في كتاب ضخم تتجاوز صفحاته 800 بعنوان “تونس : الدولة الغنائمية في زمن الفساد العولمي”، يقدم الكاتب التونسي توفيق المديني دراسة عن الفساد على مختلف المستويات العالمية والعربية والتونسية.
وفي قسم أول من الكتاب يدرس الفساد في زمن العولمة الليبرالية المتوحشة، فيشرح مفاهيم الفساد وآلياته الأساسية وأسبابه، وأنواع الفساد وتأثيراتها في مختلف الصعد، وأثر الفساد العولمي على البلدان النامية. وفي قسم ثان، يعرض لنشوء الفساد وتغلغله في أجهزة الدولة التونسية، فيركز على عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، مبرزاً الفساد المالي والإداري في الصفقات العمومية وقطاعات النفط والغاز الطبيعي والمضارب والتهرب الضريبي والإعلام، مشدداً على استخدام النفوذ والسلطة في استشراء الفساد الذي لم يتوقف في مرحلة الانتقال الديموقراطي، ما جعل الكاتب يطرح استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في تونس. (صدر الكتاب عن «المركز الدولي للتدريب والاستشارات والدراسات الاستراتيجية وأبحاث الاتصال والتعايش السلمي» في تونس هذه السنة).
يحمّل الكاتب العولمة مسؤولية أساسية في انتشار الفساد في العالم. فحركة الأسواق الحرة والأموال الأجنبية وانعدام الرقابة، صاحبها انحلال في القيم والأخلاق وسلوكيات، لا هدف لها سوى الوصول إلى المادة ونشر الرفاهية. هذه القيم المتصلة بالرفاهية عززت ظاهرة انتشار الفساد عالمياً، خصوصاً في ما يعرف بالبلدان السائرة نحو النمو، التي لم تأخذ من العولمة سوى شكلياتها وسلبياتها.
والعولمة المتصاعدة والمخترقة كل المجتمعات من دون استئذان، مسؤولة أيضاً عن انتشار الجريمة المنظمة، وتفشّي الفساد الإداري، وعن جرائم المخدرات والعنف والإرهاب. كما هي مسؤولة عن تقلص موقع الدولة القومية بما يمس سيادتها، وتتسبب بأزمة المديونية، وارتفاع معدلات الهجرة وزيادة الفقر وارتفاع معدلاته، وزيادة حدة الاصطفاف الطبقي لجهة قلة من الأغنياء وأكثرية ساحقة من الفقراء.
وإذا كان الكاتب يحمّل العولمة مسؤوليات كل هذه «الموبقات»، فإن النظر عملياً إلى هذه الظاهرة يجب ألا يهمل كون العولمة ليست مؤامرة رأسمالية عالمية ولا هي مؤامرة أمبريالية، فالعولمة هي مرحلة من التقدم والتطور في ظل عصر الثورة التكنولوجية والعلمية على مختلف الصعد. وكل تطور علمي أو تكنولوجي يحمل في جوفه إيجابيات كبيرة، كما يحوي سلبيات. التحدي هو أمام المجتمعات في كيفية الإفادة من منتجات العولمة وتجنب سلبياتها.
يضع الكاتب يده على قضية أساسية في معالجة الفساد، ألا وهي العلاقة العضوية بين الفساد وبين الأنظمة الديكتاتورية التسلطية الاستبدادية. وتتجلى هذه العلاقة في الدول النامية أكثر منها في الدول الرأسمالية الغربية.
في هذه الأنظمة الديكتاتورية، تتسلط الطبقة الحاكمة على ثروات المجتمع، وتوظفها في خدمة تركيز سلطتها، سواء عبر تمكين فئات محددة من ممارسة النهب أو عبر الرشاوى التي تقدمها هذه الطبقة الحاكمة إلى قوى معينة تراها مفيدة في تأمين مصالحها.
وفي المرحلة الراهنة من حال المجتمعات النامية، يبدو حجم الفساد ونهب الثروات مرعباً، لا يقتصر على القوى المحلية المتحكمة في السلطة والثروة، بل دخلت عليها القوى الأجنبية، سواء أكانت استعمارية أو غير استعمارية. وقد أفادت هذه القوى من العلاقات مع الفئات الحاكمة لاستجلاب ثروات البلاد اليها، حتى ولو أدى الأمر أحياناً إلى تنظيم انقلابات تطيح هذه الفئة أو تلك.
لا يعني ذلك أن الفساد محصور بهذه الدول النامية، فالدول المتقدمة والمتطورة اقتصاديا في العالم الرأسمالي ينتشر فيها الفساد في ميادين متعددة. لكن المفارقة أن هذه الدول تحكمها قوانين ومؤسسات وتتوافر فيها هيئات رقابية قادرة على تعقب مواطن الفساد ومرتكبيه.
