الاستنتاج العام : تقويم عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز
نظراً إلى أهمية موضوع كتاب “السعودية في عهد الملك عبدالله بن عبد العزيز” (دار الفرات) الصادر حديثاً لمؤلفه د. عبد الرؤوف سنو، ينشر موقع THAQAFIAT الاستنتاج العام للكتاب بناء على موافقته.
في حياة الشعوب قادة، يحكمون ويرحلون بهدوء، ومن دون ضجيج. وهناك قادة، يغادرون، لكن يبقون في وجدان شعوبهم لما حقّقوه لهم من أعمال وإنجازات. الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز رجل من الطراز الأخير من الحكّام. فهو الذي طبع مسيرة شعبه بالكثير من التقدّم في مجالات الإدارة والسياسة والاقتصاد والتعليم والإسكان والصحّة، فأضحت المملكة، اليوم، في عداد الدول التي تعمل على توطيد برامج التنمية المستدامة من أجل رخاء شعبها.
كقائد نهضوي، أراد الإصلاح من داخل المؤسَّسة السعودية الحاكمة، والقيام بالتحديث، من دون إحداث شرخ في التقاليد والأعراف لمجتمع، جعل الإسلام نهج حياته. فكان بذلك يُرضي، من ناحية، دعاة الإصلاح الذين امتدحوا خطواته الإصلاحية؛ لكن رأوها بطيئة، وطالبوه بالمزيد منها في مجال السياسة، وبالتالي الانتقال إلى حكومة تمثيلية على النمط الغربي، ويُرضي، من ناحية أخرى، قوى محافظة ورجال دين متشدّدين يؤدّون دورًا محوريًّا في صياغة الخطاب الثقافي – السياسي للحاكمين والمحكومين، ويضعون، بالتالي، العراقيل أمام إصلاحات اجتماعية – سياسية يفسّرونها على أنّها تتناقض مع الشريعة، أو تنتقص من امتيازاتهم، أو تنسف سيرة «السلف الصالح» والتقاليد المجتمعية والأعراف.
صحيح أنَّ سلطات الملك عبدالله كانت مطلقة ونافذة، كأيّ عاهل سعودي آخر، لكن عشر سنوات من حكمه الرسمي، وقبلها عشر سنوات أخرى من حكمه الفعلي، خلال مرض شقيقه الملك فهد، ليست كافية لتحقيق التغيير المنشود في مجتمع قبلي، تربّى على السلفية. فهو أراد الإصلاح وليس إعلان «ثورة» إصلاحية أو القيام بتحديث مجتمعي شامل دفعة واحدة، والتسبّب، تاليًا، بالإضرار بمركز الأُسرة السعودية ومصالحها، وإحداث شرخ في التقاليد والأعراف المجتمعية. وكان يرى أنَّ الحلَّ الأفضل يكمن في التنمية المستدامة، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للناس، قبلَ أنْ يقعوا فريسة الإرهاب، أو أنْ يتأثّروا بربيع عربي، بدأ ينخر الأنظمة والمجتمعات العربية المجاورة.
وكان الملك يدرك أنَّ توزيع «الثروة» الوطنية، بشكلٍ غير عادل، يُستغل من قبل الجماعات المتطرّفة لمحاربة النظام، واتهام أركانه بالاستيلاء على مقدّرات البلاد، من دون وجه حقّ. لذا، قرّر إعادة توزيع تلك «الثروة»، على طريقته الخاصّة، عبر التقديمات التعليمية والاجتماعية والخدماتية والاقتصادية، وساعده في ذلك، ارتفاع أسعار النفط وعائداته، خلال سنوات حكمه. لكن يده لم تستطع، مع ذلك، أنْ تلمس الهرمية الاجتماعية القاسية، ولا المجتمع الغارق في السلفية والتقاليد والأعراف، ويعيش بعضه حالة قرن أوسطية، لا جسر يربط بينه وبين الحداثة، في ظلِّ وجود رجال دين وأفراد من الأُسرة الحاكمة، يتمسّكون بـ «القديم»، خشية أنْ تطيح الإصلاحات الاجتماعية والسياسية بنفوذهم وامتيازاتهم.
في المقابل، لم تكبر مجموعة الإصلاح حول الملك عبدالله، ولم تتحوّل إلى بيئة حاضنة أو قوّة تغييرية، بسبب تكتّل كلِّ الجماعات المحافظة ضدَّ التغيير، إلَّا بما يخدم التشدّد، حتى الإصلاحات «المعتدلة» منها، وجدت من يتصدّى لها. فكان مجال المناورة محدودًا بالنسبة إليه، وفق دبلوماسيين غربيين، نظرًا إلى الضغوط الداخلية والخارجية عليه، وإلى سنّه المتقدّمة. وقد نقل صحافي لبناني عن مصدر أمريكي رأيه، في أنَّ الملك عبدالله بن عبدالعزيز قائد متنوّر، يريد التقدّم لبلاده، وغياب الوحدة الكاملة في العائلة الحاكمة قد تكون من أسباب إعاقة مشروعه الإصلاحي. وفي رأيه، فإنَّ الملك طبّق ما يستطيع تطبيقه من إصلاحات، وأجّل ما يرفضه منها إخوانه في الأُسرة الحاكمة. إلَّا أنَّه كان الوحيد القادر على الإصلاح برؤية واسعة وشاملة، بحيث لا تستطيع العائلة الجهر بالخلاف معه، لأنَّها ستخسر كلّها، في النهاية، إذا تحوّل الخلاف في داخلها علنيًا وحاسمًا (نعوم، مشرف سيمشي).
وقد رأينا أنَّ الملك قد اتجه نحو الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي تمسّ حياة المواطن مباشرة؛ كالفقر والبطالة والصحّة والسكن والتعليم والاقتصاد. أمَّا الإصلاحات التي تمسّ أعراف المجتمع وتقاليده التي توارثها، ورسّخها فيه رجال دين متشدّدون، على مدى عقود طويلة، وفي مقدّمها «تنظيف» الثقافة المجتمعية ممّا علق بها من رواسب القرون الماضية، من تحجّر وأفكار الكراهية ضدَّ «الآخر» التي لم تعد تتماشى مع عصر العولمة، كما حقوق المرأة ومساواتها الكاملة بالرجل، فحاول أنْ يخرق تلك «المحرّمات» بتأنٍ وحكمة، من دون أنْ يتسبّب بكسر مجتمعي حادّ، أو بخلاف داخل الأُسرة المالكة. حتى إنّه أحجم عن سنّ قوانين، لا تتعارض مع الشريعة، بسبب رفض رجال الدين التشريع، باعتبار أنَّ القرآن هو دستور البلاد (كشيشيان 366).
صحيح أنَّ العلماء، كبارًا وصغارًا، انتموا إلى «المؤسّسة الدينية» ذات الموقع الرائد والمؤثّر في القرارين الاجتماعي والسياسي، إلَّا أنَّ معظمهم شكّلوا، مع ذلك، شريحة مثّلت «القديم»، وكلَّ ما هو عدوّ للحداثة في المجتمع، وعملوا، ضمن سياسة اجتماعية قاسية، شملت الأب والأخ والزوج والابن، ضدَّ تمكين المرأة السعودية. ومع ذلك، اضطر الملك عبدالله للاستعانة بعلماء من المؤسّسة نفسها في عملية الإصلاح. لكن «فاقد الشيء لا يعطيه». فبسبب فكرهم المتحجّر، ما كان في استطاعة معظمهم إنتاج إصلاح، يغيّر الأوضاع في المملكة إلى الأحسن، حتى ضمن رؤية الملك عبدالله، والدليل على ذلك فتاويهم وخطبهم من على المنابر. حتى الشيخ الشثري الذي عيّنه العاهل السعودي في «هيئة كبار العلماء»، وكان من المقرّبين منه، ما لبث أنَّ أفتى بتحريم الاختلاط في «جامعة كاوست» المحبّبة على قلب الملك عبدالله. لذا، فإنَّ استبدال الملك بعضًا من «هيئة كبار العلماء» بآخرين من الهيئة نفسها، الذين قد لا يختلفون كثيرًا عن «المُقالين» والمستبعدين، لم يغيّر في واقع الأمور، وذلك بسبب «المدرسة» السلفية التي «تخرّجوا» منها، جميعًا، وتوارثوا أفكارها وتقاليدها وأعرافها.
لقد امتلك العلماء السعوديون «أسلحة فتّاكة» لم تتوافر للملك عبدالله ولملوك السعودية السابقين، وهي:
1) الإرث الفقهي الاجتماعي الذي يمنع الاجتهاد والتفسير العقلاني، ويقبض على كلِّ شرايين الحياة بالنسبة إلى المجتمع، والمرأة تحديدًا، وإعطاء نفسه الحقً في الحُكم على الإيمان أو عدمه، والتدخل في سياسة السلطة الحاكمة، أو سبغ الشرعية الدينية على ممارساتها.
2) فتاوى رجال الدين التي تحلّل وتحرّم وتكفّر هذا وذاك، من دون رقيب ولا حسيب، وتؤدّي في نهاية الأمر إلى استئصال المخالفين لهم، مذهبيًّا أو سياسيًّا، لأغراض شخصية أو لكسب ودّ النظام الحاكم.
3) «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي لم يتمكّن الملك من تقليم أظافرها، بشكلٍ يوقف الضغط، ليس على المرأة فحسب، بل على المجتمع السعودي. فظلّت تشكًل طوقًا قاسيًا حول رقبة المجتمع، من دون أن تتناغم مع تغيّر ظروف العصر (عبدالعزيز الدخيل، 46).
4) مناهج التعليم المعجونة بالسلفية ورفض «الآخر»، سواء في الداخل أو في الخارج، حتى وإنْ طرأ تعديل عليها بضغوط الأمريكيين وجهود الملك عبدالله.
5) الخطب النارية التي كانت تلقى من على المنابر، وتعمل على تدمير عقول الشباب، بتحويل المساجد إلى بؤر للأفكار المضلِّلة والتحريض ضدَّ «الآخر».
وبهذه «الأسلحة»، تمكّن علماء الدين من تحقيق هدفين: تحويل مؤسّستهم، من جهة، إلى «طبقة» ذات سلطات موازية لسلطة الدولة، تقوم علاقتها بها على أساس تبادل المصالح والمنافع، والتحكّم بمسار المجتمع من جهة ثانية، وبالتالي تعزيز الممانعة المجتمعية ضدَّ كلِّ تغيير وتحديث، والحفاظ على القيم والثقافة جامدة، لا تتماشى وفق مقتضيات العصر (خالد غزال، المؤسّسات الدينية)، فضلًا عن إضعاف الإرادة السياسية للحاكم إنْ شاء التغيير.
لقد تأذّت المرأة السعودية من فتاوى رجال يدين و«هيئة كبار العلماء» وإجراءاتها، ومن مواقف بعض أفراد العائلة الحاكمة؛ كوزير الداخلية/ولي العهد الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز من مسألة تمكينها. وقد تناولنا، في الفصلين الرابع والخامس، المواقف الشاجبة لدخولها إلى «مجلس الشورى»، أو السماح لها بالتصويت والترشّح للانتخابات البلدية، وهي من أبرز الموضوعات الخلافية في المجتمع السعودي. وقد شكّلت هذه المواقف، السلبية، تحدّيًا لسياسة الملك عبدالله الإصلاحية، وللحركة المطالبة بمزيد من التمثيل الشعبي لها.
كان الأمير نايف يفضّل أنْ يقتصر «مجلس الشورى» على الرجال، والتعيين على الانتخاب، معتبرًا أنَّ ذلك يؤدّي إلى دخول العناصر الجيّدة المنتقاة إلى تلك المؤسَّسة، ولم يجد حاجة ضرورية إلى توسيع مشاركة المرأة في «مجلس الشورى»، بل الاكتفاء بمشاركتها في بعض اللجان الاستشارية (وزير سعودي). لكنَّ وجهة نظره هذه، كانت مخالفة للعصر؛ حيث يقوم الشعب باختيار من يريد إلى مؤسَّساته التمثيلية، ما يضع السعودية في آخر السلّم بين الدول بالنسبة إلى حقوق الإنسان؛ حتى منع الفتاة من ممارسة الرياضة البدنية في المدارس الرسمية، وهي حاجة صحيّة ونفسيّة واجتماعية ملحّة، تعرّضت لها فتاوى العلماء، بحجّة أنّها تُفقدها «عذريتها»، و«كبيرة من الكبائر».
وفي مهرجان «الجنادرية» للعام 1434هـ/2013م، نجحت «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في منع الاختلاط متحدّية الرعاية الملكية. ومن المؤكّد، أنَّ السياسات السلطوية المطبقة في إطار قانوني (غياب الحريّات الدينية لغير المسلمين، وتنفيذ عقوبات جسدية، كبتر اليد والقدم والجَلد والرجم، والإعدام بقطع الرأس) التي تعترض عليها «منظمة العفو الدولية» (Amnesty International)، إلى جانب التقييد على الحريّات العامّة، والسياسية، تجعل ولوج المملكة إلى «الديمقراطية»، بالمفهوم الغربي، بعيد المنال.
