ليس من السهل أن تكتب عن هرم بل عن أسطورة بحجم السيدة فيروز (نهاد رزق وديع حداد) وهذا هو اسمها الحقيقي.. وليس من السهل أيضاً أن تغوص في تشريح مميزاتها وخصائصها الفنية وعبقريتها ورقي وسمو ذوقها…
عندما نتكلم عن فيروز، فنحن لا نتكلم عن وطنها ولا عن نشأتها ولا عن زوجها وأولادها…يكفي انها بنت لهذا الوطن العربي الكبير..ترعرعت بين جباله وأشجاره.. بين نخيله ورماله، وشربت من محناته وتبسمت لأفراحه وبكت لأحزانه انما نتكلم عن فيروز النغم والصوت.
فيروز التي لا تزال تطرب الملايين من المحيط الى الخليج وتهز مشاعر الألاف في كل ركن من أركان عالمنا هذا. لقد نجحت فيروز في تمثيل فننا العربي خارج هذا الوطن الكبير، و شقت طريقها في ذلك بصوتها فقط…إن صوتها مرآة لما يجري لعالمنا العربي من محن و صراعات و أزمات…
فيروز زهرة فنية قلما نجدها في عالمنا، فهي تمزج بين الكلاسيكية و العصرية والفولكلور، لتخرج في النهاية بملحمة غنائية لا مثيل لها.. والملاحظ جدا هو أن فيروز لا تعتمد على صوت الآلات كما يفعل بعض المطربين.. لأن صوت الآلات في كثير من الأحيان يكون أساس نجاح المطرب بحيث تغطي هذه الأخيرة على صوته وبالتالي تخفي عيوبه..
لكن فيروز لم تكن من هذا النوع وحبالها الصوتية أكثر قوة من حبال أية آلة موسيقية على وجه الأرض، يكفي أنها أدت العشرات من الأغاني من دون حاجة إلى أية آلة موسيقية، وهذا فعلا ما ساعد الأخوين عاصي ومنصور رحباني في التعامل معها دون التعامل مع غيرها، خاصة في بداية المشوار. لقد استطاعا بفضلها أن ينجزا ملحمتها الفنية والتي أطلقا عليها اسم (أغاني لولو)، وهي أغانٍ من كلمات وتلحين الأخوين رحباني .. تتضمن أروع ما غنت فيروز ومنها: “أنسى كيف؟.. كانوا يا حبيبي..راجعين يا هوى.. سيف المراجل حكم.. نطرونا كثير” و…والقائمة طويلة..
مهما تحدثنا عن فيروز فإننا لا نستطيع أن نذكر كل شيء، ولكن كل ما يمكن تأكيده هو أن فيروز لم تبقَ سجينة الطرب المحلي، بل تعدت ذلك وأصبحت أغانيها عالمية تتلهف لها قلوب الجماهير، من كل وطن بصرف النظر عن الجنس و الأصل والوطن والدين وحتى اللغة…
إن الشيء الذي يلفت الانتباه في أغاني فيروز، هو مدى فهمها لذوق الجيل.. فهي لا ترغب دائما في أداء الأغاني الطويلة، بل فكرت في الأغاني القصيرة.. الأغاني التي لا يشمئز منها المستمع.
لقد اختارت صاحبة الصوت الملائكي الساحر طريقاً درامياً في الأداء، و قد وفقت في ذلك بامتياز.. فالمطرب الدرامي عندما يغني أغنية يبغي أن يغوص في تجارب ومشاعر أشخاصه.. أقصد جمهوره.. فأغاني فيروز تحمل هذه الصيغة الدرامية لهذا كان لها تأثير عميق في أذهان الجماهير
ما يميز (الدراما الفيروزية) هو كونها أقرب الى القلب، لا لأنها تتطلب تركيزا أقل ولأن تأثيرها أكثر مباشرة، و من ثم فهيمنتها أوسع نطاقا وأكثر شمولا…
هذه هي التحفة الفنية العربية والعالمية التي غنت في الوطن العربي وخارجه وفتحت أفاقا كبيرة في ميدان الطرب العربي، كما جعلت من صوتها آلة موسيقية تضاف إلى الآلات الأخرى.. إنها فعلا أعجوبة العصر.. هذه اللؤلؤة التي لا توال قابلة للعطاء باستمرار..
إن الحديث عن فيروز لا ينتهي فهي أيضا المطربة الشاعرة، لقد غنت لعمالقة الشعر العربي على مختلف عصورهم، مما جعلها من أبرز المطربين الأكثر حبا للشعر العربي الفصيح. فقد غنت لعنترة و أبي نواس .. جرير.. جبران خليل جبران.. ميخائيل نعيمة.. ايليا ابو ماضي.. الاخطل الصغير.. سعيد عقل.. رفيق خوري. أحمد شوقي …نزار قباني والقائمة طويلة. و هذا موضوع اخر سأتناوله من جانب فيروز الأديبة و الشاعرة…بالإضافة إلى باب آخر يتناول فيروز والطب النفسي الحديث..
هذه هي بنت حارة زقاق البلاط ببيروت المكان التي ولدت فيه أسطورة الطرب العربي السيدة فيروز…أتمنى أن أكون قد أعطيت ولو اشعاعاً بسيطاً عن هذه التحفة الفنية التي أعتقد أنها لا تتكرر .
******
(*) من سلسلتي عمالقة الطرب العربي “بتصرق”.