(حَولَ دِيوانِ الشِّعرِ “ضَمائِرُ مُنفَصِلَة” لِلشَّاعِرِ سَلمان زَيْن الدِّين)
سَلمان زَيْن الدِّين، زَيْنٌ في الكِتابَةِ الشِّعرِيَّة!
في غَمْرَةِ المَطبُوعاتِ، المُتَوالِدَةِ كَالأَفطارِ في غابَةِ الكِتابَةِ، يَطلُعُ عَلَينا بِــ”ضَمائِرِهِ المُنفَصِلَةِ”، دِيوانٍ تَتَرَجَّحُ كِتابَتُهُ بَينَ الأُصُولِيَّةِ الشِّعرِيَّةِ وشِعرِ التَّفعِيلَة.
أَمَّا أُصُولِيَّتُهُ فَأَمِينَةٌ لأَصالَةِ المَقُولِ الشِّعرِيِّ، مِن حُلَلٍ خَلِيلِيَّةٍ مُوَشَّاةٍ بِأَحلَى التَّراكِيبِ، وأَبهَى الصُّوَرِ، ومَواضِيعَ عَمِيقَةِ المُحتَوَى، فِيها مِنَ الفِكْرِ ما يَجعَلُ المُنتَشِيَ بِجَماليَّتِها مُتَبَصِّرًا، مُتَبَحِّرًا، مُسافِرًا في هُدُوءِ التَّأَمُّلِ على جَناحِ الخَدَرِ اللَّذِّ.
وأَمَّا مَقطُوعاتُهُ التَّفعِيلِيَّةُ فَأَنِيقَةٌ، مُمَوسَقَةٌ، تَأخُذُ بِيَدِكَ، مُذ تَبدَأُ طَوافَكَ في مَغانِيها، إِلى رِحابِ خَلِيل حاوِي، فَتَجِدُكَ في حَضرَةِ شاعِرَينِ يَتَخَطَّرانِ في رَوضٍ واحِدٍ، لِكُلٍّ نَكهَةٌ، ولِلنَّكهَتَينِ طَعمُ العِنَبِ والتِّينِ في نَدَى الصَّباحاتِ على أَكتافِ رَوابِينا.
ضَنِينٌ، صاحِبُنا، بِمُوسِيقَى الشِّعر. وهَل شِعرٌ مِن دُونِ نَغَمِها وإِيقاعِها؟!
يَكتُبُ عَفوَ الخاطِرِ، فَلا عَنَتٌ وَلا تَعَمُّلٌ، وَلا اصطِناعُ حَذلَقاتٍ لُغَوِيَّةٍ تَستُرُ خَواءَ المَضامِين. صُورَتُهُ زاهِيَةٌ، أَمِيرَةٌ فِي بُردَتِها المُقَصَّبَةِ، حَسناءُ تُصادِي أَزاهِيرَ الوِهادِ بِرَفِيفِها، ورِقَّتِها، ونَفاذِ العَبِير.
***
يَظهَرُ جَلِيًّا فِي كِتابَةِ هذا الشَّاعِرِ قُوَّةُ العِبارَةِ، حِدَّةُ التَّركِيبِ، صَلابَةُ التَّرابُطِ، وَالتَّسَلسُلُ المَنطِقِيُّ الَّذي يَحكُمُ المَقطُوعَةَ، فَلا كَلامَ يَشُطُّ عَن مَرماهُ، ولا لَغْوَ وإِبهامَ مَقصُودَينِ يَتَغَطَّى بِهِما مَن كَلَّت مَطِيَّتُهُ في مُرتَقى الشِّعرِ الأَصِيل. وهذا لا يَعنِي في حالٍ جَفافًا فِي المَلَكَةِ الشِّعرِيَّةِ، فَفِي بَدْعِهِ خَيالٌ مُحَلِّقٌ ولكِنَّهُ مَضبُوطٌ بِأُصُولِ الكَلامِ، وسَلامَةِ الفِكر.