وقد ظلّ «المحرم» سيفًا مُسلطًا على رقبة المرأة، بفتاوى رجال الدين ومراقبة هيئاتهم؛ في المنزل، وفي المدرسة، والجامعة، والعمل، ما يكبّل شخصيتها وحركتها وتطوّرها، بل يضعها في موقف مشين. إنَّ استعمال «شرف المرأة» و«عفّتها»، في الخطاب اليومي لرجال الدين والمحافظين، هو من أجل تخويف مجتمع من قيم تغريبية زاحفة إليه، وبالتالي، الإبقاء على المرأة مكبّلة بتقاليد عتيقة، وبأنَّ «المحرم» هو المؤتمن للدفاع عن «شرفها»، وليست هي نفسها بنفسها، بعد أنْ تكون قد تلقّت تعليمًا جيّدًا وثقافة نوعيّة.
صحيح أنَّ الملك عبدالله سمح للمرأة بالدخول إلى «مجلس الشورى» والترشّح لمجالس البلدية، إلَّا أنَّ ذلك حدث في نطاق ضيّق، ولم يتعدّ العشرات من النساء. أمَّا أنْ يُرفع سيف رجال الدين و«هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» عن رقاب النساء السعوديات، وأنْ يتجولن في سياراتهن، في شوارع المملكة، سافرات الوجه، ويُسافرن من دون إذن «المحرم» أو ولي الأمر، والجلوس أو مقابلة رجال من خارج العائلة، وعدم تغطية أجسادهن بلباس محتشم، من أعلى الرأس إلى أسفل القدمين، ماعدا العينين واليدين، وصولًا إلى فتح حسابات بنكية لهن من دون إذن «المحرم» أو ولي الأمر (جرى التراخي في هذا الموضوع خلال عهد الملك عبدالله)، فكانت كلّها محرّمات مجتمعية ذكورية، تعترف بها الدولة السعودية، ولا يمكن لأي عاهل سعودي أنْ يتخطّاها. لذا، لا يمكن، في هذا السياق، إعفاء السلطة السياسية من مسؤوليتها في ترك نصف المجتمع «النسوي» تحت رحمة خماسية: رجل الدين والأب والأخ والزوج والابن، كمعوّقين أساسيين لمسيرة تمكينه.
لقد رأى بعضهم الملك عبدالله متبنّيًا الإصلاح، في حين، لم تتحقّق مطالب أساسية، تتعلّق بتطبيق المَلَكية الدستورية، ولا الحقوق المدنية، وإنشاء المؤسّسات التمثيلية التي تضفي ديمقراطية على الحياتين السياسية والمجتمعية، كما حقوق المرأة والأقلية الشيعية (نبذة عن الملك السعودي). صحيح أنَّ الملك أراد تطبيق إصلاحات كثيرة، إلَّا أنَّه لم يكن ثوريًّا أو تقدّميًّا ليفرضها بقوّة جيش من «الإصلاحيين»، بطبيعة نشأته ضمن أُسرة، تحصر الحُكم بأفرادها، وعلى «أكتافها» تمَّ إنشاء الدولة التي حملت اسمها «السعودية». وكان يعرف، كما من سبقه من أشقائه الملوك، أنَّ إصلاحات سياسية وتطبيق المَلَكية الدستورية، ليست قرارًا يتخذه بنفسه، وسيكون الخطوة الأولى لتغيير النظام السياسي في البلاد ونسف حُكم آل سعود. من هنا، فضّل القيام بإصلاحات، تُبعد عن النظام شبح «المَلَكية الدستورية» من جهة، وتُبعد عنه، في الوقت نفسه، صفة «المستبد»، وتجعل منه حاكمًا مصلحًا، من جهة أخرى؛ بدليل تأسيس «هيئة البيعة» و«هيئة الحوار الوطني»، ومهرجان «الجنادرية» والاحتكاك بثقافات أخرى، وإرسال 200 ألف مبتعث إلى الخارج لتلقّي العلوم؛ من ضمنهم نسبة 30 % من الفتيات، كما إنشاء الجامعات الحديثة ومراكز البحوث والمدن الاقتصادية، وتطوير قطاع الخدمات، وإدخال المرأة إلى مجالس الشورى والبلدية، واستقبالها وتكريمها ومنحها الأوسمة، واختيارها لوظائف رفيعة في الدولة، ولو بشكلٍ محدود، وإعطاء الصحافة حرية أوسع في مجال انتقاد العمل الإداري. ومع ذلك، فإنَّ ما تحقّق من إصلاحات على يديه، لا يمكن اعتباره مجرّد فتات من هنا وهناك، بل يدلّ على رؤية استراتيجية للموقع الذي أراد أنْ تحتلّه بلده، وإنْ لم يستطع «تغيير» الأفكار المجتمعية نحو «حداثة منضبطة». وهذا ينطبق أيضًا على رجال الدين والعلماء الذين مثّلوا «القديم».
إنَّ مسألة حقوق الإنسان الأساسية في السعودية؛ مثل العقيدة والعبادة وممارسة شعائر الدين، وحقّ التعليم والاجتماع والعمل والتملّك والتنقّل، وحرية التعبير والرأي، والمساواة أمام القانون، والحصول على محاكمة عادلة إلخ..، لا تزال كلّها ملفّات مفتوحة. فحقوق الشيعة وحقوق المرأة، وهي أكثر الموضوعات الخلافية والاجتماعية والسياسية الشائكة، ترتبط، في رأينا، بمناهج التعليم التي بُنيت على أساس مواقف مشينة في حقِّ «الآخر»، في الداخل وفي الخارج، وتتعلّق بالموروث الثقافي والسياسة المجتمعية، وعدم القدرة على تغييرهما، بجرّة قلم. وتندرج، في هذا السياق، المواقف الرافضة لمساواة المرأة بالرجل، ونظرة السلطة والمجتمع الفوقية إليها، كما تجاه «الآخر» الشيعي السعودي، سياسية ومجتمعًا وعقيدة، والهواجس منه إلى درجة التهميش و«التكفير» و«التخوين»، قبل الثورة الخمينية وبعدها.
إنَّ الرفض المتبادلين بين السُنّة والشيعة السعوديين، والسياسة المجتمعية والسلطوية تجاه الشيعة، قد تكون من أهم العوامل التي جعلت شيعة السعودية، وشيعة بلدان الخليج العربية كذلك، تتطلّع إلى إيران التي كانت تضخّ إليهم، منذ ثورتها الإسلامية، رسائل الدعم؛ كـ «مستضعفين» و«مظلومين»، وتوقظ، لديهم، وبالتأكيد لدى السُنّة، ذاكرات تاريخية أليمة. لكنّ تطلّع الشيعة نحو إيران، وضعهم في موقع مشبوه، بأنَّهم ينفذون أجنداتها، ويتآمرون ضدَّ الداخل.
وربّما جاءت، من هنا، مشاركة الشيعة السعوديين في الحركة الإصلاحية، وتقديم العرائض لرفع الغَبْن السياسي – المجتمعي عنهم، وانضمامهم إلى لقاءات الحوار الوطني، لرغبتهم في التوصّل إلى حالة تصالح مع النظام والمجتمع السعوديين. لذا، عمل الملك عبدالله على تحسين أوضاعهم الاجتماعية لدمجهم في مجتمعهم، وللحدِّ من انجذابهم إلى الخارج. ومع ذلك، لا يمكن الحديث، حتى الوقت الراهن، عن تعدّدية مجتمعية سعودية في بوتقة «وطنية».
ولا جدال في أنَّ وقوف الملك مع المرأة عزّز دورها؛ كأمّ ومتعلّمة ومثقّفة وعاملة منتجة، تضطلع بأدوار سياسية ووظيفية، لكن، في ظلِّ «خُطوط حمراء»، تمسّك بها رجال الدين، لم يستطع أنْ يتخطّاها، وأهمّها مقولة: «وفق ما حدّده الشرع». وعندما أعلن في شوّال العام 1432هـ/سبتمبر 2011م عن منح المرأة حقّ المشاركة في الدورة القادمة لمجلس الشورى والترشّح إلى المجالس البلدية العام 1436هـ/2015م، كان الجميع، في الداخل وفي الخارج، ينتظر منه أنْ يسمح لها بقيادة السيارة التي كانت عنوانًا لحركة مطلبية نسائية، وهو قرار، طال انتظاره، وأحجم المسؤولون عنه بذريعة علاقته الوطيدة بالسياسة المجتمعية. وإذ بالملك يقرر منح المرأة حقوقًا اجتماعية – سياسية، فاقت ما كانت تتوقّعه. وقالت ناشطة سعودية: «إنَّ القرار يحوي أيضًا حزمة رسائل مباشرة وقوّية إلى واشنطن والعالم الغربي»، وهو «تجاوز المطالب الدولية في قيادة المرأة السعودية السيارة، إلى تمكينها من المشاركة السياسية، حتى لو كانت صورية» (نقلًا عن: السعوديات يرحبن).
صحيح أنَّ ما قام به الملك، بالنسبة إلى المرأة السعودية والأقلية الشيعية، كان أقلَّ من المطلوب في نظر الإصلاحيين وهيئات حقوق الإنسان الدولية، إلَّا أنَّ ما فعله كان متقدّمًا بالنسبة إلى العهود السابقة. فدمج الشيعة في مجتمعهم السعودي، كان يقوّي اللُحمة الوطنية، ويوقف استقطابهم من قبل إيران، ويجعل المجتمع أشدَّ تماسكًا. وإعطاء المرأة حقوقًا مساوية للرجل، كان يعني انخراط نصف المجتمع «النسوي» في التنمية المستدامة وفي الحياتين السياسية والاجتماعية. مع ذلك، فإنَّ السياسة المجتمعية التي أمسك بمفاصلها رجال الدين والفقهاء، أعاقت «قطار» الإصلاح في هذين «المرفقين».
قبل عقود قليلة، ما كان أحد يتصوّر أنْ تخرج الفتاة السعودية من بيتها إلى التعليم العالي والعمل، وتصبح طالبة مبتعَثة في أفضل جامعات العالم. وعشيّة رحيل الملك عبدالله، كان هناك نحو 30 ألف طالبة سعودية مبتعَثة، يدرسن في الجامعات الدولية، لم تكنَّ يتوقّعن قبل عهده، أنْ تسنح لهنَّ الفرصة للخروج من المنزل، أو الذهاب إلى الجامعات السعودية، وحتى دراسة اختصاصات، كانت ممنوعة عليهن في الماضي؛ كالطبّ والقانون والهندسة وغيرها، وأنْ يصبح للفتاة السعودية جامعتها الخاصّة (جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن)، وجامعتها المختلطة (جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية)، حتى إنَّ عدد الطالبات السعوديات الجامعيات في المملكة فاق عدد الطلاب الذكور.
لقد استطاع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، خلال سنوات حكمه، تعيين المرأة برتبة نائب وزير، ووكيلة وزارة، ونائب محافظ، وعميدة وأستاذة جامعية، ومهندسة في شركات النفط، ورئيسة تحرير صحيفة، ومديرة إذاعة ومحطّة فضائية، وعضو في «مجلس الشورى»، وفي المجالس التجارية، ومدير بنك، وسيدة أعمال ومال واستثمار، وعضو في السلك الدبلوماسي، وهي إنجازات، وإنْ بقيت ضمن حدود رقمية صغيرة، وبرمزية كبيرة، ما كانت لتتحقّق لولا رؤية الملك المنفتحة. حتى إنَّه أسّس مدنًا صناعية لإقامة مشروعات خاصّة بالمرأة، بسبب عملية الفصل الجندري. كما أنَّ تكريم المرأة شخصيًّا من قبله، على إنجازاتها العلمية والإدارية المميّزة، واستقبالها والشدّ على يدها، في مجتمع، يعتبر بعضهم وظيفة المرأة تنحصر في الثلاثية: السرير – الأم – المطبخ، شكّل علامة فارقة في تاريخ المرأة السعودية. وما أصدره من قرارات لصالحها، إنّما نبع من رؤيته الإصلاحية، وليس بسبب مطالبات نسوية، أو ضغوط، مُورست عليه، على حدّ قول سيدة الأعمال والعضو الاستشاري في «مجلس الشورى» آسيا آل الشيخ (السعوديات يرحّبن).
لقد حاول بعضهم التقليل من أهمية النقلة النوعيّة التي شملت المرأة السعودية، في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والقول إنّها ما تزال تفتقر إلى الكثير من الحقوق السياسية والمجتمعية، وهذا صحيح. إنَّ تقاليد المجتمع السعودي وأعرافه الصارمة، كما سبق الذكر، لا تسمح بأيّ قفزة غير مدروسة، قد تؤدّي إلى عكس ما تشتهيه المرأة، في ظلّ وجود قوى متربّصة بها. فكثيرات هنَّ النساء السعوديات اللاتي عبّرن عن رضاهن بما تحصّل في عهد الملك عبدالله (Al-Rasheed 20-21, 28-9)، وعن رفضهن استيراد التجربة الغربية ونسخها، في بلد، تسود فيه الشريعة، وتقوم تقاليده وأعرافه على الإسلام. فهنّ في سعيهن إلى تحقيق المزيد في مسائل تتعلّق بأدوارهنّ وبالعمل وبحقوقهن السياسية، لم يشأن الاصطدام بمكوّنات المجتمع الذكوري؛ بل الحصول على الاعتراف بهنَّ، كجزء أساسي من المجتمع ومن «النهضة» السعودية. وقد رأت ناشطة في حقوق المرأة أنَّه من غير العدل والإنسانية رؤية المرأة كعضو فاسد، يجب إزاحته من المجتمع وعدم تقديمه وتمكينه، فضلًا عن التعميم والحُكم على جنس، بأكمله، إذا سلك البعض مسارًا مختلفًا (مقابلة مع مهى فتيحي). وعقّبت مؤرّخة سعودية على سياسة الملك لتمكين المرأة، بأنَّ صوت المرأة في عهده ارتفع، وأصبح أكثر وضوحًا، ويستطيع الوصول إلى صنّاع القرار (ذا إيكونوميست).
