ الموضوعُ نفسهُ، على خطِّ التكوينِ، وعافيةِ البوح، إذ ذاك تعتدلُ الرّيشةُ على صَرَخاتٍ جوّانيّةٍ، ثمّ يدورُ المكنونَ في دوارِ الفكرةِ الصائبةِ، وموهبةِ الجُرأة في الكتابة، وقد يتّسمُ على الملامةِ، جرُّ القلمِ، أمّا الحيرةُ فتقتحمُ الثابتَ في عمقِ التَّعبيرِ.
ولا مصرِفَ لمن عَرَفَ التسويةَ والعدل في الحياة، وباتَ في كُنهِهِ الوُضوحُ ومرآةُ القناعةِ والشّفافيّةِ.
الكاتبةُ قدرتْ أن تجعل من الذّات مِطواعًا، وقد زادتها بالموشَّى الأفضل في نقاءِ الصحيفة، ثمّ رسمتْ طريقها بين الذاتيّة، ومعارج النّفس، ومِن ثمّ أظهرتْ ردودَ الفعلِ المتفاعلةِ، في سلطةِ البيتِ والأهلِ، والإدراكِ، والعودة إلى الذاكرةِ التي تكونُ حاضرةً أبدًا في البشريّ.
كتابُ الذّاتِ بين الحجابِ والسّفورِ للدكتورة هيبة عبدالصّمد، ذكّرني بعشراتِ الأدباءِ، الّذين وقفوا بين الحياةِ والأعمارِ والذَّاتِ وهُم يروون حكايات العمر، كما هي بجبروتٍ، ولا ضيرَ إن عاشوا الصِّراع والمرارة، في شبحِ العاداتِ والتّقاليدِ.
دراسةُ الدكتورة هيبة، إفصاحٌ أسميتُهُ شخصيًّا الجُرأةَ العلميَّة في مُجتمع كمجتمعِنا، وله أكثرُ من ناحيةٍ وموقفٍ تناولَ سيرة محمّد شكري وغراهام غرين.
أخذتِ السِّيرةُ عندها، مفاهيمَ ومُصطلحات، تمتازُ بالعِلمِ والأدبِ وفلسفةِ الذّاتِ، والنّقد الذّاتي، في توسيع لُغويِّ ناجح.
ثُمّ حاولتْ جاهدةً أن تخترقَ موضوعَ الحجابِ والسّفور، على خطّ الواقع، والعودةِ إلى كشفِ الذّاتِ، والبحثِ عن مُشكلاتِ النّفس، التي تختلفُ عن ذات بولس سلامة وتوفيق يوسف عوّاد مثلاً.
وفي أيّ حالٍ، نجدُ الكائنَ البشريَّ، يُفتِّشُ عن ذاتِهِ في دُنياهُ. والمتحدِّثُ عن نفسِهِ ضمنًا، يقفُ أمامَ مرآةٍ، منقّبًا عن دِخلتِهِ وسيمائه، والدَّقيقُ في التَّعاطي، لا بُدَّ أن يكاشفَ غيرَهُ عن حملتِهِ الذاتيَّةِ بالصِّدقِ، وبما عنده من مخبّآتٍ، بطريقةٍ تحليليَّةٍ، نفسيَّةٍ، وتفسيرٍ سيكولوجيٍ، وحنانٍ إلى الجذورِ التي خرجَ منها، والغالبُ دائمًا من مرحلةٍ الحداثةِ واليفعِ واستعادةِ الماضي، وكلُّ ذلك يمرُّ عبر التأثُّر والانفعال المتداخلِ في الذّاتِ الموجودةِ في الخيال.
فهذا ما فعلَهُ محمّد شكري في كتابِهِ “الخبز الحافي” الذّي مُنِعَ من النَّشرِ، وإذا ما لاحقنا حياتَه، عرفنا حُكمًا، أنَّ مُشكِلتَهُ، أكبرُ وأوسعُ من قصَّةِ الفقرِ والجهلِ والتَّشرُّدِ، إنَّها تسلُّطُ والدِهِ عليه، الَّذي خَلَق فيه أزْمةً نفسيّةً، وصراعًا داخليًا رافقه طوال حياتِهِ، أو قُلْ كابوسًا لم يفارقْهُ.
