ترك المؤرخ البارز زبير بلال اسماعيل (1938-1998) أرشيفا بالغ الثراء من المؤلفات والدراسات التأريخية القيمة، التي تنتظر التحقيق والنشر، وقد كتب مؤرخنا الجليل هذا المقاال لمناسبة مرور (400) عام على تأليف أهم مصدر عن تأريخ الكرد وكردستان على الأطلاق وهو كتاب (الشرفنامة). وكان ضمن أرشيفه العلمي، وليس لنا من جهد في هذا الصدد، سوى طباعة المقال ونشره، ونأمل بأن نكون قد وفينا جزءاً يسيراً من فضل استاذنا ومؤرخنا الجليل، الذي عمل بنكران ذات قل نظيره لخدمة التأريخ الكردي، ملتزما بالحياد العلمي والموضوعية في مؤلفاته القيمة. تحية وفاء وعرفان بالجميل إلى روحه الطاهرة …
جودت هوشيار
المكتبة التاريخية الكردية متواضعة بصورة عامة، لان معظم تاريخ الكرد لم يدون. وينطبق ذلك على تاريخ الكرد القديم والوسيط والحديث. فالتأريخ القديم يعتمد في الأساس على المكتشفات الأثرية والمادية وعلى ما كتبه الكتاب اليونان والرومان حول العصور القديمة المتأخرة، ولم يؤلف لذلك العصر، بالنسبة إلى الكرد، سوى كتب قليلة وما ورد في تضاعيف وثنايا مدونات الرحالة والأثريين.
أما بالنسبة إلى التاريخ الوسيط الذي يلعب فيه الإسلام أبرز دور في تأريخ كردستان، بل والعالم، فقد ورد ذكر الكرد وأحداث متصلة بهم في المؤلفات العربية في التأريخ وفي كتب الرحلات والبلدانيين المسلمين، وهنا لا نجد ايضاً “كتاباً قائماً بذاته منفرداً” في الموضوع .
ومع بداية العصر الحديث نرى عناية متزايدة بالكرد وبلادهم، فظهرت مؤلفات خاصة في تأريخهم وأهمها كتاب (الشرفنامه) لمؤلفه شرف خان البدليسي المتوفى سنة 1603م، وهو باللغة الفارسية، وقد ظهر بعد حوالى 600 عام بعد (الشاهنامه) أي أنه كتب بين عامى (1597– 1599م)، وقد أتم شرف خان الجزء الاول من كتابه في سنة 1005هـ / 1597م .
ويبحث كتاب الشرفنامه في تاريخ الدول والإمارات الكردية في العصور الوسطى والحديثة إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وفيه تراجم لملوك وسلاطين وأمراء وحكام من المستقلين والتابعين، ويعتبر أهم مصدر في تأريخ الكرد في تلك العصور المشار اليها. وقد استفاد منه المؤرخون الذين جاؤوا بعد شرف خان مثل كاتب شلبي، واوليا شلبي . والأخير رحالة تركي شهير ألف كتاب (سياحتنامه) في سنة 1065 هـ وفيه قسم خاص بالكرد ترجمه إلى الكردية الاستاذ سعيد ناكام.
نال كتاب الشرفنامه اهتمام الباحثين والقراء من الاجانب والكرد، على حد سواء، وكذلك اهتمام المعنيين بتاريخ الشرق، وفي الكتاب معلومات مهمة عن البلدان والقبائل واللهجات الكردية والدور المهم الذي لعبه الكرد في تأريخ الشرق الاوسط .
والشرفنامه اسم الكتاب منسوب إلى شرف خان بن شمس الدين البدليسي ( 1542 – 1603 م ) المعروف بالامير شرف حاكم أمارة بدليس الكردية، وبدليس اسم مدينة ومنطقة كبيرة تقع في غرب بحيرة (وان) وتتبعها مدن: مرش وكنج سعرت. وكانت (بدليس ) مركزاً لإمارة توالى على حكمها أمراء أسرة شرف خان، فكان مؤلف الكتاب هو الأمير الخامس المعروف بهذا الاسم من الأسرة الحاكمة، وكان من الأمراء النابهين المصلحين، أولى عناية خاصة بالعمران والمعرفة، وقد نشر كتاب الشرفنامه من بعده مرات عديدة وترجم إلى لغات كثيرة .