لقد قامت ناشطات سعوديات في حقوق الإنسان ومنظَّمات دولية ذات العلاقة بملاحقة القضايا المجتمعية التي وقفت، حجر عثرة، في طريق مساواة المرأة بالرجل، وبالتالي، التواصل مع المسؤولين السعوديين، ورفع العرائض إلى الملك. فليس قيادة السيارة التي يُركز عليها، عادة، الإعلام المحليّ والدوليّ هي المطلب الأساس الذي يُشغل المرأة السعودية، لكنها قضية تختصر كلّ المشهد الذي يُعبر عنه بـحقوق المرأة في «الحرّيّة والمساواة»، الحرّيّة في أنْ تكون سيدة نفسها وقرارها، ومساواتها بالرجل، ذلك أنّها تمتلك، نسبيًّا، المؤهلات العلمية والكفاءات التي يمتلكها الرجل. وهذا يحقّق التوازن في المجتمع؛ بحيث لا تشعر أنَّها تُعامل بفوقية وعدم مسؤولية من الدولة، وكذلك من المجتمع الذكوري، ومن يُهيمن عليه من رجال الدين. وقد أعلنت أميرة الطويل، مطلّقة الأمير الوليد بن طلال، عن دعمها المرأة في مطلبها بقيادة السيارة، لكّنها اعتبرت أنَّ هناك أشياء كثيرة أهمّ من ذلك، ومنها مساواتها بالرجل في العمل، وأمام القضاء، وفي التعليم (Kelly) . إنَّ حقوق المرأة التي كفلها إعلان «الأمم المتّحدة»، رأتها «رابطة العلماء المسلمين» من منظور قرن أوسطي، تتضمّن «إباحة الزنا، وتشجيع الانحلال الخلقي والتفكّك الأُسري» (نقلًا عن: العلمي 42-43).
ومن القضايا الأساسية التي تنشط المرأة السعودية لتحقيقها، منذ سنوات، ولم تنفّذ: حقّها كراشدة في الولاية عن نفسها، والتنقّل والسفر (الوصاية عليها)، وكذلك موافقة ولي الأمر على حصولها على «الهوية الشخصية» من الدوائر المختصّة، وعلى الوظيفة في بعض الشركات الأهليّة (Derbal 20)، ومشاركتها في الانتخابات البلدية، تصويتًا وترشيحًا (حصلت المرأة على هذا الحقّ في مطلع عهد الملك سلمان)، وتعامُل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» معها بطرق خشنة، وإكراهها على الزواج، وعلى الزواج المبكّر، وإجبار الشقيقات على التنازل للإخوة عن الميراث لدى المحاكم (العلمي 20، 81 – 84). يُضاف إلى ذلك، التعنيف والعنف المنزلي من قبل الأزواج والإخوة والأبناء، بكلِّ أشكاله، وعدم توافر البيوت التي تلجأ إليها المرأة المعنّفة.
كانت مسألة منع الاختلاط قضية أساسية أخرى، كبّلت المرأة أُسريًّا واجتماعيًّا ووظيفيًّا وكقيمة إنسانية، وجعلتها والملك عبدالله في خندق واحد لمواجهة قوى دينية واجتماعية متشدّدة. وعلى ما يبدو، فهناك خلطٌ متعمّد بين الاختلاط المحرّم وبين الاختلاط العلني الذي يحدث في الأسواق والأماكن العامَّة والمنتديات، وفي الحجّ كذلك. وقد تطرّقنا، في الفصل الخامس، إلى نضال المرأة من أجل السماح لها بقيادة السيارة، وإلى ردود الفعل الغاضبة من قبل رجال دين متشدّدين، وصفوا المرأة التي تقود سيارتها بأبشع النعوت، وبأنَّه مخالف للأعراف والتقاليد. حتى إنَّ بعضهم اعتبر أنَّ قيادة المرأة السيارة نوع من الاختلاط بالرجل في الشارع. واعتبر الأمير متعب بن عبدالله، نجل العاهل السعودي، أنَّ النظرة إلى «الاختلاط» الذي تعمل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» على تطبيقه، هو: «تصرّف لا أخلاقي، وينمّ عن محاولة لتكريس الإرهاب الفكري وغرس التخلّف» (نقلًا عن: الأمير متعب).
صحيح أنَّ الملك أقال الشيخ الشثري من «هيئة كبار العلماء»، بسبب فتواه بتحريم الاختلاط في جامعة «كاوست». لكن الشيخ كان يعبّر عن فكر شريحة واسعة من علماء الدين والمجتمع السعودي الذين رأؤا أنَّ الاختلاط يؤدّي إلى الفاحشة. فالاختلاط، و«الرقص المختلط» في جامعة «كاوست» اللذان اشتكى منهما الشيخ الشثري لا يقرّهما المجتمع السعودي ولا رجال الدين، ولا أعضاء في الأُسرة المالكة. باختصار، كانت القوى المتحجّرة، في المجتمع السعودي، تريد من المرأة أنْ تلازم منزلها، وألَّا تخرق المربّع المحدّد لها تحت أي مسوّغ. فتلاحقها بالفتاوى التي تطعن في شرفها وكرامتها وقدراتها، كي تبقيها أسيرة البيت والتقاليد.
صحيح أنَّ إصلاحات الملك عبدالله التي لمست المجتمع لم تكن، بالتأكيد، وفق المعايير الغربية، في ضوء هيمنة أصحاب الاتجاهات السلفية من رجال الدين، وسيادة التقاليد المجتمعية القبلية، واتسمت بالبطء، وبخاصّة ما يتعلّق منها بتمكين المرأة، اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وبالحقوق المدنية والسياسية. لكن الصحيح، أيضًا، أنَّ الخطاب الديني، لم يتغيّر، في عهد الملك، والدليل على ذلك اصطدامه المتكرّر برجال الدين والقوى المحافظة. وإنَّ الإصلاحات المتعلّقة بالمرأة، وبالحقوق المدنية، كما طالب الإصلاحيّون المتنورون، والانتقال من منظومة الفكر الإسلامي إلى الفكر الليبرالي، كانت تثير مخاوف القوى المحافظة وعلماء الدين، من أنْ يخسروا سلطانهم. حتى إنَّ بعضهم تجرأ على تحدّي الملك في العلن.
عندما سمح الملك عبدالله للمرأة بالدخول إلى «مجلس الشورى» العام 1434هـ/2013م، تسبّب القرار المَلَكي باستياء علماء دين محافظين، فخرج بعضهم في تظاهرات احتجاجًا، لأنَّهم رأوا فيه مخالفة للأعراف المجتمعية التي يغذّونها (السيّد). وحدث الشيء نفسه في ما يتعلّق بقيادة المرأة السيارة. وما طالب به الإصلاحيون الليبراليون من مَلَكية دستورية، وفصل حُكم آل سعود عن الوزارة، كان كافيًا لأنْ يدقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى الأُسرة الحاكمة، وإلى «هيئة كبار العلماء»، خوفًا على مصالحهما الأزلية المشتركة، منذ التحالف الأول الذي ربط بين الشيخ محمد بن عبدالوهّاب والأمير محمد بن سعود، منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وجرى، على أساسه، تقاسم السلطتين الدينية والزمنية. لذلك، فإنَّ ما تحقّق في مجال تمكين المرأة، في عهد الملك عبدالله، وإشاعة مناخ مقبول من حريّة التعبير في الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، شكّل بدايات جيدة، لكنّها بقيت خُطوة الألف ميل.
لقد سعى الملك، بجهوده الشخصية والمتابعة اليومية إلى تحريك المياه الراكدة في المستنقع العفن، وخاض مواجهات مع كبار العلماء الذين تحدّى بعضهم قراراته. وقد لا يُعتبر إصلاحًا، في نظر البعض، بأنْ يقوم العاهل السعودي باستبدال رئيس «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بعالِم آخر، بينما تعشّش العقلية المتحجّرة في عقول أفراد من «هيئة كبار العلماء». وفي إحدى المرّات، اضطر الملك لأنْ يعيد رئيس «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، في منطقة مكّة المكرّمة، إلى عمله، بعدما أقالته الهيئة المركزية في الرياض، بسبب طرحه السؤال: عما إذا كان الدين الإسلامي يستوجب الفصل بين الجنسين؟ وقد أغلق الملك، الذي كان مزهوًّا بافتتاح جامعته: «جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية» (كاوست) العام 1430هـ/2009م، كأول مؤسَّسة جامعية مختلطة في البلاد، موقع «الرجل المتعلّم» على شبكة الإنترنت للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، لأنَّه أفتى بتكفير أي شخص يستبيح الاختلاط بين الجنسين في ميادين العمل والتعليم، واعتباره مرتدًّا، يجوز قتله. لكن ما يؤخذ على الملك، بأنَّ تصدّيه لرجال دين؛ كالشثري والبراك والفوزان وغيرهم، ظلَّ ضمن ردود الفعل الفردية، ولم تتحوّل إلى نهج يقوم على ضبط «المؤسّسة الدينية»، أو إحداث تغيير راديكالي في داخلها، وذلك لأنَّ جذور تلك المؤسًسة كانت ضاربة في السلفية وفي تاريخ السعودية، دولة ومجتمعًا، ولأنَّ آل سعود احتاجوا إليها لتثيبت شرعية حُكمهم.
كانت فتوى البراك تحدّيًا غير مباشر للعاهل السعودي، الذي يظهر في الإعلام يستقبل نساء سافرات الوجه، ويؤسّس جامعة، تسمح بالاختلاط بين الجنسين. وعلّق الأمير سعود الفيصل على فتوى البراك بأنَّ «قطار الإصلاح انطلق ولا عودة إلى الخلف. وأضاف، إنَّ رجال الدين الذين يطلقون، بين الحين والآخر، بيانات، في الاتجاه المعاكس، هم إنّما ينشرون الإحباط، ويعتقدون أنَّ باستطاعتهم وقف هذا التوجّه، وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء» (نقلًا عن: كشيشيان 91).
وبين العامين (1432 و1433هـ/2012 و2013م)، واجه مهرجان «الجنادرية» انتقادات علنية من علماء دين متشدّدين بسبب الاختلاط؛ وفي مقدّمهم الشيخ صالح الفوزان الذي أفتى بتحريمه، واصفًا هذه الفعّالية بأنّها «أجواء غير سليمة وضدُّ الدين، وتدفع إلى الفجور والفسق» (نقلًا عن: الأمير متعب). ولما كان المهرجان يُقام تحت رعاية مَلَكية، فمعنى ذلك أنَّ الفوزان وغيره كانوا ينتقدون، بجرأة، سياسة الملك عبدالله ونهجه الإصلاحي. وقد ردَّ عليهم نجله وزير «الحرس الوطني» ورئيس اللجنة العليا للمهرجان الأمير متعب بالقول: «جميع الأسواق (في السعودية) فيها اختلاط، وهذا ليس عيبًا، فهذه سنّة الحياة» (نقلًا عن: الأمير متعب). ونفى الأمير أنْ تكون هناك تجاوزات في الجنادرية، وبأنَّ الرجال الموجودين هم آباء العائلات وإخوتهم الذين يزورون المهرجان (الأمير متعب بن عبدالعزيز: لا تجاوزات). وفي نهاية الأمر، ومع تعالي الاحتجاجات الشبابية السلفية المتشدّدة، لدى «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، بتحريض من علماء الدين، انتصرت إرادة الآخرين، واضطرت إدارة المهرجان إلى إلغاء برنامجها الفني الذي أشرفت على إعداده سيدات سعوديات، وجرى اختصار برامج أخرى تشارك فيها المرأة من فعّاليّات «الجنادرية».
والشيء نفسه حصل في معرض الكتاب بالرياض العام 1435هـ/2014م، عندما منعت «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» العالمة المعروفة البروفسورة خولة الكريّع من الجلوس في المنصّة الرئيسية لإلقاء محاضرة لها، وطُلب منها الجلوس في مكان منعزل، لتلقي منه كلمتها. فامتنعت العالمة عن ذلك (العلمي 15-16).
****
وبالعودة إلى إصلاحات الملك عبدالله التي لا تمسّ التقاليد والأعراف ونفوذ القوى السلفية المتأثّرة بالفكر السلفي المتشدّد، فإنَّها قد أسهمت في تحسين الأوضاع الاجتماعية، عند غالبية المواطنين السعوديين، وبخاصّة الفقراء منهم والمعوزين والأُسر والطلاب والعمّال وأصحاب المهن والحرف والمزارعين. فقد جعل الملك عبدالله مبلغ 3 آلاف ريال {800 دولار أمريكي} الحدّ الأدنى للأجر، بالنسبة إلى كلِّ الوظائف الحكومية، وخصّص مبلغ 2,000 ريال {533 دولارًا} مساعدة لكلِّ عاطلٍ من العمل، ورفع مخصّصات «الضمان الاجتماعي» بالنسبة إلى الأُسرة السعودية. وسار قدمًا في مشروع الإسكان المؤلّف من نصف مليون وحدة سكنية، وأسّس «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» التي عملت في حدود المستطاع، لكن يؤخذ عليها أنَّها لم تستطع أنْ تشير إلى أفراد من الأُسرة السعودية تورّطوا في الفساد.