شِعرُهُ مُشرِقٌ، قَوِيُّ الدِّيباجَة. وهو رَحْبُ الصَّدرِ، يَتَّسِعُ، أَحيانًا، لِآفاقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي القَولِ الواحِدِ، مَا يَسمَحُ بِتَأَوِيلاتٍ مُتَغايِرَةٍ، وهذا مِن صِفاتِ الشِّعرِ المُبَرِّز. يَقُولُ، مَثَلًا:
“وَكَم راوَدَتنِي وَهدَةٌ عَن جَمالِها فَأَضرَبتُ صَفحًا عَن مَفاتِنِها الخُضْرِ
وكَم عانَدَتنِي رَبوَةٌ فَصَعِدتُها وعَلَّقتُ، يَومًا، فَوقَ أَستارِها شِعرِي” (ص 13)
فَيَرُوقُ لِي، قَارِئًا – وَكُلُّ قارِئٍ مَالِكٌ لِلنَّصِّ – أَن أَرَى فِي قَوْلَتِهِ عَلاقَةً مِعَ المَرأَةِ الَّتِي لا تُرضِي طُمُوحَهُ، وَتُروِي عَطَشَ الشَّاعِرِ فيه، إِمَّا دانَت وهانَت. على أَنَّهُ، إِن تَمَنَّعَتْ، لا يُلقِي سِلاحَهُ أَمَامَ دَلِّها، فَيَرقَى إِلَى هَودَجِها، فارِسًا لا تَطِيبُ لَهُ المَباسِطُ، ويَرتاحُ إِلى الذُّرَى المَنِيعات.
وتَتَمَيَّزُ جُلُّ قَصائِدِهِ بِوِجدانِيَّةٍ عَمِيقَةٍ تَنبُعُ مِن رُوحٍ شَفِيفَةٍ لا تَتَآلَفُ مَعَ جُحُودٍ سائِدٍ فِي النَّاسِ، ومُجتَمَعٍ دَيْدَنُهُ الاستِهلاكُ، يُقفِلُ فِي وَجْهِ شاعِرٍ رَقِيقٍ مُرهَفٍ آفاقًا زَهرِيَّةً يَرسُمُها على رِقاعِهِ، ويُسافِرُ إِلى هَناءاتِها في إِغماضاتِ الأَجفانِ ساعَةَ يَجِيشُ الوَجْدُ في الحَنايا.
كما يُرضِي شِعرُهُ عُصبَتَينِ مِن ذَوَّاقَةِ الكَلِم: مَن يَتُوقُونَ إِلَى فَيْضِ الشُّعُورِ، والمُعاناةِ الحَقَّةِ الَّتي تَرسُمُ صُوَرَ نُفُوسِهِم في صُورَةِ الشَّاعِرِ ذَاتِهِ، ومَن يَسكَرُونَ مِنَ البَلاغَةِ الضَّافِيَةِ، والبَيانِ المَشكُوكِ شَكَّ اللُّؤْلُؤِ، واللَّحْنِ الشَّجِيِّ السَّلِسِ كَهَمسِ الحَوْرِ على السَّواقِي…
وهَل حامِلُ قَلَمٍ لا يَجِدُ نَفسَهُ في جِلْدِ هذا المُبدِعِ الَّذي سَفَحَ العُمرَ بَينَ المِدادِ والقَراطِيسِ، غافِلًا عَن أَيَّامٍ تَنسَرِبُ كَالماءِ مِنَ الأَصابِعِ، ولَذاذاتٍ فاتَت مَواسِمُها بَعدَ أَن أَفَلَت نَضارَةُ الإِهابِ، وَعَزَّ الإِياب؟! يَقُول:
“وَحِينَ أَدرَكتُ أَنَّ الدُّرَّ قُربَ يَدِي، والماءَ يَكمُنُ في أَهلِي، وفي نَسَبِي
والنُّورَ يَكمُنُ فِي الأَضلاعِ مَنبَعُهُ، والنَّارَ تَكمُنُ فِيمَا جَفَّ مِن حَطَبِي
كانَ الزَّمانُ كَمَن أَوفَى على سَفَرٍ، وقَد تَعِبتُ، وحَلَّت راحَةُ التَّعَبِ” (ص 46)
وهو حِينَ يُرَقِّنُ، ويَلجَأُ إِلى التَّزوِيقِ، فَشِعرٌ صافٍ لا تَبدُو فِيهِ صِناعَةٌ، ويَنسابُ كالجَدوَلِ في المَرجِ العَشِيب. فَلنَقرَأْهُ، مُستَعِيدًا لَحَظاتِ الوَجدِ والجَوَى مع نَجِيَّةِ الرُّوحِ، في طِبَاقٍ عَفْوِيٍّ سَلِسٍ جَمِيل:
“هي النَّهرُ يَجرِي في مَجاهِلِ جَنَّتِي على ضِفَّتَيهِ كم زَرَعتُ جُنُونِي!
