نادر سراج ينفض غبار السنين عن وجه من وجوه بيروت المشرقة:

“أفندي الغلغول” هاشم الجمّال

كلَّ يوم تحبلُ قرائحُ المفكّرين بجديد، وكلَّ يوم تقريبًا تزفُّ لنا المطابعُ خبرَ ولادات جديدة، منها ما يأتي بصمت ويعيشُ بصمت ثم يزول، ومنها ما يحضرُ بطنّةٍ ورنّةٍ وتعظيمٍ وإجلال، ولكنّه لا يلبثُ أن يضمحلَّ ويختفي… ومنها ما يولد ليبقى! يأتي مشعًّا متألّقًا، تحيط به هالةٌ نورانيّةٌ منذ ولادته، له إطلالةٌ تستدعيك، فتهديه وقتَك من دون ندم، تظنُّ أنّك تعطيه فإذا به هو المعطي الجوّاد!

يستدعينا أحيانًا اسمُ الكاتب، وتاريخُه وفكرُه، فلا نحتاجُ للكثير من المحفّزات لنهرعَ مرحّبين بجديده؛ أو نلبّي في حالات أخرى دعوةً لإطلاق كتاب، كواجبٍ اجتماعيٍّ لا مناص منه، وقد نجده غير ما نتوقّع… ولكن، نادرًا ما نقعُ على كتاب ينطقُ منذ لحظة مولده، فيجذبُنا إليه، يدعونا للاستيلاء عليه واكتشاف خباياه، واكتناهِ ما يحويه من جواهرَ ويواقيت.

سنة 2013 صدر كتاب “أفندي الغلغول” للباحث اللبناني أ. د. نادر سراج. حينها لم تصلني أصداؤه، على الرغم من أن كثيرين تحدّثوا عنه وكتبوا مقرّظين مضمونه وتوجهاته وأسلوبه السردي المأنوس… وشاءت الظروف أن ألتقيَ بالكاتب في نيسان 2017، ويدعوني الى مناقشة لكتابه هذا نظّمتها جمعيّة السبيل، في المكتبة العامة لبلدية بيروت – الباشورة، حيث يبقى، معظمَ الوقت، المكانُ المخصّصُ للكتاب على أحد الرفوف الكثيرة، خاليًا، فهو كالطفل المدلّل ينتقل من يد الى أخرى، ينعمُ باهتمام الكل وعنايتهم، ويغدقُ عليهم بالمقابل، من طيب حضوره وبهجته، الكثير اللافت، الذي يعكس الغنى والجمال والأناقة.

… فبالإضافة الى ألوانِ غلافه المشرقة، والمضامين العميقة للصور النادرة التي تملأ صفحاته، يزيدُك تحفّزًا لكشف أسرارِه، العنوانُ الغريبُ الذي أعطي له: “أفندي الغلغول”! فمَنْ هو هذا الأفندي، وما هو الغلغول؟! ولن تنتظرَ، متى تلقفتْهُ يداك مقلّبتين صفحاته، حتى تستوليَ عليه، قبل أن يسبقَك آخَر ويخطفه منك! فتكتشف أنّك أمام سيرة موثّقة بإتقان، ذاتِ إخراج فاخرٍ وراقٍ، يخبرُنا فيها الكاتب عن تاريخ عائلة بيروتيّة، بشخص صاحب السيرة “أفندي الغلغول” هاشم الجّمال (1854-1940)، وأبنائه وحفدته… مؤرّخًا من خلاله لأحداث عرفتها بيروت، وبعضُ دوَلِ الجوار. منمِّقًا الصفحات بصور بقيت شاهدة على ذلك التاريخ، نلمسُ من خلالها، بشكل لا يقبل الشكّ، واقعَ الناس في ذلك الزمن…

وليقطع شك القارئ باليقين عاد إلى فصول كتابه، فحدثني والأحرى حدث جمهوره خلال اللقاء عن شخصيّة أفندي الغلغول المُخبّر عنها؛ فحدد “بروفيله” أو جانبه الاجتماعي وظهّر حيثيته بالقول: “هو نموذج لموظَّف عثماني من أبناء الثغور ممن عانوا تبعات التغيّرات الكبرى في المنطقة خلال الحربين وما تلاهما. وعاشوا تحولات بيروت من بلدة صغيرة إلى ولاية عثمانية، ثم إلى عاصمة للبنان الكبير، فإلى مدينة عالمية، تعود للتكسّر منذ أكثر من ثلاثين عامًا على وقع الانكسار العربي الكبير.”