وقدّم الملك، كذلك، القروض الميسّرة والمساعدات لأصحاب المشاريع المهنية والحرفية الصغيرة والمتوسّطة. وأمسك بيد الطالب السعودي، يفتح أمامه الآفاق لتحصيل العلم والمعرفة، حتى في الصين. كما أوجد مؤسَّسة «موهبة» التي أخذت على عاتقها اكتشاف الموهوبين والموهوبات في سنّ مبكرة، ورعايتهم ومتابعتهم من خلال البرامج والمشاريع. وكان مع رجل الاقتصاد السعودي في مشاريعه الطموحة، ومع الصناعة السعودية، يواكب قفزاتها المتتالية في 40 مدينة اقتصادية فريدة، تتلقّى الدعم من الصناديق الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المتخصّصة. وقام بدعم القطاع الخاصّ الذي أخذ على عاتقه تشييد «مدينة الملك عبدالله الاقتصادية»، وساند التاجر السعودي في التواصل مع أسواق العالم، ووقف مع المزارع في تحفيزه على النهوض بأرضه وبزراعته.
صحيح أنَّ فوائض عائدات النفط والميزانيات المدروسة سمحت بتحقيق خُطط التنمية السعودية، وآخرها اثنتان في عهد الملك عبدالله (الثامنة والتاسعة)، إلَّا أنَّ المرء لا يستطيع سوى الثناء على إنجازات هذا الحاكم الرؤيوي والنهضوي الذي أدرك ما يحتاج إليه بلده من برامج التنمية المستدامة. فهو الذي وقف، وراء الخُطط العملاقة لتطوير البلاد، وسهر على تنفيذها ومتابعتها، وفق رؤية استراتيجية شاملة، وهي الانتقال، بالسعودية، نحو «العالم الأول»، بكلِّ ما يعنيه اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، من دون التخلّي عن الأصالة والتراث. وقد تطلّبت هذه الاستراتيجية حكمة ودراية في توزيع الميزانيات السعودية على أهداف مفصليّة فيها، وكذلك، في إدارة فوائض الميزانيات السنوية التي اتجهت أولًا وأخيرًا إلى تحقيق المزيد من مشاريع التنمية المستدامة، رغم انتقادات من هنا وهناك. من هنا، أطلق الدكتور عبدالله الشقّاوي، مدير «معهد الإدارة العامَّة بالرياض» على الملك عبدالله في الطبعة الجديدة لكتاب «خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز: الرؤية الشاملة لإدارة التنمية» صفة «رائد التنمية الحديثة ورجل القرارات الفاعلة» (إعادة طبعة).
لكن يبقى أكبر تحدٍ للمملكة، في ضوء تراجع أسعار النفط عالميًّا إلى حوالى النصف، حتى مطلع العام 1435-1436هـ/2014-2015م، في أن تتمكّن الحكومة من ترشيد انفاقها، وتؤمّن، بالتالي، استمرار العائدات المالية لبرامجها الإنمائية، كي لا تُضطر إلى مواجهة العجز بالاستدانة، أو في وقف العمل في بعضها (تحذيرات «صندوق النقد الدولي» التي أتينا على ذكرها في الفصل السابع). لكن الميزانية السعودية الجديدة دلّت، رغم العجز بـ 145 مليار ريال {39 مليار دولار} ، أنَّ المملكة ستواصل برامجها الإنمائية، من دون أنْ تتأثّر بهبوط أسعار النفط، مع وصول سعر البرميل الواحد إلى أقل من 50 دولارًا {187 ريال}.
وقد عاد «صندوق النقد الدولي» وخفّض توقّعاته، في ضوء استمرار انهيار أسعار النفط، بالنسبة إلى نموّ الاقتصاد السعودي خلال العام 1436هـ/2015م إلى 2.8 %، متراجعًا عن توقّعات سابقة بنموّ قدره 4.4 %. وأعرب الصندوق عن القلق من أنْ يتأثّر الاقتصاد السعودي. وكشف الأمير الوليد بن طلال عن انزعاجه من اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط فقط، مقترحًا أنْ تقوم بلاده بتنويع أدائها الاقتصادي عبر صندوقها السيادي (متى). لكن هذا لم يحدث بتاتًا، بسبب فشل خُطط التنمية الثماني في تحقيق تنويع في مصادر الدخل. من هنا، نفهم لماذا فرضت الحكومة السعودية قبل حوالى العامين رسومًا على الأراضي البيضاء، للمرّة الأولى، وعلى قطاعات الطاقة والكهرباء والماء الخ… إنَّ تدهور أسعار النفط من جهة، وانخراط السعودية في حرب اليمن، من جهة أخرى، وفي دعم الثورة السورية، ومصر عبدالفتاح السيسي، يستنزف ماليتها، وقد يقلّص برامجها الإنمائية وقدراتها على التأثير في الخارج.
وبفضل عائدات النفط، رفع الملك عبدالله شعار محاربة الجهل بالتعليم، والمرض بالصحّة، والبطالة بالعمل والإنتاج، جاعلًا تلك المسائل الثلاث من أولويات برنامجه الاصلاحي المتدرّج. صحيح أنَّ النهوض بالتعليم والصحّة وتوفير العمل للمواطنين هو، في الأساس، حاجات مجتمعية، إلَّا أنَّ تنمية هذه القطاعات، بشكل مستدام، جاء، أيضًا بـ «إلحاح» ومتابعة حثيثة من الأعلى إلى الأسفل، أي من العاهل السعودي الذي أدرك وجود مشكلة فيها، منذ أنْ كان وليًّا للعهد، ويضطلع بشؤون الحُكم منذ شعبان العام 1416هـ/يناير 1996م. وما أدلّ على ذلك، سوى استعجاله في إصدار الكثير من المراسيم والأوامر الملكية في هذا الصدد. كانَ توفير التعليم الجيّد والمعرفة للجميع بالنسبة إليه، والاهتمام بصحّة المواطنين وبوقايتهم، وخلق قطاعات إنتاجية وفرص عمل، تنسجم مع حاجات السوق السعودية، وتخصيص وظائف للسعوديين (السعودة)، هدفت، جميعها، إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية، وبالتالي، عدم جعلها ثغرة، ينفذ منها المغرضون لإفساد البعض في المجتمع، أو جعله ينحرف عن الطريق المستقيم، ويتبع الفئات الضالة، ويتآمر على حكومته، في ربيع عربي ثبت أنَّه كان كارثيًّا على بعض الأنظمة العربية ومجتمعاتها.
غير أنَّ «تطهير» مناهج التعليم من نصوص الكراهية والحقد ضدَّ «الآخر» في الداخل وفي الخارج، كما طالبت الإدارة الأمريكية الحكومة السعودية بعد حادثتي نيوريوك وواشنطن، لم يحدث بالشكلِ الذي يطمئن «البيت الأبيض». صحيح أنَّ أحدًا لم يطلب من السعوديين التنكّر لعاداتهم وتقاليدهم، وقبل كلِّ شيء لعقيدتهم، لكن ما حدث في المدينتين على أيدي الإرهابيين، جعل المجتمع الدولي لا يتابع الإرهاب كأفراد وجماعات حول العالم، وإنّما التلاعب بالعقول من خلال مناهج التعليم السعودية والثقافة المجتمعية التي ظلّت تضخّ أفكار الكراهية ورفض «الآخر»، وتفرّخ أصوليين على أيدي رجال الدين متشدّدين.
وقد لا يستطيع أحدٌ أنْ يُنكر التأثيرات البعيدة المدى في المجتمع السعودي، لعملية النهوض في قطاعات التعليم العام، والجامعي، والصحّة، وبرامج التنمية الاجتماعية المستدامة. وقد يكون من اللافت أنْ يخصّص العاهل السعودي أموالًا ضخمة للاستثمار في الإنسان. فهو يستحقّ التقدير والثناء، عندما تصرف الحكومة السعودية، على مدى سنوات، حوالى 36 % من ميزانياتها كلَّ عام على قطاعات التعليم والصحّة وبرامج التنمية الاجتماعية، وهذه النسبة هي الأعلى في العالم. وسرّ هذا القرار، هو رؤية العاهل السعودي لأهمية القطاعات الثلاثة، وإشرافه المباشر عليها، فضلًا عن نعمة ارتفاع أسعار النفط التي ضخّت الأموال المطلوبة في الميزانيات السعودية. لكن هذه «النعمة» تسبّبت بكوارث اجتماعية، على الشعوب الفقيرة، التي شعر العاهل السعودي بمدى معاناتها، ما جعله يُطالب بسعر معقول للطاقة.
كذلك، أصرَّ العاهل السعودي، وبمتابعة حثيثة منه، على توفير السكن اللائق لمئات الآلاف من السعوديين أصحاب الدخول المتدنية، وذلك عبر برامج الإسكان، وآخرها مشروع إنشاء نصف مليون وحدة سكنية، قارب العمل على الانتهاء من مرحلتها الأولى. وفي مجال الطبابة والاستشفاء، وقف الملك عبدالله وراء مشاريع بناء المستشفيات الجديدة الحديثة والمتخصّصة التي وصل عددها إلى 132 مستشفى، فضلًا عن المدن الطبيّة الخمس والمراكز والمستوصفات التي زوّدها بالأطباء والمعدّات والتجهيزات الحديثة. وقد لا توجد، اليوم، ناحية في المملكة إلَّا وتتمتّع بالخدمات الطبيّة والاستشفائية. إنَّ إجراء مستشفيات المملكة عمليات جراحية نوعيّة؛ كفصل الأطفال السياميين، وجراحة القلب والعين، تكشف عن مدى التطوّر في المملكة الذي لحظ الطبّ والاستشفاء والتدخّل الجراحي. ومع ذلك، تظلّ المملكة بحاجة إلى التعاون مع الكوادر الطبية الأجنبية المتخصّصة لاكتساب الخبرات، وفي مجال التمريض كذلك.
ومن المؤكَّد أنَّ الملك عبدالله أدرك أهمية التنمية الاقتصادية المستدامة لخدمة المجتمع، فلا اقتصاد قوي من دون صناعة ويد عاملة، ولا اقتصاد من دون ربطه بالمجتمع، ولا مجتمع مزدهر من دون تنمية الاقتصاد بشكلٍ مستدام، ولا تنمية من دون الوصول إلى اقتصاد المعرفة. وعندما وضع حجر الأساس للمدينة التي حملت اسمه: «مدينة الملك عبدالله الاقتصادية»، وطرح شعاره: «نحو العالم الأول»، كان يتطلّع بثبات لأنْ تتبوأ بلاده مكانًا لائقًا بين دول العالم المتقدّم، قاصدًا، بذلك، مصطلح «مكان تحت الشمس» (Platz an der Sonne). من هنا، اهتم بأنْ يدخل إلى عمق الصحراء، ليبني المدن الاقتصادية الأربعين المنتشرة، اليوم، على مساحات البلاد أو قيد الإنشاء.
إنَّ إقامة المراكز الاقتصادية والمالية في العديد من المدن المستحدثة، وجلب الاستثمارات الوطنية والأجنبية لها، دليل على وعي أهمية الاستثمار في دفع عملية تنمية الاقتصاد السعودي. وهذا تطلّب توفير المُناخات الاستثمارية، من قرارات مَلَكية، وبنى تحتية، ومساكن، ومدارس وكلّيات وخدمات، ومطارات ومرافئ وطرقات وسكك حديدية، وحوافز وإعفاءات ضريبية وقوانين إلخ… وقد أشادت المحافل والدوائر الاقتصادية الدولية بالسياستين الاقتصادية والاستثمارية والتقدّم الصناعي وبناء المدن الصناعية في المملكة، فضلًا عن أهداف برامج التنمية المستدامة. مع ذلك، فإنَّ الناتج المحلي الإجمالي السعودي لا يعبّر عن القدرات الاقتصادية المفترضة للمملكة وإمكاناتها، فيتقدّم عليه الناتج المحلي الإسباني بنسبة الضعفين تقريبًا. إنَّ عيب الاقتصاد السعودي أنَّه يعتمد اعتمادًا شبه كلّي على النفط، ولم تنجح المحاولات السابقة في تنويع الاقتصاد. من هنا، فإنَّ ارتفاع الناتج المحليّ الإجماليّ السعودية، لا يعود إلى دور القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، بل إلى صادرات النفط الخام. ومع ذلك، فقوّة الاقتصاد السعودي وما يُصرف على برامج التنمية والمشاريع الاستثمارية، أفسح في المجال أمام تعزيز التجارة السعودية، وبالتالي، الاهتمام بقطاعات الخدمات والبُنى التحتية. من هنا، كان من المنطقي أنْ تنضمّ المملكة إلى «منظَّمة التجارة العالمية» وإلى «مجموعة العشرين».