وكَم خُضتُ، يَومًا، في بَياضِ جُمانِهِ فَعُدتُ نَقِيًّا من سَوادِ شُجُونِي!” (ص 82-83)
***
شاعِرُنا، كَجُلِّ الشُّعَراءِ، يَتَمَزَّقُ بَينَ عَواطِفَ مَوَّارَةٍ يُثِيرُها جِيْدٌ أَتلَعُ، وقامَةٌ مَشِيقَةٌ، وتَقاسِيمُ رَهرَاهَةٌ، ومَفاتِنُ تَقَطَّرُ شَهدًا، وبَينَ تَقالِيدَ تَئِدُ خَطَرَانَ الفُؤَادِ في مَهَبِّ الحُسنِ، وتَأبَى على المَرءِ خُرُوجًا مِن مَنظُومَةٍ قد يَكُونُ بَعضُ حَلَقاتِها عَفَّاها تَطَوُّرُ الحَياة. فَلنَقرَأْهُ يُخاطِبُ “إِغراءَ الفِتنَة”:
“أَخافُ أَسقُطُ، يَومًا، في حَبائِلِهِ، أَخافُ أُشبِعُهُ شَمًّا وَتَقبِيلَا
فَيَغضَبُ الرَّبُّ مِن ضَعفِي ويَطرُدُنِي، بِما جَنَيتُ، مِنَ الفِردَوسِ مَغلُولا
[…]
هي التَّقالِيدُ يا حَوَّا تُكَبِّلُنا، والخَوفُ مِنها يَزِيدُ الأَمرَ تَكبِيلا
تَسُلُّ سَيفًا إِذا أَشواقُنا استَعَرَت، وإِن خَمَدنا يَظَلُّ السَّيفُ مَسلُولا
[…]
فَنَحنُ نَعلَقُ بَينَ الطِّينِ مُستَعِرًا والسَّيفِ يَشهَرُهُ التَّقلِيدُ مَصقُولا”
(ص74-75-76)
لقد طالَ عَهدُ الوِثاقِ، ورَهبَةُ الإِمرَةِ، مع شاعِرِنا، إِلى أَن مَنَّ الرُّواءُ بِتِرياقِهِ، فَتَحَرَّرَ، ونَأمَلُ أَن يَدُومَ تَحَرُّرُه لِيَفِيضَ يَراعُهُ بِذَواتِ السِّحرِ، قَصائِدِهِ، اللَّاتِي لا تَتَآلَفُ مع القُيُودِ، ولا تَخرُجُ مِن قُمقُمِها إِلَّا أَمامَ الجَمالِ المُغَرِّد. نَقرَأُهُ، وَنَأنَسُ لِنَجواه:
“رِبقَةُ الطِّينِ أَوثَقَتنِي طَوِيلًا والعِناقُ القَصِيرُ حَلَّ وِثاقِي” (ص 87)
…
“رُبَّ جَمرٍ يَمُوتُ ذاتَ عِناقٍ ورَمادٍ يَعِيشُ ذاتَ عِناقِ” (ص 89)
أَلا أَمطَرَكَ اللهُ عِناقًا تِلوَ عِناقٍ… فَلَن تَقطِفَها وَحدَكَ، فَالقُرَّاءُ، أَيضًا، قَاطِفُون!