هو عملٌ جاد يتجاوز سيرة فرد متميز وعائلة بيروتية ممتدة وغنية بالرجال من أصحاب الهامات ومراكمي العلوم التخصصية العالية، ليطال سيرة ثغر عربي متوسطي تفتحت بواكير حداثته خلال فترة ما بين الحربين. ولهذا استغرق إنجازه خمسَ سنواتٍ بكاملها من الجهد والعناء والتوثيق والارتحال لاصطياد الصور والوثائق والشهادات والأختام وسواها، كما يشير الكاتب؛ لم يخفّف من عنائها إلا حبٌّ صادق للعمل البحثي، ولأهدافه، ولرموزه بالأخص، أكانوا أشخاصًا أم مدنًا، والاعتزازُ بالانتماء إليهم وإليها، إذ تكشف لنا الوقائع أنّ والدة المؤلّف هي حفيدة صاحب السيرة.

وبالكلام عن الصور كشواهد إثبات وتغيير، فهذا العمل، بما يتضمّنه من صور تاريخيّة نادرة، يفتح بابًا جديدًا يطلّ على عالمنا المعاصر الغارقِ في بحر من الصور، ويساعدُ في تقصّي الأصيل منها، المكتنزِ بالوقائع التاريخيّة، والجديرِ بالبقاء، في حمأةِ ما ينصبّ على رؤوسنا من صور، معظمُها يعمينا ويطغى على القيم، ويبعدُنا عن الجَوْدةِ والأصالة.

قد يتساءلُ قارئ متنبّه: ألم يمرَّ على بيروت سوى هذا الأفندي حتى نلقيَ عليه كلّ هذه الأضواء ونشغلَ الناس بسيرته؟! والجوابُ الأكيد هو أنّ بيروت غنيّة بأصحاب المقامات والقيَم، والعائلات العريقة المثقلة بالعلم والخير والوجاهة… ولكنّ السمة الفارقة لهذا الأفندي، هي أنّ الزمن كان سخيًّا معه بظهور واحد من سلالته، يحمل في “جيناته” ما امتاز به صاحب السيرة من شغف بالتوثيق والتأريخ، والمحافظة على أواصر القربى وأخبار الوطن ومحيطه.

الجواب المبين تحدّث عنه المؤلّف مرارًا خلال لقاءات وندوات ومؤتمرات عربية وعالمية، عن هذا العمل، موضحًا الهدف منه، حيث يقول: “هي دراسة حالة مصطفاة لواحدة من أسر المدينة ولعين من أعيانها ووجوهها. وقد سعيت عبرها لعرض فصول من الإنجازات والتحولات التي شهدها وعاش مفاعيلها أحد أفندية بيروت وأسرته وأهل مدينته بغية إظهار تأثيراتها في الانتقال الاجتماعي التدريجي نحو الحداثة الغربية، وما نجم عنها من تبعات ثقافية واجتماعية لافتة تركت بصماتها الايجابية في مسارات تلقف المجتمع المديني وتفاعله مع مظاهرها وأشكالها الوافدة إلى حواضر بلاد الشام لقرنٍ خلا.”

وبما أن المدينة، أناسًا ونمط حياة وموقعًا ووظائف وتربة ثقافية، كانت المحرّك الأساس لهذا العمل، يضيف الباحث سراج: “يهدف الكتاب إلى تسليط الضوء على فصول من الإنجازات والتحولات التي عرفتها بيروت في العقود الأربعة الأخيرة من القرن التاسع عشر وصولاً إلى بدايات القرن العشرين. ممّا يكشِف تأثيراتها في الانتقال الاجتماعي التدريجي نحو الحداثة، وما نجم عنه من تبعات ثقافية واجتماعية لافتة. كما يُوضح الكتاب مفهوم “المدينة”. فالمدينة، قبل أن تكون مجرّد مساحة مبنية، فهي معمورة بأناسها ومجبولة بقصص قاطنيها ومسكونة بأخبارهم وسيرهم، وعابقة بذكرياتهم العائلية. ومن هنا تروي السيرة العائلية التي ينطلق فيها الكتاب نماذجَ من تحوُّلاتِ مدينة عربية كما وعتها العائلة، وتُبيِّن كيفية تبلور بناها الإدارية، وتطوّر الأنماط السلوكية لأهلها. وهي في ذلك كله سيرة مدينة تنبض بحيوات رجالاتها وعائلاتها.”