وفي شأن اقتصادي آخر، لا تشكّل «السعودة»، رغم كلِّ المحاولات لرفع مساهمتها للحدِّ من البطالة الوطنية، سوى نسبة 10 % تقريبًا من مجموع عشرة ملايين وظيفة، وهذا يرتّب على الحكومة السعودية تنفيذ خُططٍ وسياساتٍ وبرامج لاستقطاب العمالة الوطنية في القطاع غير الحكومي، خصوصًا أنَّ هناك كفاءاتٍ علميةً ومهنيةً، أفرزتها سياسةُ الابتعاث إلى الخارج. لقد أشارت تقارير دولية إلى أنَّ ابتعاد القطاع الخاصّ عن «السعودة»، يعود، في بعض منه، إلى ضعف مؤهلات المواطن السعودي، كانعكاس لنظام التعليم الحكومي السابق، وإلى أدائه الوظيفي المتواضع، بشكلٍ عام، مقارنة بالعامل الأجنبي، وإلى الأجر المرتفع الذي يتقاضاه المواطن مقارنة بالعامل الوافد. لكن عودة كوادر سعودية متعلّمة من الخارج متأثرة بثقافة العمل والإنتاج من مجتمعاتها؛ حيث درست، يجعل إمكانية ضخّ دم سعودي نشيط في القطاع الخاص، أمرًا مفيدًا للاقتصاد الوطني (عبدالعزيز الدخيل، 31-32).
لقد حدثت نقلة نوعية في الصناعة السعودية في عهد الملك عبدالله، فنمت بنسبة تجاوزت 53 % في السنوات العشر الأخيرة. ويُتوقّع أن يزداد عدد المصانع، مع الانتهاء من بناء المدن الصناعية التي تستقطب مئات الآلاف من العمّال والموظّفين، وأُسرهم. وأصبح شعار «صنع في السعودية»، يوضع على منتجات المملكة التي تجد طريقها إلى الأسواق العالمية، وفي مقدّمها صناعة البتروكيماويات ذات الكلفة العالية جدًّا، والتي لا توظّف نسبيًا سوى القليل من الأيدي العاملة، على عكس ما هي عليه الحال في صناعة الكهربائيات والأجهزة والسيارات. وهذا يعني أنَّ على المسؤولين والقطاع الخاصّ السعودي التحوّل نحو الصناعات المولّدة للوظائف التي تسهم في استيعاب الطلب المتزايد للخريجين الجدد. لقد تمّ صرف مئات المليارات من الدولارات على إنشاء المدن الاقتصادية، لكنها، وبسبب اعتمادها على البتروكيماويات بشكل كبير، لن تستطيع أن توظّف العدد المطلوب من العاملين، بحيث تستوعب البطالة الراهنة والمستقبلية.
****
وفي حراك ثقافي نوعي فريد، أرسل الملك عبدالله «جيشًا» مسالمًا مؤلّفًا من أكثر من 200 ألفٍ من الطلبة السعوديين للدراسة في الخارج متسلّحين بالرغبة في طلب العلم والمعرفة، وإعطاء «الآخر» فكرة مغايرة عن السعودي الذي شارك في الاعتداءات على أمريكا العام 1422هـ/2011م، وبأنَّ السعودي هو إنسان متحضّر ومسالم، وأنَّ يتخرّج، من بين هؤلاء الآلاف، طلابٌ وطالبات، على مدى السنوات القليلة الماضية، في حقول الطبّ والهندسة والفيزياء النووية والعلوم الطبيعية والمعلوماتية الخ..، وأنْ يعملوا في قطاعات وأنشطة مؤثّرة، ما هو إلَّا دليل على أنَّ الملك عبدالله، الذي تلقّى تعليمًا تقليديًّا، رؤيوي واستراتيجي من الطراز الأول، لإدراكه أهمية التعليم والاستثمار في الإنسان، وفي اقتصاد المعرفة. وإنَّ وجود حوالى 30 % من الإناث بين المبتعَثين، حتى مع «محارمهنّ»، هو علامة فارقة على التغيير المجتمعي الذي سعى إليه الملك، طوال حياته. وقد احتلت المملكة المرتبة 28 بين أفضل نظام تعليم عالٍ في العالم. وحلّت كذلك في المرتبة 52 في التحوّل إلى مجتمع المعرفة من بين 178 دولة. كما احتلت المرتبة 18 من بين 144 دولة، وفق مؤشّر التنافسية الصادر عن «المنتدى الاقتصادي العالمي» العام 2013م (The World Economic Forum =WEF) اللواء الركن؛ الهيئة العامَّة للاستثمار المملكة).
****
وبالانتقال إلى الملك عبدالله، كرجل حوار وثقافة، الذي بدأه في «الجنادرية» وفي منتديات «مكتبة الملك عبدالعزيز العامَّة» في الرياض، فمن الواضح، أنَّ الهدف كان الوصول إلى «مثلث الحوار»: «الحوار الوطني السعودي» منذ العام 14248هـ/2003م، والحوار بين أتباع المذاهب منذ العام 1428هـ/2007م، والحوار بين أتباع الأديان والثقافات منذ العام 1429هـ/2008م، وبذلك أسّس الملك نهجًا جديدًا في العلاقات المجتمعية السعودية وفي علاقات المملكة بدول العالم.
بالنسبة إلى الداخل، لا شكَّ أنَّ العاهل السعودي أدرك، منذ ما قبل حادثتي نيويورك وواشنطن، أنَّ الإرهاب ينبثق من ثقافة جهل مجتمعية، تقوم على الكراهية والتطرّف والغلوّ ورفض «الآخر» – حتى استئصاله. من هنا، أعطى النُخب السعوديين من كلِّ الاتجاهات الثقافية والفكرية، مذاهب مختلفة ورجال ونساءً، الفرصة، للمرّة الأولى في تاريخ المملكة، للجلوس معًا والتحاور العلني على أمور طموحة، فاقت، في بعض الأحيان، قدرات المجتمع والسلطة السعوديين على الاستجابة لها، واعتُبرت محرّمة، حتى حينه (Thompson 61, 69-70)، وأهمها مناقشة مسائل سياسية، والثقافة المجتمعية، والنظرة إلى «الآخر»، والدمج المجتمعي.
ومن اللافت، أنَّ الملك عبدالله دعا إلى جلسات الحوار رجال دين وأكاديميين ومثقفين متطرّفين في مواقفهم من «الآخر»، كما إصلاحيين متشدّدين في تصوّراتهم، كالدكتور زهير كتبي الذي شارك في لقاءات كهذه، ليقول للملك بشكلٍ غير مباشر، إنَّ الحوار الذي يأتي «من فوق»، من وجهة نظر الحاكم لامتصاص نقمة الشعب في «ربيع عربي»، كما أراد آل سعود لإبعاد شبحه عنهم، لا يجدي نفعًا، وإنَّه مجرّد «ديكور» للإصلاح، في ظلِّ الثقافة المجتمعية ضدَّ «الآخر» القريب، السعودي والشيعي، و«الآخر» البعيد، اليهودي والنصراني، والتنكّر لحقوق المرأة. لقد انتقد كتبي، بشدّة، تسلّط علماء الدين على عقول الناس، بأفكارهم القرن أوسطية وبخطبهم الطنّانة ضدَّ «الآخر» من على منابر الجمعة، واستعمال سلاح الفتاوى، وصولًا إلى «التكفير». فطالب آل سعود القبول بالمَلَكية الدستورية، وبفصل الحُكم عن مجلس الوزراء، فيكون المنصب الأخير لفرد من عامّة الشعب (الدكتور زهير كتبي).
صحيح أنَّ ما خلص إليه المنتدون، خلال اللقاءات الحوارية، على مدى سنوات من النقاشات ووضع التوصيات، لم يكن ملزمًا للملك، وربَّما كان متقدّمًا على قدراته. لكن أهمية الحوار الوطني، وبإرادة مَلَكية، أنَّه حرّك المياه الراكدة في المجتمع السعودي، من نقاشات وتواصل شخصي، وطرح الأفكار والآراء والحلول. وهذا أعطى العاهل السعودي معينًا للتعرّف إلى مطالب شعبه وحاجاته، وهذه الخُطوة لم يسبقه إليها أحد من قبل. وللمرّة الأولى، ينضمُ الشيعة إلى جلسات الحوار الوطني كشركاء في وطن، ويطرحون قضاياهم على المتحاورين. كذلك، انخرطت المرأة السعودية للمرّة الأولى، وبشكلٍ كثيف، في النقاشات الدائرة داخل لقاءات الحوار. ووفق أحد المراقبين، فإنَّ «مجرّد أنَّ السعوديين بدأوا بالنظر إلى أنفسهم وعلاقاتهم مع باقي العالم، اعتُبر ذلك أمرًا جديدًا وصحيًّا» (كشيشيان 137).
ومن الثابت أنَّ الحوارات الوطنية لم تكن مضيعة للوقت أو لإلهاء قوى المجتمع الحيّة، كما افترض البعض الذين يرددون هذه الفكرة عن بعضهم بعضًا، بل لوضع التصوّرات حول مستقبل البلاد في موضوعات شتّى، فكرية ودينية واجتماعية واقتصادية وإنسانية وصحيّة وسياسية ووطنية. فضمّت الحوارات، للمرّة الأولى، من جملة ما ضمّت، عناصر ليبرالية، وإسلاميين تقدميين، وقوميين وشيعة، يضغطون من أجل إحداث تغيير، طارحين أشكالًا مختلفة ومتناقضة للسعودية التي يريدون، من دون توسّل العنف، ومن دون تعارض مع الإسلام، وباحترام في الوقت نفسه لقيادة آل سعود للبلاد (ICG, Can Saudi Arabia)، وتحديدًا للملك عبدالله. ومن المؤكّد، أيضًا، أنَّ العاهل السعودي الذي اطّلع على النقاشات التي دارت داخل جدران اللقاءات، وما صدر عنها من توصيات، واستجاب للعديد منها، هو، في رأينا، يناقض ما توصل إليه البعض، من أنّ توصيات تلك المجالس واللقاءات كانت صرخة في وادٍ، ومجرّد حبر على ورق.
كان الملك يتوقّع، مسبقًا، انتقادات لاذعة حول جدّية الحوار لإخراج المجتمع من عنق زجاجة الفكر السلفي المتشدّد، وإمكان «تفتيح العقول»، وبالتالي تغيير النظرة المجتمعية إلى «الآخر» في الداخل، وتجاه «الآخر» في الخارج. من هنا، كانت النقاشات حول «الآخر» أكثر الموضوعات الخلافية جدلًا وحساسيّة، وتمسّ الثقافة المجتمعية في الداخل، وعلاقات السعوديين مع «الآخر» في الخارج.
وعشيّة اللقاء الوطني الخامس في أبها العام426هـ/2005م، كان الحوار الوطني وعلاقة «الأنا» بـ «الآخر»، مدار نقاش واسع في الإعلام، خارج قاعات المؤتمر. وقد أبدى عدد من الفاعليّات السعودية، لصحيفة «اليوم»، عدم إيمانه بقدرة الحوارات على تحقيق إصلاحات، عازيًا ذلك إلى أنَّ الأُسرة السعودية الحاكمة لا يمكن أنْ تعطي شيئًا، ينتقص من مركزها المهيمن على الحُكم والمجتمع، كما تغيير طبيعة العلاقات المجتمعية التي تجذّرت فيها التقاليد والأعراف والأفكار والنظرة السلبية إلى «الآخر» (الحوار الوطني الخامس).
لقد أبدت الطبيبة والكاتبة والمستشارة الاجتماعية ليلى أحمد الأحدب عدم تفاؤل بشأن الحوارات، معتبرة إياها قصورًا في الهواء، ليس لها أُسس راسخة في بنية المجتمع نفسه، وفي ثقافته وتربية أفراده. ورأت وجود ثقافة عدم احترام الاختلاف في المجتمع السعودي، فإذا كان «الآخر» غير مسلم، فهو كافر في نظر المجتمع، وإذا كان شيعيًّا، فهو مبتدع، وما يؤمن به هو «بدعة» (نقلًا عن: الحوار الوطني الخامس).
من هنا، طرحت الناشطة الشيعية وداد علي أبو السعود في الإعلام، سؤالًا محدّدًا حول «الآخر»: «هل هو الذي يعيش بعيدًا، ويختلف، عنّا، في الدين واللغة والتاريخ والتراث والتقاليد؟ أم الآخر الذي يعيش معنا، ويشترك معنا في كلِّ المعطيات المذكورة؟» فدعت قبل التطلّع إلى «الآخر» البعيد، إلى البدء بحوار «الآخر القريب» في المملكة، بمحاولات صادقة لبناء جسور صلبة، تقوّي الروابط بين أصحاب الدين والمصير الواحد. وعزت أبو السعود الصورة النمطية السلبية عن «الآخر» الشيعي التي تكونت في الأذهان على مرّ الزمن، إلى الجهل بـ «الآخر»، بسبب العزلة المكانية والزمنية عبر التاريخ، وما تراكم في الذاكرة من أفكار مشوّهة أو غير صحيحة، أو ناقصة بسبب هذه العزلة. يُضاف إلى ذلك، ما يحدث بين البشر من صدامات حول المصالح والتوجّهات الأيديولوجية. فطالبت بالانفتاح على «الآخر» في المجتمع السعودي، واعتبار ذلك «ثراءً»، يستوجب تعميق التبادل الثقافي والفكري والتعاون معه على كلِّ المستويات الثقافية والعلمية والسياسية. ويُفهم من كلام أبو السعود وجوب التحاور مع السعوديين الشيعة، والاعتراف بهم كمكوّن وطني مهمل، تاريخيًّا، من قبل المجتمع والسلطة، وبالتالي، تمتين الدمج والوحدة المجتمعية، بدلًا من شنِّ الحملات عليهم بالفتاوى، ومن على المنابر، وفي مناهج التعليم.