مشكلةُ شكري، تختلفُ عن حال بولس سلامة، الذي رافقه الألمُ طويلاً، وعلى وقْع ألمِهِ لقَّبْناهُ بأيوب قرن العشرين. مصيبةُ هذا الأخير، نخَّلَتْها الذّاكرةُ، حيث كانت سيرتُهُ بمثابةِ علاجٍ نفسيٍّ، وعند الإثنين وَجَدنا شعورًا مُغلّفًا بالجرأةِ، والكشفِ والتحرُّرِ، والحديثِ عن الماضي والمحظور.
وكذا، ما جَرَى لغراهام غرين، مع عائلتِهِ وَعَلاقته بأهلِهِ.
واضطرَّني الموقفُ لأقولَ، إنَّ عِلْمَ النَّفس يُعلِنُ للإنسانِ حالاتٍ، عاشَها، وتركتْ في لاوعيه أثرًا سلبيًا، مسرورًا بالتخيُّلِ والتذكُّرِ، وهذا الحدَثُ يدخلُ في بابِ الوعي واللاّوعي.
وقد قال غرين في سيرتِهِ الذَّاتيَّةِ، متناولاً التَّحليلَ النَّفسيّ، عندما أرادَ أن يضع الأمورَ في مكمنها، وفي بعض الأحيان، عارض سيرتَهَ الذاتيَّة، وراح يصفُ حالتهُ وأرضهُ وأهلهُ، لأنّ المكانَ يلعبُ دوراً بارزاً في العُمرِ، والباحثُ عن ذاتِهِ، يجدُ توقًا، لِعرضِ أزماتِهِ النفسيَّة، وبخاصّة المترسِّخةُ في ذاكرةٍ تجمعُ المدركاتِ، ووعي الزَّمنِ، إضافةً إلى الأحداثِ والأحاسيسِ التي تُرافقُ الدَّهرَ والأيَّام.
وفي هذا التلاعُبِ النَّفسي، اعتراضٌ صريحٌ، بأنَّ كاتبَ السِّيرةِ الذاتيَّة، لا بُدَّ أن يتخطى حواجزَ المغامرةِ، الّتي يلقاها في حياتِهِ، بدءًا من السُّلطةِ الأبويَّةِ الّتي تعترضُهُ، كما هو الحال في سيرةِ شكري الّذي شعر بالدُونيَّةِ كما ورد في دراسةِ الدكتورة هيبة عبد الصّمد، الدُّونيّة التي صاحبته منذ البدءِ. وممّا لا شكّ فيه، الدّونيّة هي حالةٌ مرضيَّةٌ، ولعلَّها تفقدُ الرّوح الأبويّة، الّتي تتلاشى مع مرور الزَّمن، ومع هذا لا ينسى القهر على رغم التّحرُّر الآتي.
ولو عُدنا بالذاكرةِ، إلى ميخائيل نعيمه، والعقّاد، وسلامه، وطوقان وغيرهم الكثير، نجدُ ردودَ الفعل في الذاتِ، التي تمتازُ بالمكبوتاتِ، واسترجاعِ الغابرِ. وفي مطلقِ الأحوالِ، هذه القضايا تحتاجُ إلى الفكر واللّغة والتعبير عن استبطانِ الذّاتِ، واختزانِ اللاّوعي، وهذا ما أكّده شكري في سيرتِهِ الذاتيّةِ من دونِ تكلُّفٍ، على متْنِ الواقع النفسيّ والإنسانيّ والذاكرةِ والنّسيانِ في أيِّ حال.
ما بين السّيرةِ الذاتيَّةِ والوعي واللاّوعي والفلسفةِ والحياةِ والإنسانِ، ثوابتُ، نزعتِ الدِّثار عنها الدكتورة هيبة عبدالصّمد، لِتُظهرَ حقيقة الحجاب والسّفور، وقدرت أن تُثبِتَ بأنّ الحجابَ أمرٌ مرغوبٌ، والسُّفور أمرٌ غير مستحيل.
وفي الدراسةِ، بان التنوُّعُ، والتنقُّلُ الموضوعيُّ والوجوديُّ، وبعضُ الاستطراداتِ الموفّقةِ على هامش السِّيرةِ، وتناولُ الزَّمنِ بماضيه ومستقبلِهِ.
وثمَّةَ طوافٌ رصينٌ، لا يفوتُهُ الكمالُ المقصود.
الأسلوبُ رشيقٌ، لا ارتباك على بيانِهِ، ولا جفوة، أمَّا العذوبةُ مُغامرةٌ، على حيويَّةِ السّياق.
14- 5- 2017