خلفيته الأكاديمية وانشغالاته اللسانية الاجتماعية شكلت المنصات المعرفية والقنوات الإجرائية التي مكّنته من بلوغ جملة أهدافه. ومتى سئل عن كيفيّة العمل على هذا الكتاب والغاية المرجوّة منه، يقول شارحًا: “هذه القضايا التي أقاربها من وجهتي النظر الانتروبولوجية والتاريخية الاجتماعية، بأدوات المعرفة اللسانية، من شأن التفكّر والتبصّر فيها إضاءة الدرب أمامي، وأمام الباحثين والقرّاء المهتمين، لاستجلاء معالم معتّمات تراثية وثقافية رأينا أن إخراجها من سبات التاريخ المنقضي يُسهم في فهم أفضل للتحولات التي شهدتها منطقتنا، ويمكّننا من الاطلاع عن كثب على حقيقة الواقع المعاش في الحيز الحضري المعني بالدرس.”

وبما أن تاريخنا الشفوي المتناقل عبر الأجيال ووثائقنا الشخصية المتراكمة في خزائن الذاكرة العائلية ليست ملكًا لأهلها فقط، ولا هي من سقط المتاع البحثي والتأليفي، جاء سراج ومؤلفه ليذكّرا المجتمع  بإنّ سيرة أفندي الغلغول إن دلّت على شيء، فعلى الرغبة في إحياء تراث عريق؛ ليس بقصد المفاخرة به فحسب، وإنّما بقصد الإشارة الى مكامن الخير والأصالة لدى عائلاتنا، وكيفيّة الاقتداء بها بالاهتمام بأواصر القربى والتضامن الأُسريّ، والعناية بالتفاصيل الدقيقة، بحيث نحفّز أبناءنا على المحافظة على ما ورثوه، أكان من حبّ للعلم أم من سعي لنبش الآثار القيّمة لدى عائلاتنا، وصَوْن ما تبقّى منها ليكون ذخيرة لمستقبل الأجيال، ننمّيها على الإلفة والتضامن وحبّ الوطن وعمل الخير.

لا يمكن للقارئ أن يغفلَ المنحى الدراسيّ الذي سار فيه الكاتب، أكان في تحليله للصور أو ربطِه للأحداث التاريخيّة، متوقّفًا عند الكثير من تفاصيلها كما عايشها الناسُ في حينها. فنشعر أننا خلال مطالعتنا، ندخلُ أسواقَ بيروتَ القديمة ودكاكينَها، ونسيرُ في التظاهرات، ونهتمّ باللّاجئين الهاربين من المذابح… أو نسافر مع المسافرين برّا أو بحرًا، ونجول مع شباب الجامعات نقطف مباهج الحياة برصانة وانفتاح وإلفة…

صورٌ عديدة، تحملنا كلّ واحدة منها الى عالم مختلف، في الصحراء وفي المحيط، في الجبل وفي السهل، داخل لبنان وخارجه عبر مدن العالم، مع ما تحمله إلينا من تقاليدها وموضتها التي نلمحُ آثارَها في أزياء شبابنا وشاباتنا وعلى وجوههم، من دون ابتذال أو إسفاف…

لقد حفظَ لنا “أفندي الغلغول” بعناية فائقة، تاريخًا، لنتعلّم منه كيف نستعيد موروثاتنا العائلية والشعبية والقيمية وتلك المكانية، بعين الباحث النقدي الكاشف عن مخبئات التاريخ ومعمّيات الجغرافيا، لنعيد تحديد هوياتنا المواطنية، ونطور وعينا بذواتنا وبالعالم من حولنا. فهل نجد في زمننا من يترك إرثا مماثلا للأجيال القادمة؟! لعلّ هذا العمل، الذي كرّس له نادر سراج سنوات من البحث والتحليل والتوثيق وجمع الجزئيات والمتفرّقات في كل سردي روائي ومعرفي متكامل، هو خير جواب على هذا السؤال المنطقي.

اترك رد