ومن جهته، طالب الناشط الحقوقي الشيعي جعفر محمد الشايب بوجوب أنْ يسبق الحوار مع «الآخر» نقد السعوديين لذواتهم، ولنظرتهم إلى أنفسهم، وما علق من أخطاء وملابسات وشوائب في «النحن»، واعتبار أنّه لا يمكن حلِّ مشكلة تصحيح النظرة والتعامل مع «الآخر»، ما لم يكن هناك قدرة على نقد الذات (نحن) بصورة موضوعية وصحيحة. وأضاف، «إنَّ هروبنا من فحص (نحن) وقراءتها، بكلِّ تجرّد، هو الذي يؤدّي إلى القفز على قضايانا ومشاكلنا، وإلقاء اللوم على الطرف (الآخر) والسعي إلى محاولة إصلاح (الآخر)، لاعتقادنا بأنَّ الخطأ والعيب فيه». والمعروف عن السعوديين، بشكلٍ عام، أنَّهم لا يمارسون نقد الذات بجدية وبعمق، ولا يقبلون بنقدهم من قبل الغير.
وأبلغ الشايب صحيفة سعودية بوجود طريقين لتصحيح العلاقة مع «الآخر»: «قبول (الآخر) كما هو، وبالطريقة التي هو عليها، من دون وضع شروط أو محدّدات مسبقة لتحسين العلاقة معه»، و«التوازن في النظرة للآخر (كذا) كما هو إنسان، بعيدًا عن أي محدّد آخر، ودون أفضلية لـ (نحن) عليه في أي شيء»، إلَّا بمقدار المؤهلات والكفاءات والإنجازات. باختصار، أراد الشايب القول إنَّ على المجتمع والسلطة السعوديين الإقرار بالتنوّع والتعدّدية، وفتح المجال أمام مختلف المكوّنات والاتجاهات للتعبير عن وجودها، بكلِّ حرّية، (الحوار الوطني الخامس). وبذلك، كان الشايب يلتقي مع الناشطة أبو السعود حول وجوب الاعتراف بـ «الآخر» الشيعي، كمكوّن وطني أساسي.
إنَّ التنّوع المذهبي والتعدّد الثقافي والفكري، وجدهما الشيخ الشيعي عبدالله اليوسف أمرين واقعين في المجتمع السعودي، وفي كلِّ مجتمع. ففتح باب الحوار على مصراعيه بين مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، والتركيز على نقاط الاتفاق، وتفهّم مسائل الاختلاف والخلاف وأسبابه الموضوعية، كلّها تُسهم، في رأيه، بفاعليّة في إرساء الوحدة الوطنية وتمتينها، وإثراء الساحة الفكرية الثقافية والعلمية في المملكة. أما غياب الحوار، فيؤدّي إلى الكثير من السلبيات؛ وفي مقدّمها إشاعة التطرّف والتشدّد والتعصّب، وانتشار ثقافة الكراهية بين أبناء الشعب الواحد (الحوار الوطني الخامس).
****
بالانتقال إلى توصيات اللقاءات الحوارية، لم يستجب العاهل السعودي، انسجامًا مع توصيات اللقاء الوطني الثاني، في مكّة المكرّمة، إلى «الإصلاح السياسي» المنشود. فلم يتجاوب مع عرائض الليبراليين التي تدعو إلى المَلَكية الدستورية، وإطلاق الحريّات العامّة، والحدِّ من نفوذ الأُسرة السعودية على مؤسّسات الدولة، وبخاصّة على مجلس الوزراء. فهو لم يكن ليبرالي التفكير والممارسة على النموذج الغربي، بل أراد الإصلاح، من داخل «مؤسّسة آل سعود» التي يمثّل، من دون أن يتأثّر مركزها في الحُكم، أو الاصطدام بمجتمع، كبّلته سلفيته وتقاليده وموروثاته وهيئاته الدينية. من هنا، فما أقدم عليه من تعيينات إدارية وتشكيلات ومناقلات في المراكز والوزارات والمؤسًسات، لا يندرج تحت شعار «الإصلاح السياسي» المنشود.
وبالنسبة إلى «حقوق المرأة» التي نوقشت في اللقاءين 3 و7، وتناولت وضعها كمرأة وأم وزوجة، وعملها وتعليمها ودورها في التنمية الاجتماعية، واحتلالها المناصب العالية، فقد استجاب العاهل السعودي لتلك التوصيات بالقدر الذي تسمح به السياسة المجتمعية، فوضع المرأة، تحت رعايته المباشرة، ورفع من شأنها، وأمَّن لها التعليم الجيد والابتعاث إلى الخارج، فضلًا عن توفير فرص العمل الخاصّة بها، وتأنيث الأعمال المهنية التي يمكن لها أن تبرع فيها، وفوق كلّ شيء أنْ تتمثّل في مجلسي الشورى والبلدية، وتشارك في قضايا الرأي العام، توازيًا مع إنشاء الأقسام النسائية في داخل المحاكم. صحيح أنّ أشياء كثيرة كانت لا تزال تنقص المرأة السعودية عشيّة وفاته، وتتطلّع إلى تحقيقها، كمساواتها بالرجل، ورفع سوط «المحرم» وولي الأمر عنها، ووقف السياسة المجتمعية ضدّها، وهي مسائل فاقت قدرات أيّ عاهل سعودي.
إنَّ توصيات اللقاء الوطني السادس بالجوف العام 1429هـ/2008م القاضية بوضع «استراتيجية تعليم وطنية شاملة»، ظهرت إلى النور، بفضل همّة الملك. فحقّقت المملكة خطوات مقبولة لتحديث المناهج والمقرّرات المدرسية والجامعية، واعتماد أساليب جديدة لتطوير التعليم، وقامت بتأسيس الجامعات بمعايير الجودة الرفيعة والتجهيزات، وأرسلت البعثات للتخصّص في الخارج. وإنَّ تبوؤ أربع جامعات سعودية مراتب رفيعة في التصنيفات الدولية للجودة، هو ترجمة لهذا المطلب الذي وجد استجابة حثيثة من قبل العاهل السعودي. لكن منظّمات حقوق الإنسان ظلّت تعتبر أنَّ مناهج التعليم السعودية لا تزال تحتفظ بمواقف سلبية من «الآخر»، وإنْ حصل شيء من التقدّم في هذا المجال.
أمّا «العمل والتوظيف»، محور اللقاءين الوطنيين 4 و7، فأشّرا إلى سياسة الملك في إيجاد الحلول لهما بـ «السعودة»، وطرق مجالات عمل جديدة للشباب السعودي المتعلِّم. من هنا، نفهم الهدف من مشروع بناء 40 مدينة صناعية في المملكة، لتأمين الوظائف، وفي الوقت نفسه، التحوّل إلى مجتمع صناعي. لكن عدم نجاح منظومة «السعودة»، رغم كلِّ الإجراءات والقرارات الحكومية المتخذة للحدِّ من توظيف الأجنبي في القطاع الخاصّ، كما أراد العاهل السعودي، تبقى مسؤولية الدولة والقطاع الخاصّ. إنَّ تفضيل القطاع الأخير توظيف الأجنبي على السعودي، يعود، كما سبق الذكر، إلى مهارته وإنتاجيته وخضوعه لرب العمل. لذا، على الحكومة السعودية أنْ تعمل على تدريب السعوديين على قيمة العمل والإنتاجية.
وفي موضوع «الصحّة»، استجاب الملك لتوصيات اللقاء الحواري الثامن، بالاهتمام بها وبجودتها، وتوفير المستشفيات النوعية على مساحة المملكة، وكذلك المراكز الطبيّة. كما التأمين الصحّي الخاص لجميع أفراد الشعب. ولم ينس «مصالح الشباب»، وفق توصيات اللقاءين 4 و6، فوضعهم، في صلب اهتماماته، من ناحية تأمين التعليم العالي الجيّد والنوعي لهم، وإرسال البعثات الطلابية إلى أرقى الجامعات في العالم، وتشجيع القطاع الخاصّ على الاهتمام بتوظيف الخريجين منهم حملة الشهادات العليا.
وفي ما يتعلّق بـ «التطرّف والإرهاب»، استجاب الملك لتوصيات اللقاء الوطني العاشر الذي شمل كلّ مناطق البلاد، بمناصحة المغرّر بهم، وتأمين محاكمات عادلة لهم أمام القضاء السعودي. لكن برنامج المناصحة هذا ثبت فشله، بسبب تمسّك الفئات الإرهابية بأفكارها المتحجّرة من جهة، والثقافة المحدودة للقيّمين على البرنامج، وأساليبهم التقليدية في التثقيف السياسي للمناصَحين من جهة أخرى. إنَّ انفراد الأُسرة السعودية بالحُكم، وما يُقال حول تورّط أفراد منها في الفساد، وسوء توزيع الثروة الوطنية، وخضوع السعودية للإملاءات الأمريكية، قد تكون أسبابًا للتطرّف الفكري. وعشيّة قيام التحالف الدولي ضدَّ الإرهاب العام 1435هـ/2014م، اعترف الملك عبدالله، أنْ لا سبيل لمكافحته، من دون استخدام القوّة.
أمّا بالنسبة إلى «التفاعل مع الثقافات العالمية الأخرى، والنظرة إلى «الآخر» غير المسلم واحترامه، ومحاربة التطرّف والغلوّ في المجتمع السعودي (اللقاءان 5 و10)، فقد استهل الملك عبدالله برنامجه بالحوارات بين أتباع الأديان والثقافات، بدءًا من العام 1428هـ/2007م: في الفاتيكان ومدريد ونيويورك وباريس وجنيف وفيينا، وقد سبقها، بسنوات قليلة، حوار غير مباشر بين المثقفين الأمريكيين والسعوديين حول تداعيات حادثتي نيويورك وواشنطن، وحوارات مع اليابانيين. إلى ذلك، انعقدت عشرات الندوات الحوارية المتخصّصة في بلدان إفريقية وآسيوية وأمريكية جنوبية. أراد الملك السعودي من خلالها الانفتاح على المجتمعات والثقافات غير الإسلامية، والردّ على ما تسبّبت به حادثتا جمادى الثانية العام 1422هـ/2001م من أذى للمسلمين والمسيحيين، وعلى الإسلام من تداعيات وحملات، عبر تأكيد سماحة الدين الإسلامي ومبادئه السامية في التعايش في عالم متنوّع، بعيدًا عن الأعمال المشينة التي تُرتكب باسمه.
ومن الواضح، أنَّ كلّ هذه الحوارات، أكّدت استراتيجية الملك لتحقيق السلام الفكري والإنساني بين مكوّنات المجتمع السعودي، وبين أتباع الأديان والثقافات، وأيضًا بين أتباع المذاهب على مساحة العالم، بعدما وجد أنَّ المجتمعات البشرية قد تباعدت عن بعضها بعضًا، وأضحت في أمسّ الحاجة إلى عملٍ مشتركٍ للتقريب بين مكوّناتها وأديانها وثقافاتها ومذاهبها. فكلُّ الأديان والمذاهب، وفق رؤيته، لا تقبل بالظلم والعدوان، وإنَّ من يرتكبون الأعمال الإرهابية يناسبهم ردّها إلى الإسلام، وكذلك شركاؤهم متطرّفو اليمين في أوروبا الذين يردّون أفعالهم إلى المسيحية، والصهيونية التي تتلطّى وراء اليهودية، وهذا يستوجب، في رأيه، أنْ يكون الردّ عليهم بالفكر والعقل. من هنا، أتت فكرة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات التي جعلها خادم الحرمين الشريفين منهجًا ثابتًا له للوصول إلى السلام العالمي والتعايش بين الشعوب.
وتكمن أهمية «مثلث الحوار» (الإسلامي – المسيحي – اليهودي) للملك عبدالله، أنَّه أتى من قلب الإسلام ومن شخصية إسلامية لها احترامها الدولي. فهو الذي أوجد إطارًا مؤسَّساتيًّا وبحثيًّا للحوار، على ألَّا تبقى نتائجه محصورة في داخل قاعات المؤتمرات، أو مقتصرة على شرائح فكرية معينة وأوراق بحثيّة، بل بنقل ثقافة الحوار إلى الرأي العام وإلى الشارع، وفق آليات فكرية وثقافية وتربوية واجتماعية وإعلامية، أي «تفتيح العقول» و«تشريب» الملايين من البشر ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر. عندها تتحقّق رغبته في أنْ ينبثق عالم، تنفتح أديانه وثقافاته على بعضها بعضًا، ويتراجع فيه العنف والإرهاب.
