لا مراء في أن الحراك الثوري الذي شهدته تونس منذ ست سنوات كان أعتى أثرا في فئة الشباب، فقد أبان في البداية عن وعي حاد بضرورة الخروج من حالة الخمول والسلبية التي كان عليها، وكشف عن رغبة قوية في أن يتمثل مواطنته ويكون فاعلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في مسار التحول المنشود. غير أن تعاقب الحكومات القصيرة الأمد والمؤسسة لشرعية الفشل من جهة، واستشراء مظاهر الاستهانة بكرامة هذه الفئة والاستنكاف عن محاورتهم وإدماجهم في فعاليات الانتقال الديمقراطي من جهة أخرى كان كفيلا بإخماد تلك اليقظة وانقطاع حبل الثقة بالساسة، وتدجين تلك القوة إلى حد الانحراف بها عن مسارها النفسي السليم، فكان لجوؤهم إلى حلين، إما الهروب ضمن سياق هجرة سرية، أو انتماء متطرفا وانتحارا غير متوقع، أو ممارسة العنف تجاه المؤسسات والممتلكات العامة والآخر على اختلاف هوياته. ولعل نسبة تشاؤم الشباب ما بين سن 18 و30 سنة التي بلغت 81 بالمائة في فيفري الفارط تعد مؤشرا خطيرا على فظاعة ما آلت إليه تلك الإرادة الشبابية، وعلامة منبهة إلى ضرورة البحث في آليات مقاومة حالة البؤس النفسي واحتضار الحس المواطني.
من المفارقات التي ينتجها حب الحياة والتمسك بحق الوجود هو ما يشب في ركام الفوضى والكره والألم المحيق بالشباب من براعم أمل وقطع مع تصور شوبنهاور للتشاؤم الهدام. بل إننا ما فتئنا نرى آيات تمثّل نداء فولتير: “نحن يجب أن نزرع حديقتنا” من خلال جهود ومساعي متنوعة الفعاليات تفند وصم الشباب بالتواكل والعجز والاستهتار.
لقد كان ذلك جليا من خلال تظاهرات متلاحقة في إطار ما يطلق عليه بفن الشارع ـ مجموعة أهل الكهف، فني رغما عني .. ـ باعتبار ما يحققه هذا النشاط من إعادة إدماج هذا الشباب في الحياة الاجتماعية إدماجا لا يهدر ذواتهم، بل يفتح أمامهم فرصة التعبير عن المواقف المناوئة للسائد، ويمنحهم أدوات متنوعة تقاوم التهميش الاجتماعي ويؤسس لواجهات حوار وتشاركية اجتماعية جديدة، ويغيّر رمزية المكان العمومي أو الشارع فإذا هو عنوان الألفة والحرية بدل الاستلاب والقمع.
ولا تتوقف المبادرات الشبابية عند حدود ممارسة الأنشطة الفنية بل نشهده في النشاط الجمعياتي ذي الاهتمامات التنموية، ومنها على سبيل الذكر جمعية “Doc Time ” التي تتكون من طلبة طب يقومون بمعالجة المرضى في المناطق الداخلية الفقيرة وتقديم خدمات صحية مجانية. وإضافة إلى ذلك اتجه آخرون إلى الترويج لثقافة الحوار في الفضاءات المفتوحة مثلما هو حال المقهى الفلسفي الذي ينظم لقاءات فكرية حوارية بالحديقة العمومية بصفاقس، وهي مفتوحة أمام كل الشرائح الاجتماعية والأطياف الفكرية… وما يجمع بين هذه النماذج الشبابية هو انسلاخها عن فلسفة الجمعيات التقليدية المكتفية بتنظيم أنشطة نخبوية داخل فضاءات مغلقة وفي الغالب فخمة، وتنتهي فعاليتها بتقارير تُحفظ في سجلات محاضر الجلسات أو تُرفع لمسؤولي الأحزاب التي تنضوي إليها.
وبقدر ما تنجح هذه الحركات في الانسلاخ عن النمط تكون أنجح في تفاعلها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية وأقدر على إبراز تلك الإرادة الشبابية المانحة للتفاؤل.
حينئذ لا يمكن الحديث عن مسار واحد للتحول الذي يشهده المجتمع التونسي نحو نمط تحديثي، فنحن نشهد هذا الحراك الشبابي الذي تصنفه عواطف القطيطي كشكل من أشكال ما بعد الحداثة، إنه المخاض الذي يمكن أن يلعب فيه الشباب دورا أساسيا بالعمل على تنويع مدارات إبداعه وأدوات إزعاجه للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي، إنه المخاض الذي ينبع عن تفاؤل في أن يولد نمط مجتمعي لا يكون فيه الاختلاف سبب صراع بل مصدر قلق وحيرة بناءين، ويكون فيه الشارع فضاء عطاء ومشاركة فاعلة لا عنف وخطر.
لقد حان وقت امتلاك الشباب حديقتهم واختيار بذورها وأدوات زراعتها والخروج من حال القصور الذي يفرضه تشاؤمهم.
****
(*) موقع شبيبة