***
يَمُرُّ في نَفَسِهِ الشِّعرِيِّ، أَحيانًا، شَيءٌ مِن سَوداوِيَّةٍ تَغِيمُ لها كَآبَةٌ في العُيُون. وكَيفَ لا يَكُونُ هذا والشَّاعِرُ هو مِن أَقرَبِ النَّاسِ إِليها لِما في قَلبِهِ مِن إِحساسٍ مُرهَفٍ، ولِما في نَظرَتِهِ إِلى الحَياةِ مِن مِثالِيَّةٍ تَرفَعُ النَّفسَ إِلى أَسمَى الدَّرَجاتِ، ولكِنَّها تُمِضُّ الجَوارِحَ، وَتَمُدُّ بِالخَيبات. وهل لَهُ أَن لا يُعانِيَ مَن يَأتَكِلُ مِنَ الغُربَتَين:
“غَرِيبٌ في المَدِينَةِ عَن مَكانِي غَرِيبٌ في دِيارِي عَن زَمانِي
لِكُلِّ جَماعَةٍ حِينُ اغتِرابٍ وَلِي، دُونَ الجَماعَةِ، غُربَتانِ” (ص 39)
وفي قاعِهِ حَسرَةٌ دَفِينٌ على ماضٍ وَلَّى كانت صُورَتُهُ أَزهَى، واحتِفاؤُهُ بِهِ أَدفَأَ، والنُّفُوسُ، فِيهِ، على الوَلاءِ أَوفَى. وهو يَرَى أَنَّ الصَّداقَةَ قد صَدَأَت في زَمَنٍ باتَتِ المَصالِحُ، فِيهِ، هي البُوصُلَةُ الأَصدَقُ، وباتَ القَومُ لا تَربِطُهُمُ الكَلِمَةُ العَهدُ كما كانت في عَهْدِ الكَلِمَةِ الأَقدَسِ في مَراتِبِ التَّعاطِي.
يَقُول:
“أَنا وَحدِي، ويُوجِعُنِي الحِصارُ، فلا أَحَدًا أَزُورُ، ولا أُزارُ
[…]
فَأَينَ، اليَومَ، مِن أَمسٍ تَوَلَّى؟ وأَينَ الدِّفءُ، بَل أَينَ الجِمارُ؟
[…]
أَنا وَحدِي، غَرِيبٌ في دِيارِي، أُسائِلُها، وَتُنكِرُنِي الدِّيارُ
[…]
يُحاصِرُنِي الرِّفاقُ لَعَلَّ جَمرِي يُرَمِّدُهُ، ويُطفِئُهُ الحِصارُ” (ص29)
ونحنُ، معهُ، نَتَمَثَّلُ المُتَنَبِّي مُتَأَوِّهًا:
“والنَّاسُ قد نَبَذُوا الحِفاظَ، فَمُطلَقٌ يَنسَى الَّذي يُولَى، وعافٍ يَندَمُ”…
***
شاعِرُنا تَشَرَّبَ مَذهَبَ التَّقَمُّصِ، فَنَضَحَ مِن طَيَّاتِ شِعرِه. يَقُول:
“كَم مِنَ القُمصانِ قد مَزَّقتُها
عَبرَ الزَّمانْ! // أَرتَدِي الواحِدَ عُمرًا، // […] // فإِذا ما جَسَدٌ مِنِّي تَداعَى، // […] // تَمتَطِي الرُّوحُ قَمِيصًا غَيرَهُ، // في بَحثِها المَحمُومِ // عَن كَنزِ الدُّرَرْ // […] // وتُلَبِّي دَعوَةَ الحَقِّ // إِلى عُرسِ الإِيابْ”. (ص 17-18-19)
وهو لا يَخشَى المَوتَ، فَــ: “حِينَ أَمضِي // تارِكًا أَهلًا وسَهلًا، // […] // أَلتَقِي أَهلًا سِواهُمْ // سَرَّهُم تَلوِيحُ فَجرِي”. (ص 23)
ولا غَرْوَ، فَفِي كِتابِ الحِكمَةِ عِندَ المُوَحِّدِينَ (الدُّرُوز): “ولا تَخافُوا مِن تَمزِيقِ أَقمِصَتِكُم”. وهو يَعرِفُ أَنَّ العُقْبَى خَيرٌ، فَــ”المُستَجِيبُ لِمَذهَبِهِم جَزَاؤُهُ في الثَّوابِ، ما دامَ في قَمِيصِهِ، هو زِيادَةُ دَرَجَتِهِ في العُلُومِ، وارتِفاعُهُ مِن دَرَجَةٍ إِلى دَرَجَةٍ في اللَّهَواتِ، أَيِ التَّكرَارِ في الأَقمِصَةِ… إِلى أَن يَبلُغَ حَدَّ الإِمامَة”(1).