وعلى الرغم من أنَّ استطلاعات أشارت إلى اهتمام الرأي العام السعودي بما يدور في لقاءات الحوار، لكن الجلسات التي عُقدت في داخل البلاد ظلّت ضعيفة التأثير، ولم تُترجم تغييرًا في الأفكار المجتمعية. والسبب الرئيس في ذلك، أنَّ اللقاءات اقتصرت على النُخب، فيما ظلَّ رجال الدين المتشدّدين، يطبعون المجتمع بأفكارهم «الجهادية». لقد رفض غالبية علماء الدين الحوار مع المثقفين الأمريكيين، عقب حادثتي نيويورك وواشنطن، وأصرّت على «الجهاد» ضدَّ «الآخر». فدعوة مفتي عام السعودية، إلى قتال الإرهابيين إذا قاتلوا المسلمين، واعتبار «لقاء أبها»، العام 1426هـ/2005م، أنَّ «الجهاد» «آليه دفاعية، بعد أنْ تعرّض المسلمون للاعتداء بسبب إيمانهم»، تنمّان عن عدم مبالاة أخلاقية أو إنسانية، لمصير غير المسلمين الذين يتعرّضون للإرهاب، الزاحف على مجتمعاتهم من الخارج، أو المتفجّر من داخلها، وتدلان على أنَّ فكرة «الجهاد» والفتوحات الإسلامية ظلّت تفعل فعلها في عقول فئات من المجتمع السعودي. من هنا، لا يكفي التنديد الإسلامي الخجول بالإرهاب، عندما يضرب «الآخرين» المسيحيين، واعتباره لا يمت إلى الإسلام بصلة، بل يجب على الدول الإسلامية والمؤسسات والجمعيات والتنظيمات الإسلامية التخلّي عن سباتها، وتنظيم حملات إعلامية واجتماعية وتربوية هجومية ضدّه، والتأكيد أنَّ ما يقوم به يتعارض مع الإسلام، حتى إصدار الفتاوى بذلك. وفي ضوء «السلبية الإسلامية» هذه، فليس مفاجئًا أنْ يفشل برنامج المناصحة في استخراج «سموم» الإرهاب التي عشّشت في عقول المضلّلين.
****
صحيح أنَّ أهداف العاهل السعودي لاجتثاث الإرهاب لم تتحقّق على الفور عبر تضافر جهود المجتمع الدولي، في ضوء تهديد «القاعدة» للأمنين السياسي والمجتمعي لليمن من جهة، وسقوط ذلك البلد العربي تحت سيطرة الحوثيين المدعومين من قبل إيران، والحرب المدمرّة التي تشنّها التنظيمات الإرهابية المسلّحة على الحكومة الليبية، وعلى مصر كذلك، وسيطرة «داعش» على أجزاء واسعة من العراق وسورية، وتدخّلها بقوّة في الحرب في سورية، وآخرها سيطرتها على محافظة الرقّة السورية. لكن استنهاض الملك عبدالله المجتمع الدولي لعمل مشترك ضدَّ الإرهاب، أثمر في آخر الأمر، وإنْ متأخرًا، بتشكيل «التحالف الدولي» الذي يعمل على مواجهة الإرهاب، كما «التحالف العربي» (عاصفة الحزم وإعادة الأمل) التي يقودها الملك سلمان دفاعًا عن الأمنين القومي السعودي والعربي ضدَّ إرهاب إيران ومشاريعها في المنطقة.
وبفضل الحوارات بين أتباع الأديان والثقافات، على مدى سنوات، ونجاح الملك عبدالله في الانفتاح على السياسات والمجتمعات الغربية، فقد تغيّر الكثير من الأفكار والمواقف السلبية التي تكوّنت لدى الغرب تجاه الإسلام والبلدان الإسلامية، على أثر حادثتي نيويورك وواشنطن، على الرغم من أنَّ الحوارات مع الخارج، كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الاعتداءات الإرهابية على المجتمعات المسيحية والإسلامية. فكان الإرهاب يقتل غير المسلم باسم الإسلام، ويقتل المسلم، في الوقت نفسه، باسم الإسلام.
وعشيّة تشكيل «التحالف الدولي» لمحاربة «داعش» العام 1435هـ/2014م، اتصل الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالملك السعودي، وناقش معه تفاصيل الإعلان عن التحالف، وصرّح الرئيس، ومعه قادة أوروبيون، أنَّ محاربة تنظيم «داعش» لا علاقة لها بالإسلام كدين، ولا بالبلدان الإسلامية، وإنَّ التنظيم الإرهابي لا يمثّل مبادئ الإسلام. وعقب العملية الإرهابية ضدَّ صحيفة «شارلي أيبدو» (Charlie Hebdo) الباريسية الساخرة التي تناولت في ربيع الأول العام 1436هـ/يناير 2015م، برسومها المستفزِّة، نبي المسلمين محمد، صرّح الرئيس الفرنسي بأنَّ «الذين ارتكبوا هذه الأعمال الإرهابية، هؤلاء المتعصّبين لا علاقة لهم بالدين الإسلامي» (نقلًا عن: جريدة النهار 10/1/2015م).
إنَّ «حياكة» التحالف العسكري الدولي ضدّ الإرهاب في مؤتمر جدّة أولًا، ومشاركة دول عربية وإسلامية فيه، دليل على أنَّ المجتمع الدولي أصبح يفصل ما بين الإسلام والإرهاب. ويعود الفضل في ذلك إلى الملك عبدالله الذي استطاع بنهجه الحواري إقناع المجتمع الدولي، على مدى 13 عامًا من وقوع حادثتي نيويورك وواشنطن، بأنَّ الإسلام، كدين، يدعو إلى الاعتدال والوسطية، ولا علاقة له بالإرهاب الذي يقتل، ويدّعي أنَّه يفعل ذلك باسم الإسلام. صحيح أن المصالح السياسية والاقتصادية تتقدّم على الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية بالنسبة إلى الدول، لكن الغرب المسيحي أصبح بإمكانه أنْ يميّز بين الإسلام كدين، وبين إرهابيين يقتلون ويذبحون، ويدّعون أنَّهم يفعلون ذلك باسم الإسلام. وأصبحت السعودية، التي كان خمسة عشر من مواطنيها ضمن الانتحاريين التسعة عشر الذين فجّروا طائراتهم في نيويورك وواشنطن، في صلب التحالف للقضاء على الإرهاب (راجع مقال: Shane السعودية والتطرّف). لكن تنامي الإرهاب ضدَّ المجتمعات الغربية، عبر أشخاص مسلمين، رفع من السلبية ومن مستوى الاحتقان فيها ضدَّ كلّ ما له علاقة بالإسلام والمسلمين. والدليل على ذلك، هو استقواء اليمين المتطرّف في بعض البلدان الأوروبية ضدّ كلّ ما يتصل بالإسلام والمسلمين، انطلاقًا من مقولة «صراع الحضارات».
وهناك سؤال افتراضي: كيف يمكن أنْ نتصوّر مركز المملكة في الدائرة الدولية، لو أنَّ الملك عبدالله لم يسلك نهج الحوار بين أتباع الأديان والثقافات؟ من المؤكّد، أنَّ الصورة ستكون قاتمة مختلفة عمّا هي عليه، عشيّة قيام «التحالف الدولي»، ولن تكون في صالح الدولة والمجتمع السعوديين. فالمسألة ليست في مبيعات النفط السعودي وعائداته وحاجة الأسواق الدولية إليه، بل هي أعمق وتمسّ نظرة العالم إلى المجتمع السعودي وحكومته. فلولا لم تعتمد نهج الحوار، مع العالم، لكانت وجدت نفسها معزولة ضمن «دائرة الإرهاب»، والشكر والثناء لهذا التحوّل في الموقف الدولي، هو، أولًا وأخيرًا، للملك عبدالله.
****
لقد تصدّر الملك عبدالله الزعماء العرب والمسلمين في الدفاع عن العالمين العربي والإسلامي، وفق رؤية لا تفصل بين الاثنين بعضهما عن بعض. فالسعودية دولة عربية، والإسلام عقيدتها، وأماكنه المقدّسة في حضنها وملوكها خدّامها. وتتجسّد عروبتها في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلّة ذات سيادة، ورفض الاستيطان الإسرائيلي في الضقّة الغربية والقدس الشرقية. وكلّ ذلك بوسائلها التقليدية المعروفة غير العسكرية. صحيح أنَّ السعودية نهجت طريق السلام للوصول إلى دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة، من خلال مبادرتين على التوالي لوليّي العهد حينذاك فهد وعبدالله، خلال العامين 1401 و1423هـ/ 1981 و2002م رفضتهما إسرائيل، إلَّا أنَّ دبلوماسيتها كانت تتحرّك وفق قناعاتها السياسية في الدفاع عن القضية، وتقرنها بقوّتها المالية لدعم صمود الشعب الفلسطيني.
وقد فرض «الربيع العربي» على الملك عبدالله تحدّيات جمّة، بأنْ يقود المحور العربي، ويتعامل مع عواصف المنطقة العاتية بموضوعية لمواجهة أربعة محاور مضادّة:
1) المحور الإسرائيلي التي يبتلع الأرض والهوية العربية في فلسطين.
2) المحور التركي الذي يسعى إلى بناء حلف إسلامي إخواني سُنّي.
3) المحور الإيراني الذي يعمل على فرض هيمنة شيعية على المنطقة العربية، سياسيًّا ومجتمعيًّا، وبالتالي وضع شبه الجزيرة العربية جيوسياسيًّا، والسعودية بشكلٍ خاصّ، بين أكثر من فكّي كماشة من ناحيتي الخليج العربي والبحر الأحمر، ومن العراق واليمن، بهدف فرض «هيمنة فارسية» من ضفاف المتوسّط إلى ضفاف باب المندب.
4) الإرهاب الذي يضرب المنطقة والعالم، ويشكّل تهديدًا للاستقرار والسلم. فكان العاهل السعودي، كما ذكرنا، وراء قيام «التحالف الدولي» لمحاربته والقضاء عليه.
من هنا، وجد الملك عبدالله نفسه منخرطًا في الدفاع عن بلاده والمنطقة العربية. فدعم اليمن التي تمثّل العمق السعودي والعمق العربي، حكومة وشعبًا، ضدَّ أدوات «الولي الفقيه» من الحوثيين، وقبل ذلك البحرين ضدَّ أتباع إيران رافعي صور الخميني وخامنئي وحسن نصرالله وأعلام «حزب الله»، خلال تحرّكاتهم المشبوهة، خارجًا بذلك عن نهج تقليدي للسياسة الخارجية السعودية بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واعتماد الدبلوماسية الهادئة وتحريك الأموال في تعاطيها الإقليمي والدولي. فأصبحت سياستها الخارجية تقوم على المواجهة وملاحقة أنشطة إيران على مساحة الوطن العربي، واستخدام القوّة في سبيل الدفاع عن الأمن الوطني السعودي والأمن القومي العربي. أخيرًا، شنّ الملك سلمان بن عبدالعزيز ودول عربية عملية «عاصفة الحزم» لإعادة الأمن والاستقرار إلى اليمن. كلُّ ذلك، بدلًا من أنْ يكون الجهد الإسلامي منصبًّا على القضية الفلسطينية، وعلى مساعي إسرائيل لابتلاع كلّ فلسطين العربية.
لقد أظهر استطلاع مع 506 مواطنين سعوديين أجرته «جامعة ويسكونسن ميلووكي» (University of Wisconsin-Milwaukee) في شعبان العام 1436هـ/أواخر أيار 2015، أنَّ المخاوف السعودية، تجاه نشاطات إيران في المنطقة، لا تقتصر على الجانب الرسمي؛ فهناك نسبة 53 % من المستطلَعين يعتبرون إيران عدوهم الأكبر، فيما حلَّ «داعش» في المركز الثاني بنسبة 22 %، وأتت إسرائيل، العدو الأكبر، في المرتبة الأخيرة بنسبة 18 %. وهذا يدعو إلى الأسف بأنْ يتراجع مركز القضية الفلسطينية في وعي الجماهير العربية إلى درجة متدنّية، وتصبح إيران هي «العدو الأكبر»، وتتقدّم على «الإرهاب» وإسرائيل.
وقد رأى معظم المستطلَعين السعوديين أنَّ على حكومتهم أنْ تسعى إلى امتلاك السلاح النووي، إذا ما فعلت إيران ذلك (Survey: Saudis Consider Iran). من هنا، نفهم التأييد الشعبي العارم لعاصفة الحزم التي لم يعرف مثلها الوطن العربي، منذ العام 1393هـ/1973، وتتعلّق بالجيوسياسة وبالأمن القومي العربي الذي اختلّ بسبب «السرطان» الإيراني المتفشّي في الوطن العربي. فالتحالف العربي القائم الآن (عاصفة الحزم، وإعادة الأمل) يجب ألَّا يكون ردّة فعل على التطوّرات والأحداث التي تدور حول الجغرافية السعودية، وإنَّما لخلق معادلة استراتيجية – جيوسياسية جديدة، تقوم على المصالح الوطنية والقومية والردع والإمساك بزمام المبادرة، والبعث برسالة إلى طهران بأنَّ العرب لن يسمحوا باستهداف أمنهم، بعد اليوم.
كما ساندت السعودية سُنّة العراق في وجه أكثرية شيعية دأب نظام صدّام حسين على تهميشها، فأضحت تميل إلى إيران، وتعمل على تقليص دورهم. والحال نفسها في لبنان، بعدما جعله «حزب الله» جيبًا للولي الفقيه على المتوسّط. وفي سورية، دعمت الرياض معارضتها، وكان معنى سقوط النظام السوري انفراط «القوس الشيعي» من الوسط، وهو ما جعل ملالي طهران وأتباعهم في العراق ولبنان يؤازرون نظامًا شموليًّا دمويًّا في دمشق. حتى «حماس» في غزّة، استفادت إيران منها لخرق التماسك الفلسطيني – الفلسطيني بمقولة كاذبة، وهي محو إسرائيل من الوجود.