ترجم (الشرفنامه) الى اللغة الكردية الملا محمود بايزيدي في حوالي سنة 1858م، والذى أراد أن يقلد شرف خان ويسلك طريقه فبدأ فيما توقف عنده شرف خان، فوضع في سنة 1274هـ / 1857م كتابه (تاريخ كردستان الجديد) المكون من ألف صفحة تقريباً، ويمكن اعتبار هذين الكتابين بداية طيبة للمدرسة التأريخية الكردية. وبعد أقل من قرن جاء محمد أمين زكي فوضع كتاباً شاملاً في تأريخ الكرد وكردستان واعتمد فيه على المصادر الإسلامية المختلفة وعلى أحدث ما توصلت إليه دراسات المستشرقين حول الكرد وبلادهم .
لقد لقي كتاب (الشرفنامه) عناية خاصة من لدن المؤرخين والمستشرقين في أوروبا عامة وفي روسيا خاصة من لدن القسم الكردي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم في لينينغراد، حيث بدأت (يفغينيا فاسيليفا) بترجمة الشرفنامه الى اللغة الروسية واتمت الجزء الأول منه وصدر في سنة 1967 وانهمكت بعد ذلك في ترجمة الجزء الثاني .
وقد ذكر الدكتور كمال مظهر أن الكاتبة المذكورة استعرضت تاريخ اهتمام الباحثين بالكتاب، فأشارت إلى أن أول من ذكر شرفنامه هو (هيربيلو) في سنة 1776م في كتابه (المكتبة الشرقية) أو القاموس العام، بالفرنسية . وكان هذا قد عرف الكتاب عن طريق احدى كتابات السائح التركي الشهير في القرن السابع عشر كاتب شلبي ومن بعده كان (جون مالكولم 1769 – 1833 م) الدبلوماسي البريطاني الذي عمل في الهند وإيران، وهو أول أوروبي تمكن من الحصول على نسخة مخطوطة من الشرفنامه مع مخطوطات أخرى خلال إقامته في إيران .
وبعد عشرين سنة نقل المؤرخ الفرنسي (كاترمير) كثيراً من المعلومات من الشرفنامه الى كتابه المعنون ( تأريخ مغول إيران ) الذي ألفه في سنة 1836م . وكان ( خ. د. فرين ) أول روسي ذكر في سنة 1826م في إحدى جرائد بطرسبرغ بأن الشرفنامه مصدر تأريخي هام . وبعد ثلاث سنوات دعا إلى ترجمته الى إحدى اللغات الاوروبية . ويرى ( قناتي كوردو ) الباحث الكردي المعروف في كتابه ( كوردناسي ) الذي الفه عن الشرفنامه والمخطوطات القديمة المحفوظة في خزائن لينينغراد (بطرسبورغ حالياً ) وصدر عام 1972م في لينينغراد (ص 386 – 387) بأن: ( م فولكوت) هو اول من رأى و وصف هذه المخطوطات في عشرينات القرن التاسع عشر في عدة صفحات وان ( خ. د. فرين ) أول شخص في حوالى هذه الفترة تحدث أيضاً عن أهمية نشر وترجمة (الشرفنامه) .
واستطاع المستشرق الروسي (زيرنوف) عضو الأكاديمية الروسية في (بطرسبورغ ) أن يصدر الجزء الاول من الشرفنامه في سنة 1860 بلغته الفارسية ، وقدم لهذا الجزء بمقدمة ضافية باللغة الفرنسية، ثم أصدر الجزء الثاني الذي قدمه أيضاً بمقدمة فرنسية في سنة 1862 م. ويقع جزءا الكتاب المطبوع في حوالي الف صفحة .
ونسخ الشرفنامه المخطوطة تبلغ (22) نسخة موزعة في مكتبات العالم المعروفة، وحسب المعلومات التي جمعتها (فاسيليفا): ان أقدم وأهم واكمل نسخة مخطوطة منه هي تلك النسخة التي دونها شرف خان بخط يده تحت اسم (شرفنامي تاريخي كوردستان)، وهي محفوظة في مكتبة (بودليان) في اكسفورد وتقع في (246) صفحة، واكملها مؤلفها سنة 1005هـ 13 آب 1597م. وأكمل الجزء الثاني من الكتاب في مايس 1599م . والنسخة الأخرى المهمة من الكتاب هي النسخة المخطوطة المحفوظة في المكتبة العامة في لينينغراد ويرجع تأريخها إلى سنة 1598م حيث إطلع المؤلف بنفسه عليها ووضع عليها ختمه .
وهذه النسخة غنمها الجيش الروسي سنة ( 1826 – 1828م ) في حربه مع الفرس حيث نقل من أردبيل من مكتبة الصفويين الى بطرسبورغ وكانت الشرفنامه إحدى مخطوطات هذه المكتبة .