على أَنَّهُ لا يَتَقَوقَعُ في حَيِّزٍ يَحبِسُهُ، فهو كالرِّيحِ تَمخُرُ السُّهُوبَ الفِيحَ، وتَتَخَلَّلُ الأَغصانَ، وتَنفُذُ في الشُّقُوقِ، حامِلَةً عَبِيرَ المَدَى. وهو طَلِيقٌ، كَكُلِّ شاعِرٍ حَقٍّ، اتِّساعُهُ مِن رَحابَةِ شِعرِهِ، وشِعرُهُ مِن كِبْرِ حُبِّهِ، لَكَأَنَّهُ الإِمامُ مُحيِي الدِّينِ ابنِ عَرَبِيّ مُهَلِّلًا لِلحُبِّ:
“أَدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَت رَكائِبُهُ فالحُبُّ دِيني وإِيماني”،
حيثُ يَقُولُ، وهذا لَفظُه:
“وأَرَانِي أَنتَمِي لِلنَّاسِ طُرًّا، وجَمِيعُ النَّاسِ أَهلِي” (ص 24)
فَيا نادِرًا حَبابَكَ… فَنَحنُ في أَيَّامٍ نَحِساتٍ، “يَكُونُ القابِضُ على دِينِهِ،[فِيها]، كالقابِضِ على الجَمْر”(2).
ولا نَعجَبَنَّ لِمَوقِفِ شاعِرِنا، وفي مَواثِيقِ قَومِه: “أَنصِفُوا نُفُوسَكُم بِالتَّفَكُّرِ بِالحَقِّ ومَعرِفَةِ أَهلِه”(3)..
وفي إِيمانِهِ أَنَّ الإِنسانَ مُخَيَّرٌ:
“أَنا بَينَ نَبعِي والمَصَبِّ مُخَيَّرٌ فَأَغفُو على سَهْلٍ، وَأَصحُو على وَعْرِ” (ص 12)
فَإِلى أَيِّ حَدٍّ يُواكِبُ المُحَمَّدِيَّةَ في رَأيِها: “قُلْ لَن يُصِيبَنَا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا…”، (سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ 51)؟
وإِلى أَيِّ مَدًى يَتَوافَقُ مع المَسِيحِيَّةِ في قَولِها: “وَأَنتُم فَإِنَّ شَعرَ رُؤُوسِكُم جَمِيعَهُ مُحْصًى”، (إِنجِيل مَتَّى، الفَصلُ 10، الآيَةُ 30)؟
وفي مُطلَقِ الأَحوالِ يَبقَى شاعِرًا يَعُبُّ الحَياةَ، تَفُورُ فِيهِ الأَحاسِيسُ، يَقنِصُ الفَرَحَ، وَتَخضَوضِرُ جَوارِحُهُ بِالمَشاعِر:
“فِتنَةُ الدَّربِ سَبَتنِي // لَم يَعُدْ يَشغَلُنِي هَمُّ الوُصُولْ” (ص 25)
***
وكما لِكُلِّ جَوادٍ كَبْوَةٌ، ولِكُلِّ سَيفٍ نَبْوَةٌ، فَقَلَّما يَنجُو شاعِرٌ مِن بَعضِ ضَعَفات. وهي، عِندَ صاحِبِنا، قد تَكُونُ تَأَتَّت مِنِ انسِيابٍ في الكِتابَةِ، وانسِراحٍ في الخَيالِ، كما قد تَكُونُ استِسهالًا بَعدَ لَأْيِ التَّدوِينِ، وأَظُنُّها مِن كُلِّ هذهِ السُّبُلِ، إِذ هُوَ نَاقِدٌ مُتَمَرِّسٌ، وَمُعلِي عِماراتٍ، وناحِتُ قَرِيضٍ مِثالًا مِن مَرمَرٍ تَزهُو به الصَّحائِف. يَقُول:
“نَبعُكَ الوَحيُ العَبقَرِيُّ وَمَجرا ــــــــ كَ الفَرادِيسُ الدَّانِياتُ القِطافِ” (ص 130)
فَلَيتَه قالها:
“نَبعُكَ الوَحيُ عَبقَرِيٌّ وَمَجرا ــــــــ كَ فَرادِيسُ دانِياتُ القِطافِ”،
لِيَتَحاشَى تَخَلخُلَ بَيتِهِ واضطِرابَه.