بناء على ما تقدّم، نفهم التعقيدات الإقليمية، سياسيًّا واستراتيجيًّا وأمنيًّا التي وجدت السياسة الخارجية السعودية نفسها فيها، خلال عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وفي زمن «الربيع العربي» تحديدًا. صحيح أنَّ شعور العروبة المعروف لدى الملك عبدالله، من الأسباب التي جعلته، يساند الثورة المصرية الثانية، لمساعدة شبّان مصر وشاباتها وجيشها على الإطاحة بنظام «الإخوان المسلمين»، إلَّا أنَّ الصحيح أيضًا أنَّ خيبة أمله من انتصار الثورة السورية عسكريًّا بسبب اللامبالاة الأمريكية، وفقدان حليفه الرئيس حسني مبارك، كانا وراء دعمه عودة العسكر إلى حُكم مصر. من هنا، سعى لإيجاد قواسم مشتركة للتحالف مع مصر عبد الفتاح السيسي، وتكوين جبهة، تتصدّى للإرهاب المتفشّي في المنطقة وتأمين الاستقرار لها، وبخاصّة بلديهما، إلى جانب حماية الأمن القومي العربي من طموحات إيران التي تتحقّق تدريجيًّا على الأرض. صحيح أنَّ مصر السيسي قابلت اندفاع الملك عبدالله، نحوها، بأذرع مفتوحة، وتلقّت منها مليارات الدولارات من المساعدات والهبات، إلَّا أنَّ مصر لا يمكنها أنْ تؤدي دور التابع للسعودية على المستويين الإقليمي والدولي. من هنا، طرأء مدّ وجزر في العلاقات بين الدولتين.
ولا حاجة إلى استعادة الأرقام المالية التي تثبت مناصرة المملكة للفلسطينيين في الضفّة والقطاع، وفي بلدان الشتات العربية. فقد سخّرت قوّتها المالية لدعم الحقوق العربية، حتى إنَّ أحد الصحفيين، كما ذكرنا في سياق الكتاب، شبّه دعم المملكة لبنان خلال حرب إسرائيل عليه، العام 1427هـ/2006م بمليار دولار أميركي {3.75 مليارات ريال} وديعة لدى «مصرف لبنان»، ونصف مليار {1.87 مليار ريال} هبات، بمثابة تحريك جيش وإعلان حالة التأهّب القصوى لخوض الحرب. وأضاف يقول: «هذا هو السلوك السعودي التقليدي، وذلك هو السلاح السعودي الاستراتيجي، الذي يُستخدم في هذه اللحظات الحرجة من أجل تعديل موازين القوى في لبنان» (نور الدين، محطّة). لكن التعاطي السعودي مع الخارج تغيّر منذ «الربيع العربي»، عندما أخذت إيران تنخر بنان المجتمعات العربية وأنظمتها بتدخلاتها لدى الشيعة، لتحويل ولائهم إلى «الولي الفقيه» ضدَّ حكوماتهم. ومنذ تلك اللحظة، وتحديدًا منذ التدخل الإيراني في البحرين، بدأت المملكة تقرن قوّة المال بقوّة السلاح.
وقد يكون لافتًا للغاية، تعهّد الملك عبدالله، عشيّة رحيله، بتقديم مبلغ 22.7 مليار دولار {85 مليار ريال} إلى 9 بلدان عربية «حليفة» مجاورة بين شهري المحرّم العام 1432 وجمادى الثانية العام 1435هـ/يناير 2011 وأبريل 2014م هي: مصر واليمن والأردن والبحرين وعُمان وفلسطين والمغرب والسودان وجيبوتي، من أجل ضمان استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولا يدخل، ضمن هذا الرقم، ما قدّمته المملكة إلى الأردن من مساعدات، قُدّرت بـ 10 مليارات دولار أمريكية {37.5 مليار ريال}، ولا إلى اللاجئين السوريين (Koch, 37 and no. 14). كما لا تدخل مليارات الدولارات الأربعة {15 مليار ريال} التي منحها الملك عبدالله للبنان خلال العام 1435هـ/2014 لتسليح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ضمن مبلغ الـ 22.7 مليارات دولار (عادت حكومة الملك سلمان وجمّدت الهبة للجيش اللبناني). وقد أنفقت السعودية من مبلغ 22.7 مليارات دولار 10.9 مليارات دولار {41 مليار ريال}، ذهب معظمها إلى مصر.
لقد حلّت مصر على رأس الدول العربية المتلقّية للمساعدات السعودية بقيمة 6.5 مليارات دولار (29 %)، تلتها اليمن 3.8 مليارات (17 %)، والأردن 3 مليارات (13 %)، والبحرين 2.8 مليار (13)، وعُمان 2.5 مليار (11 %)، وفلسطين 1.8 مليار (8 %)، والمغرب 1.6 مليارات (7 %)، والسودان 527 مليون دولار (2 %)، وجيبوتي التي حصلت على 68 مليون دولار، أي أقلَّ من 1 % من مجموع المبالغ السعودية المرصودة (67 مليار دولار).
ويوضح الجدول (44) إجمالي التقديمات السعودية الخارجية بين الأعوام 1410 و1435هـ/1990 و2014م (252 مليار ريال)، {67.2 مليار دولار أمريكي} (252 مليارًا مساعدات سعودية). وقد ارتفعت المساعدات الخارجية السعودية، بشكلٍ ملحوظ، منذ مطلع القرن الجاري، وبلغ أعلى رقم لها خلال العامين 1429و1430هـ/2008 و2009م، أي أنَّ المملكة حاولت خلال الأزمة المالية العالمية أنْ تخفّف من تداعياتها على البلدان النامية.
جدول (44)
المساعدات الخارجية السعودية للأعوام 1990 – 2014م
العام | مليار ريال | مليار دولار |
1990 | 17 | 4.6 |
1991 | 7 | 1.9 |
1992 | 4 | 1.0 |
1993 | 3 | 0.8 |
1994 | 2 | 0.6 |
1995 | 3 | 0.7 |
1996 | 3 | 0.7 |
1997 | 2 | 0.5 |
1998 | 4 | 1.0 |
1999 | 6 | 1.6 |
2000 | 9 | 2.5 |
2001 | 9 | 2.5 |
2002 | 10 | 2.7 |
2003 | 11 | 2.8 |
2004 | 7 | 1.9 |
2005 | 4 | 1.1 |
2006 | 8 | 2.2 |
2007 | 8 | 2.2 |
2008 | 21 | 5.7 |
2009 | 15 | 4.1 |
2010 | 14 | 3.7 |
الإجمالي | 167 | 44.5 |
من يناير 2011 حتى أبريل 2014 | 85 | 22.7 |
الإجمالي | 252 | 67.2 |
المصدر: «252 مليارًا مساعدات سعودية خارجية خلال 24 عامًا».
صحيح أنَّ تقديمات المملكة المالية إلى العالمين العربي والإسلامي تتوافق، في العادة، مع توجّهات سياستها الخارجية، إلَّا أنَّه ما من دولة في العالم دعمت العرب والمسلمين بالقدر الذي فعلته المملكة العربية السعودية، وخصوصًا في عهد الملك عبدالله، وسجلها حافل بذلك؛ من مساعدات تنموية، والوقوف إلى جانبهم في الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، والدفاع عن حقوق الأقليات المسلمة. على أنَّ أهم ما تقوم به بالنسبة إلى العالم الإسلامي، هو رعاية الأماكن المقدّسة في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة وتوسيعهما، والمشاعر المقدّسة وتطويرها، وهذه أمانة اعتبر خدَّام الحرمين الشريفين، ملوك السعودية، أنَّهم مسؤولون عنها منذ تأسيس دولتهم. وقد رأينا كيف أنَّ الملك عبدالله، ومن سبقه من أشقائه الملوك، أثبتوا، بجدارة، خدماتهم للحرمين الشريفين وللمشاعر المقدّسة عبر الانجازات الضخمة التي قاموا بها. وما صرُف من أموال على خُطط التوسعة والتطوير في الحرمين الشريفين وفي المشاعر المقدّسة، يؤكّد أهدافهم، من وراء كلّ ذلك، وهو نيل ثواب الله ورضاه، وتسهيل الحجّ على ضيوف الرحمن.
****
وفي رأينا، أنَّ أهمّ ما قام به خادم الحرمين الشريفين، أنَّه قطع خطوة الألف ميل على طريق إخراج المجتمع السعودي من «عنق زجاجة» التقاليد والأعراف والأفكار المتحجّرة التي يجري خلطها عمدًا بمبادئ الدين، وبالسياسة المجتمعية، لإبقاء المرأة والمجتمع مكبوتين، تحت مظلّة سلطة رجال الدين وأصحاب الأفكار الخشبية التي لم تعد تتماشى مع العصر، وعلى خلفائه إكمال المشوار. لقد أسّس الملك عبدالله نهجًا إصلاحيًّا رياديًّا، يقوم على التنمية المستدامة بشموليتها وأبعادها الاستراتيجية، بحيث لن يستطيع أحد أنْ يأتي، من بعده، ويزيح بسهولة عن طريق الإصلاح.
أخيرًا، لقد ثتبت صحّة الفرضيّات التي طرحها الكتاب. فالمجتمع السعودي لا يزال يحتفظ بأفكار وتقاليد عتيقة، يغذيها رجال الدين، ولم يستطع الملك أنْ يستبدلها بما يتماشى مع العصر. وصحيح أيضًا أنَّ الأداء الحكومي وكفاءته وإنجازه، في سياق العمل الخدماتي المؤسّساتي، لا يزال من دون إمكاناتِ الدولةِ الضخمةِ، وينقصه الكثير في نواحي الاقتصاد والتعليم والتدريب والإعلام، كي ينخرط في عصر العولمة (عبدالعزيز الدخيل، 33 – 36). وفي نهاية المطاف، لم تتحوّل المملكة إلى دولة مؤسّسات ديمقراطية وعدالة في توزيع الثروة، ولا يزال ينقضها الكثير في مجال الحريّات العامَّة والدينية وحقوق المرأة والأقليات. مع ذلك، ليس من الانصاف وصف كلّ ما أنجزه الملك عبدالله من إصلاحات بأنَّه كان «ذا طابع رمزي بحت» أو مضيعة للوقت (Derbal 22).
لقد نجح الملك نجاحًا باهرًا في الموضوعات التي لا تمسّ تقاليد المجتمع السعودي وأعرافه، فوضع المملكة في مركز متقدّم بين دول العالم بالإنجازات الاقتصادية والتعليمية والصحيّة والإسكانية التي تحقّقت، ومن سيأتي من بعده، عليه أنْ يسير قدمًا في طريق اقتصاد المعرفة ومجتمع المعلومات والاتصالات. وفي العلاقات الدولية، تمكّن من أنْ ينتزع من العالم احترامًا وتقديرًا لبلده وموقعه كدولة كبيرة وقوّة إقليمية عظمى لها كلمتها وتأثيرها في السياسات الدولية.
يوجز الجدول (45) إنجازات استراتيجية وسياسات وتقديمات غير مسبوقة، تحقّقت في عهد الملك عبدالله، وهي تشكّل «ورشة عمل» كبيرة قد لا يلحظها المرء في مكان آخر، نفّذت في زمن قياسي.
جدول (45)
ملخّص إنجازات وسياسات وتقديمات الملك عبدالله بن عبدالعزيز
58 جامعة وكلّية، عدد منها وفق أرقى المواصفات الأكاديمية والبحثية الدولية، من ضمنها أول جامعة للإناث في المملكة. |
200,000 مبتعث ومبتعَثة على مقاعد الدراسة في أرقى الجامعات الدولية. |
مؤسَّسات لرعاية الموهوبين والمبتكرين، وجوائز تكريم، وجمعيات علمية لمساندة العلماء والعالمات، وربط الاختراع بالاقتصاد والصناعة، وإنشاء كراسي بحوث في الجامعات. |
الاهتمام بالثقافة وثقافة الحوار: الجنادرية ومكتبة الملك عبدالعزيز العامَّة ومؤسَّسة الملك العزيز للدراسات الإسلامية والإنسانية – المغرب، وخدمة اللغة العربية والترجمة، وإطلاق جوائز للتشجيع على الثقافة، ومدّ جسور التواصل مع «الآخر». |
500 ألف وحدة سكنية تغطي مناطق البلاد ومحافظاتها، تُنجز تباعًا في السنوات القادمة. |
تقديمات غير مسبوقة لمست كلّ نواحي الحياة الاجتماعية. |
40 مدينة صناعية في عمق الصحراء، أُنجز بعضها، وبعضها الآخر قيد الإنشاء. |
132 مستشفى جديدًا تضمّ 33 ألف سرير، و5 مدن طبيّة. |
حكومة إلكترونية وخدمات تعليم إلكترونية. |
تعزيز وضع المرأة السعودية، اجتماعيًّا وعلميًّا ووظيفيًّا، من دون إحداث كسر حاد في التقاليد والأعراف المجتمعية. |
حوار وطني أنتج تلاقي مجتمعي، ورؤى إصلاحية للملك للنهوض بالبلاد. |
حوار مع أتباع الأديان الثقافات، جعل العالم آخر الأمر يفصل بين الإسلام وإلإرهاب. وجعل فيينا مقرًّا دوليًّا للتلاقي والحوار. |
تضامن غير محدود مع القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدّمها القضية الفلسطينية، وحضور دولي لافت ومميّز. |
سخاء غير مسبوق في تقديم الدعم المالي والإغاثي ومساعدات التنمية إلى العالمين العربي والإسلامي وإلى برامج الأمم المتّحدة. |