صدرَ عن مؤسَّسة الثقافة بالمجَّان كتابٌ جديدٌ لسُهيل قاشا وناجي نعمان، هو الأوَّلُ في سلسلة “درب الحقيقة” التي يُشرف عليها نعمان، وكان أسَّسها في العام 2015. يحملُ الكتابُ عنوانَ “درب الحقيقة – الجزء الأول – في التاريخ”، وتزيِّنُ غلافه لوحة بريشة الفنَّان التشكيلي سمير أبي راشد. وهو يقعُ في 240 صفحة من الحجم الوسط، ويتضمَّنُ 24 مبحثًا مُنفصِلاً.
يقولُ نعمان في السِّلسلة:
نَتَلَمَّسُ، في هذي السِّلسِلة، الحقيقةَ، ونَضَعُها بين يَدَي القارئ، لا كالحقيقة الحقيقيَّة، المُطلَقَة، الدِّكتاتوريَّة، بَل كأفضَل ما تَوَصَّلَ إليه أشخاصٌ مُعَيَّنون في زمنٍ مُعَيَّن، ذلك أنَّ مَعرفةَ الحقيقة الحقيقيَّة، والتَّأكُّدَ منها، أمرٌ صَعبٌ ونادر، فالإنسانُ الفاعِلُ في الأحداث مُتَغَيِّرٌ، وكَذا ناقِلُ الأحداث مِن جيلٍ إلى جيلٍ مُتغَيِّرٌ، ومِن الخَفايا ما سيَبْقى خَفِيًّا. كما أنَّ احتِكارَ الحقيقة على مَرِّ الأزمان أمرٌ مُستَحيل، ولاسيَّما في مَسائِل التَّاريخ والعَقيديَّات. ولَئِن أَنشَدَ ابنُ الوَرديِّ (1292-1349) في لامِيَّته: “لا تَقُلْ قد ذَهَبَتْ أربابُهُ / كُلُّ مَن سارَ على الدَّرْبِ وَصَلْ”، فنحن، في “دَرْبِ الحقيقة”، نَكتَفي بالسَّير على الدَّرْبِ، وبالتَّلَمُّس!
ويقولُ في التَّوطئة:
بَدَرَتْ إلى ذهني، في إِثْرِ اللِّقاءاتِ الَّتي تَجري في داري ومؤسَّستي صباحَ كُلِّ اثنَين، ويَجتَمِعُ فيها أحِبَّةٌ وباحِثون في شتَّى مَجالاتِ الثَّقافة والأدب والعُلوم والفُنون، فيَتداولون، مِن دون جَدوَلٍ مُعَيَّنٍ، في أمورٍ قد تَبدأُ سَطحِيَّةً، ولكنَّها تَنتَهي، على الدَّوام، عَميقةً ونافِعَةً، قُلْتُ، في إِثْرِ تلك اللِّقاءاتِ الَّتي مَثَّلَتْ صالونًا أدبيًّا فِعْلِيًّا مُعادِلاً “لقاءَ الأربَعاء” الَّذي أعقِدُه منذ سَنوات، بَدَرَتْ إلى ذهني فِكرَةُ إطلاق سِلسِلة كُتُبٍ تَبْحَثُ في مَوضوعاتٍ يَشوبُها اللَّبسُ والالتِباس، سِلسِلةٍ تسيرُ في “دَرْب الحقيقة”، تَتَلَمَّسُ الحقيقةَ، مِن دون أنْ تَدَّعي بُلوغَها.
ألجُزءُ الأوَّلُ مِن هذي السِّلسِلة يَجمَعُني بالأب سُهيل قاشا، الرَّافِدَيْنِيِّ المُقيمِ في بلاد الأرز منذُ أكثرَ مِن عِشرين، وصاحِبِ الأبحاث والتَّحقيقات الَّتي ناهَزَ عددُها الخَمسين بعدَ المِئَة، جُلُّها في التَّاريخ المَشرِقيِّ القديم. أجَل، يَجمَعُني هذا الجُزءُ بالأب قاشا، وبَيني وبين الرَّجلِ والمُكَرَّسِ كثيرٌ ممَّا نَتَشاركُ فيه، وبعضٌ ممَّا نختَلِفُ حَولَه. ولعلَّ ما جَرى بَيننا، في هذا الكِتاب، يَتَماهى مع ما كانَ يَجري بين الأخوَين رَحباني في عالَم كِتابة الأغنية والموسيقى والمَسرح الغِنائيّ، أَعْني أنَّ بَصماتِي اختَلَطَتْ ببَصَمات كِتاباتِ قاشا، حتَّى لَم يَعُدْ يُعرَفْ لها مِن كاتِب!