ترجمات الشرفنامة
إن اقدم ترجمة للشرفنامه كانت إلى اللغة التركية، حيث ترجمت مرة مختصرة واخرى بصورة كاملة . والترجمة الاولى قام بها (محمد بك بن احمد بك ميرزا) في سنة 1078هـ 1667 – 1668م، والثانية قام بها سامي في ثمانينات القرن السابع عشر .
وبعد حوالى (200) سنة ترجم الملا محمود البايزيدى الجزء الاول من الكتاب الى اللغة الكردية وذلك في سنة 1858 – 1859م بتشجيع من المستشرق المختص بالدراسات الكردية (الكسندر ذابا) الذي تمكن، عن طريق البايزيدي، من الحصول على كثير من المخطوطات الكردية المحفوظة الآن في المكتبة العامة بلينينغراد .
وفي هذا الوقت تقريباً ترجم الكتاب في فيينا (النمسا) إلى اللغة الألمانية من قبل (ك. آ. بارب) ونشر بصورة متسلسلة في سنوات 1853 – 1859 م، ثم جاء البروفيسور (ف. ب. شارموا) وترجم الكتاب بكامله الى الفرنسية بين سنة ( 1868 – 1875 م ). وقد بذل جهداً كبيراً وكان يعتبر من اكبر المختصين في الدراسات الإيرانية في أوروبا في عهده، وقد اعتمد على نسخة (زيرنوف) الفارسية بالدرجة الاولى وعلى نسخ خطية أخرى من الكتاب، وأصدر الكتاب في أربعة أجزاء .
وقد حصل العالم الاذربيجاني (د. محمد شمسي) على درجة الدكتوراه برسالته المعنونة (شرفنامه شرف خان البدليسي كمصدر لتاريخ الشعب الكردي) وكتبها باللغة الاذرية ثم نشر سلسلة مقالات حول الكتاب أي الشرفنامه ومؤلفه .
أما في الوطن العربي فقد طبع الشرفنامه في مصر في سنة 1930م من قبل الناشر الكردي فرج الله زكي باللغة الفارسية. وقد اعتمد الناشر على ثلاث نسخ هي : (النسخة الروسية التي نشرها زيرنوف) و(نسخة ثريا بدرخان باشا) و(نسخة المدرسة العثمانية في حلب)، ووضع الاستاذ الراحل محمد علي عوني حواشي الكتاب المطبوع .
ترجم الكتاب الى اللغة العربية لأول مرة الاستاذ (ملا جميل روزبياني) ونشره في بغداد في سنة 1953 م بمساعدة المجمع العلمي العراقي، وهذه الطبعة المترجمة غنية بحواشيها وتعليقاتها التي أضافها المترجم للكتاب . ثم قام المرحوم محمد علي عوني بترجمة الشرفنامه الى العربية أيضاً في مجلدين نشرا بعد وفاته من قبل وزارة التربية والتعليم في مصر، باعتناء الاستاذ الراحل الدكتور يحيى الخشاب الذي قدم للكتاب بمقدمة مهمة في حوالي (50) صفحة استعرض فيها تأريخ الكرد حتى العصر الحديث. وصدر الجزء الاول منه في سنة 1958م .
وأخيراً قام المرحوم (عبدالرحمن موكرياني – هزار) بترجمة الكتاب من الفارسية الى اللغة الكردية، وصاغه بلغة كردية جميلة بمضامينه النثرية والشعرية وطبعه المجمع العلمي الكردي على حسابه في سنة 1972 م. ويقع هذا الكتاب المطبوع في ( (840) صفحة فضلاً عن ( 176 ) صفحة هي مقدمات الكتاب، وتتضمن كلمات تقريظ ومقدمة الطبعة الروسية ومقدمة الطبعة المصرية الفارسية لمحمد علي عوني، ومقدمة الطبعة المصرية العربية ليحيى الخشاب، ومقدمة المترجم وتراجم لبعض المؤرخين الكرد الذين خدموا التاريخ والأدب الكردي، والحواشي الكثيرة وشجرات الانساب لعدد من الأسر الكردية الحاكمة .
هذا هو كتاب الشرفنامه : المصدر التاريخي الهام القديم والجديد الجامع ، لم يؤلف في موضوعه ما يماثله في غزارة المعلومات وشمولية البحث الى يومنا هذا . فكان لشرفخان الريادة في كتابة تأريخ الكرد.