موقع مركزي
يحتل العالم العربي موقعا مركزيا في حجم الفساد المستشري في مجتمعاته، وهو فساد لم يعد يقتصر على الطبقات الحاكمة، المدنية منها والعسكرية والإدارية، بل طال في السنوات الأخيرة قاع المجتمع وأبناءه العاديين، إذ يلجأ هؤلاء الى الرشوة سعيا لتسيير شؤون أعمالهم، ما جعل الفساد سمة عامة على الموظفين الكبار والصغار على السواء. ويعطي الكاتب أهمية لطبيعة النظم الاقتصادية التي نشأت في الدول العربية، ولسياسة الانفتاح التي قامت خصوصاً منذ السبعينات من القرن الماضي، والشراكة التي نشأت مع الشركات التجارية العالمية والعابرة للقارات. وهي سياسة أدت إلى شيوع الرشاوى وإنتاجها في الوقت ذاته.
يقول الكاتب في هذا الصدد: «حصل تداخل كبير بين الدول العربية والشركات المتعددة الجنسية عبر مؤسسات شبه دولوية، ومن خلال الوزارات. وأصبحت الشركات المتعددة الجنسية تستخدم القنوات الكثيفة غير الرسمية المؤدية إلى جهاز الدولة، بواسطة الرشاوى ومنح الوكالات، لتؤثر على القرارات والامتيازات السياسية والاقتصادية».
لكن العامل الأساس في انتشار الفساد عربياً يعود إلى طبيعة السلطة القائمة، غير المستندة إلى شرعية شعبية، وتسود فيها الديكتاتورية والاستبداد في شكل يشكل الحاضنة التي تفرّخ الفساد وتنشره. في شكل أكثر توضيحاً، نجم عن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي قادتها النخب السياسية والعسكرية ظهور طبقة هيمنت على القطاع العام، ودخلت في تحالف مع القطاع الخاص من أجل تحقيق أرباح غير مشروعة. وفي غياب مؤسسات رقابية فاعلة، وبالطرق غير المشروعة، راكمت هذ النخب من الثروات الكثير، عبر نهب القطاع العام ومعه مواطن الإنتاج الأساسية.
في تونس
بعد هذه السياحة العالمية والعربية حول الفساد، يخصص الكاتب حيزاً أساسياً للفساد في تونس، فيراه، على غرار ما هو سائد في العالم العربي، مرتبطاً في شكل عضوي بظهور الدولة البوليسية في زمن عهد زين العابدين بن علي. فقد مارست الفئة الحاكمة احتكاراً لمصادر الثروة، وأفادت من حكم الدولة البوليسية في الهيمنة على النشاط الاقتصادي، وشجعت الزبائنية والمحسوبيات. كل ذلك يحصل وسط غياب أي شكل من أشكال المراقبة والمحاسبة.
ويشير الكاتب في هذا الصدد إلى أن «الفساد في ظل الدولة البوليسية التونسية ازدادت حدته عندما لجأ أصحاب المناصب الرفيعة والعليا في النظام البوليسي إلى استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب مادية. وهؤلاء تحولوا مع مرور الوقت إلى رجال أعمال أو شركاء تجاريين إلى جانب وظائفهم الحكومية، يصرفون جل اهتمامهم إلى البحث عن طرق وأساليب تمكنهم من زيادة حجم ثرواتهم على حساب الاهتمام ببرامج التنمية وتحقيق الرفاه والرضا لمواطني بلدانهم».
لعل الثورة التي اندلعت في تونس عام 2011 هي إحدى نتائج الفساد بمستوياته المختلفة. وكان العنوان المركزي لهذه الثورة المناداة بتطهير مؤسسات الدولة من الفساد، ودعوة في الوقت ذاته إلى الحريات السياسية التي يشكل وجودها عنصراً أساسياً في كشف الفساد والتصدي له وإخضاعه للمراقبة السياسية والشعبية.
يبقى السؤال المؤرق: هل يمكن مكافحة الفساد في العالم العربي وفي تونس منه؟ ليس السؤال تقنياً، بل هو مشروط بجملة عناصر ليس أقلها أن محاربة الفساد ترتبط بمدى وجود أنظمة ديموقراطية وسلطة منبثقة من الإرادة الشعبية، بما يعني قيام دولة القانون والمؤسسات واستقلال القضاء. كما أن مكافحة الفساد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسات اقتصادية واجتماعية تضمن تحسين مستوى المعيشة للمواطن وتسعى إلى تحقيق الرفاهية للشعوب العربية. كما تتطلب مكافحة الفساد توفر القوى الاجتماعية والسياسية التي يمكنها أن تقود معركة الرقابة والمحاسبة. يطرح في هذا المجال مدى توافر مؤسسات للمجتمع المدني التي يمكنها أن تلعب دوراً رقابياً.
يبقى أخيراً القول، إن مكافحة الفساد في العالم العربي تبدو وثيقة الصلة باستنهاض عام ومراجعة لكل السياسات السابقة في كل قطر، وهو أمر تحاول بعض المجتمعات أن تدخله، ولكن بصعوبة بالنظر إلى تكلّس العناصر المعيقة وتكالبها في الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها… تسعى تونس إلى دخول هذا النفق، أحياناً تنجح قواها وغالباً ما تفشل.