***
وأَقولُ، في رأيٍ خاصٍّ بي لِجهة ما قد يَرِدُ ههنا مِن مَعلوماتٍ وآراء، إنَّ الفِكَرَ والكِتاباتِ في تَمازُجٍ وتَناقُل، وإنَّ الأساطيرَ تَختلِطُ بالحقائق، وكَذا السَّمواتُ بالأرضِيَّات، والرُّوحِيَّاتُ بالجَسَديَّات؛ وأمَّا الإيمانُ الحقُّ فلا أراهُ إلاَّ في خَير البَشَر، كلِّ البَشَر، وهو يَتَخَطَّى، لدى المؤمِنينَ المؤمِنين، كلَّ أمرٍ، وكلَّ عَقيدة، مَهما شَكَّكَ المُشَكِّكون، أَصحابَ عِلمٍ أَكانوا، أم مُتَزَمِّتين إلى درجة الجَهل.
وفي رأيي أيضًا أنَّ ما كانَ الإنسانُ يَعْجِزُ عن تحقيقه على أرض الواقِع، أو يَفْشَلُ في فَهمه، كانَ يَلجأُ فيه إلى الخَيال، فتَنشأُ الحِكاياتُ الَّتي – على مَرِّ الأيَّام، وبِخيالاتٍ أخرى “تُمَلِّحُ وتُبَهِّرُ بحَسَب الحاجة” – تَروحُ تَتَحَوَّلُ أساطيرَ شعبيَّةً تَسْتَحْوِذُ، هنا وهناك، على جُزءٍ مِن إرثِ البَشَر ومُعتَقَداتهم لا يَسْهُلُ اجتِثاثُه.
ولَطالَما ردَّدْتُ المُطالبَةَ بتَحرير العُقول والأنفُس مِن أساطير العُهود الغابِرَة، وخُرافاتِها، تلك الَّتي تَتَضَخَّمُ مع الأيَّام، وتَخْرُجُ مِن مَضامينها الفِعليَّة، ووَقائِعِها، تلك الَّتي ما زالَ البَشَرُ يؤمِنون أو يَعمَلون بها بالسَّليقَة، تلك الَّتي لا يُمْكِنُهم التَّأَكُّدُ مِنها، والَّتي، لَو حَصَلَ شَبيهُها، اليومَ، أمامَ ناظِرِهم، لَما صَدَّقوا منها حَرفًا.
نَعَم، غَدا ضروريًّا ومُلِحًّا تحريرُ العُقول والأنفُس مِن العُهودِ الغابِرَةِ والعَقائدِ الإِلغائيَّةِ الختاميَّة، والاكتِفاءُ بالاعتِبار منها، متَى كانَتْ عِبَرٌ، وذلك لِرَفع مَنسوب ذكاء قُلوب البَشَر، ولِسَجنِ عُقولِهم وأنفُسِهم، إنْ صَحَّ السَّجنُ، لا في الأساطير والخُرافات “المُقدَّسة”، بل في التَّسامُح والتَّعاضُد الإنسانِيَّين!
فَلْنَأْخُذَنَّ مِن الكِتابات، قديمِها وحديثِها، أَسَماوِيَّةً عُدَّتْ أم أَرضِيَّةً، ما يَجْمَعُ البَشَرَ على الخَير والتَّقارُب مِن الغَير، ولنَنْبِذَنَّ كُلَّ ما يَدْعو إلى الشَّرِّ وبَغْضاء هذا الغَير. ولا نَهابَنَّ شيئًا أو أحدًا، فاللهُ إنَّما للخَير هو. ولنَتَجاهَلِ العُهودَ السَّابقَةَ، ولنَكُنْ لعَهد اللاَّعَهد، عَهدِ الأَنسَنَة؛ وَلْتَكُ عَلاقتُنا بالقَدير، كلَّما اسْتَطَعْنا، مِن غَير وَسيط؛ ولنَقْطَعَنَّ العَهدَ للعَمَل في سبيل الأَنسَنَةِ الحَقَّة، والإنسانيَّةِ المُتَعاضِدَة، والإنسانِ الهانِئ، فالإنسانُ هو الأساسُ والغايةُ، والإرثُ الإنسانيُّ الأخلاقيُّ هو ما تَجِبُ المُحافظَةُ عليه، وتَنميتُه!
“غَدا ضروريًّا ومُلِحًّا تحريرُ العُقول والأنفُس مِن العُهودِ الغابِرَةِ والعَقائدِ الإِلغائيَّةِ الختاميَّة، والاكتِفاءُ بالاعتِبار منها… وذلك لِرَفع مَنسوب ذكاء قُلوب البَشَر، ولِسَجنِ عُقولِهم وأنفُسِهم، إنْ صَحَّ السَّجنُ، لا في الأساطير والخُرافات “المُقدَّسة”، بل في التَّسامُح والتَّعاضُد الإنسانِيَّين!”
إنّ عالمنا المعاصر في أمسّ الحاجة لهذا الفكر الخلاق الهادف، المنمّق بالذوق والأدب والعلم وعمق المعرفة، من أجل بناء جيل واعٍ و”نظيف” الفكر، هدفه وغايته الخير الذي يختصره الأديب ناجي نعمان بقوله: “وأمَّا الإيمانُ الحقُّ فلا أراهُ إلاَّ في خَير البَشَر، كلِّ البَشَر”، فأرضنا لن تعرف السلام إن لم تقمِ المؤسسات الداعمة للسلام بنشر هذا الفكر وتكريسه في العقول.