كيف تنحصر الشخصية في اليد ؟

 

وقفة في ق ق ج (الحاجز الأخير) للقاص السوري نور الدين عمار

 

أخيراً فازَتْ يدي بلقمة من صحنِ الوطنِ الكبير، حملَتْها بإصرار، متحملةً كل الصعاب، في طريقها إلى فمي، بدهشةٍ توقفتْ أمام الحاجزِ الأخيرِ المغلق؛ شفتاي الملتحمتان.

لا أحبذ في ق ق ج أن يكون العنوان مأخوذا من النص ، لما في ذلك من الإهدار للفرصة الممنوحة ، فالإبداع فيها كله كلمات معدودة مطالبة أن تؤدي مهمة خاطفة وناجعة، الأمر الذي يحتم علينا استغلال هذه الفسحة. و يستسهل البعض صياغة العنوان، في اعتقادهم أن الإبداع انتهى بدونه متجاهلين أن تقييم عملهم يبدأ به .

و قبل أن نتجاوز هذه العتبة، لابد أن نشير إلى أن هذا العنوان مستهلك، ومن بين من وظفه الكاتب المسرحي السلوفاكي (ستيفان كلارك) في مسرحية عالمية مشهورة ، ولا يعني أن نبخس النص قدره بسبب هذه المماثلة في الرأس .

لا بأس أن ننبه إلى أن الكاتب اختار جملة اسمية لعنوانه، وهو الأمر الذي لا يحفز الانتباه الكافي عادة في ق ق ج ، و لكنه لا يقصد أن يضع قارئه في أجواء متوترة ، لأنه يريده أن يسترخي محاولا أن يصل إلى فكرته بكل تؤدة، وهي طريقة المقتنعين بأفكارهم بعمق. كما أن الحركية الفعلية أصلا في النص غير طاغية، فقد اكتفى بثلاثة أفعال؛ أحدها فقط يحمل بذور الإيجابية (فازت)، أما الثاني فيحمل المضامين السلبية (حملتها) التي فيها من الانفعال والجبرية، والفعل (توقفت) لا يحتاج إلى توضيح، ويعزز رأينا هذا تحبيذه للاستهلال باسم (أخيرا) وتقديمه على الفعل (فازت)، و هو الأمر الذي يعكر صفو الفوز كونه لم يأت في وقته مما يبكر بالفهم أن النص سيقتحم موضوعا سلبيا .

وظف الكاتب الصفات بطريقة ملفتة، سواء الصريحة أو ما جاء جارا و مجرورا مثل (بإصرارـ بدهشة) مما يبطئ من سرعة النص، و يمنح مندوحة للفكر في بعض المحطات .

نلاحظ أن هناك تزاحما على الصحن، و أن هناك انتظارا طويلا من قبل الكثير من الناس يصطفّون ينتظرون دورهم لازدراد لقمة صحن الوطن، و لكن لماذا يضيف صفة (الكبير)؟ هل يعني الوطن العربي؟ وهل يقصد باللقمة التي فاز بها أخيرا الثورات العربية التي لم يهنأ بها، و التي لم يستفيد منها؟أم أنه قد استفاد من مغنم من المغانم و لكنه أتاه في غير موعده .قد يقصد بالكبير التعظيم ..الاحتمالات واردة ، والحسم مجازفة .

هذا الوطن رغم كبره لم يقدم لمواطنه كوليمة سوى صحن يتنافس عليه مع مجموعة من أمثاله، و بعد صراع، تناله منه مجرد لقمة .. ثم إنه في خضم هذا الصراع لم تبق له كينونة واعية قائمة بذاتها، و إنما بقيت له يد لا يكتب بها و لا يبطش، و إنما يصطاد بها اللقمات، انحصرت شخصيته كلها في يده، حتى الدهشة التي إحدى تجليات الذات العاقلة أصبحت من نصيب يديه. الكل يريد أن يستفيد من هذا الوطن، حتى الموظف الذي معاشه من خزينة الوطن، يقول ما أخذت من الوطن شيئا، لعل هذه الأيدي عبارة عن أشخاص يتحرك بعضهم في صالح الوطن، و غيرهم ضده، والبعض الآخر ليس له علم بما يفعل ، تبقى الدهشة سيدة الموقف .

وضعنا الكاتب في مشهد الحاجر الأخير دون الإشارة إلى الحواجز الأخرى، لأنه يفترض من القارئ معرفتها كلها، لأنه يعيشها يوميا، الحاجز الأخير مشكلة المشكلات، فالشفاه المغلقة بحكم القمع، أو بحكم الاحتراز، لا يدخلها الذباب، فما بالك باللقمة ؟ وقد التحمت مع مرور الزمن،إنه نوع من التطور الخلقي يعزز قدم هذه العادة، و يبشر بظهور نوع جديد من البشر أقرب إلى المسخ.

المشكل في هذا الحاجز أنه غير معلن عنه، و المصيبة أنه دائم لا يغادر مكانه، بينما يتخذ البطل جميع الإجراءات للانطلاق، ويتخطى كل العوائق معتقدا أنه قد دفع الثمن، إذا به يجد نفسه مضطرا للتراجع فورا .. تظهر فجاة المأساة متبرجة في أسوأ وضعياتها ..

فالقمع يخلق مواطنا صامتا، و الصمت مع مرور الزمن ينتج لنا شخصا عاجزا حتى عن فتح فمه، شخصا غير مبتكر أو مبادر ..لا يستطيع إطعام نفسه .

رغم الجمال اللغوي و الفني للنص منذ البداية إلا أنه يراهن و باحترافية على القفلة غير المنتظرة من جهة و الصادمة من جهة أخرى، لا بطل في القصة إلا هذه اليد، هكذا يقولون، فاليد التي تحمل اللقمة تتحمل كل الصعاب، لكنها تعجز أمام الانسداد لأنه ذاتي، و المتسبب فيه غير موجود الآن ،و لا يمكن محاسبته .

النص جميل، و يشي بوضوح بتمكن الكاتب و تمرسه في مسارب هذا الغرض الجديد من الأدب. .

تحية إليك القاص نور الدين عمار .

اترك رد