ثُمَّ نَقرأ:
“فَدَنَتْ مِن يَدِي قُطُوفُ الأَمانِي ونَأَى عَنِّي ما يُعِيقُ انطِلاقِي” (ص 87)
“وتَخَفَّفنا مِن بَراثِنِ طِينٍ دَأبُهُ أَن يَحُولَ دُونَ التَّلاقِي” (ص 88)
“يا صَدِيقِي زَمانَ عَزَّ صَدِيقٌ بَينَنا عَهدٌ لِلصَّداقَةِ صافِ” (ص 133)
فَفِي (عَنِّي)، (وَتَخَفَّفْنا) وَ (عَهْدٌ)، يَتَوَجَّبُ الإِشباعُ لِيَستَوِيَ الوَزْنُ، حَيثُ يَقتَضِي الشِّعرُ اختِلاسًا لا إِشباعًا…
إِنَّها دُكْنَةٌ باهِتَةٌ في جَلَدٍ أَزرَقَ صافٍ، لن تُعِيقَ، فيه، حَفِيفَ النَّسائِمِ، ولا رِحِلاتِ الطُّيُور…
***
“وَحدَهُ الشِّعرُ يَجعَلُ الأَرضَ أَحلَى مِن لِقاءِ الحَبِيبِ بَعدَ التَّجافِي
كُلُّ أَرضٍ تَخلُو مِنَ الشِّعرِ مَنفًى وبَناتُ القَرِيضِ تَنفِي المَنافِي” (ص 135)
صَدِيقَنا…
بِهذِهِ الرِّقَّةِ والعُذُوبَةِ دَبَّجتَ، فَنِعمَ الوَلائِدُ…
كَتَبتَ في عَصرٍ قالَ فِيهِ أَمِين نَخلَة: “عَصرُنا في الأَدَبِ، وفي الفُنُونِ الجَمِيلَةِ، إِنَّما هو عَصرُ البَشاعَةِ، والخُرُوجِ على الذَّوق! فَفِي الأَدَبِ تَرَكَ النَّاسُ الطَّلاوَةَ، والفَصاحَةَ المُرَقِّصَةَ، وعُمقَ الغَوْرِ، إِلى التَّفاهَةِ والسَّطحِيَّة”(4).
فَلَم تَكُن كِتابَتُكَ ذَرًّا في رِيحٍ، بل هي أَغنَت مَخزُونَنا الأَدَبِيَّ، وأَضَفت إِلى تُراثِ العَرَبِيَّةِ ما مَصِيرُهُ البَقاءُ، وأَدخَلَت إِلى أَنغامِ الشِّعرِ نَغَمًا يَلِيقُ بِالمَقام. ولَكَم فَعَلَت في نُفُوسِ مَن تَتَبَّعُوها، وأَثارَت مَشاعِرَ تَسمُو بِالرُّوحِ، وتَعلُو بِالرُّؤَى، وتُخَدِّرُ الجَوارِحَ بِاللَّذاذَةِ الَّتي بِتنا نَفتَقِدُها في زَمانِنا الضَّنِينِ بِاللَّطائِف.
وما يُضِيفُ إِلى العُجْبِ بِكَ، بَراعَتُكَ في تَناوُلِ مُناسَبَةٍ خاصَّةٍ، قد لا تَكُونُ مَنبَعًا ثَرًّا لِلإِلهامِ، فَتَنظِمُ فِيها ما يَسمُو عليها، ويَجُوزُ إِطارَها، ويَحُطُّ رَحْلَ القَصِيدَةِ في مَرَابِضِ الشِّعرِ الأَصِيلِ، فإَِذا المُناسَبَةُ اثنَتان: واحِدَةٌ هي دَعوَى الحَالِ، وأُختُها هي الرِّحلَةُ في الجَمالِ، على أَجنِحَةِ الخَيال، إِلى حيثُ يَعلُو القَصِيدُ على كُلِّ قِيلٍ وقال…
نحنُ مَعَكَ في قَولِك:
“وكَم مِن مَكانٍ أَيقَظَتهُ جَداوِلِي وكَم مِن زَمانٍ قد زَرَعتُ به فَجرِي” (ص 12)
******
(1): (كِتَابُ “مَذهَب المُوَحِّدِين “الدُّرُوز”، ص 47؛ تَألِيف عَبدَالله النَجَّار)
(2): (كِتَابُ “مَذهَب المُوَحِّدِين “الدُّرُوز”، ص 39؛ تَألِيف عَبدَالله النَجَّار)
(3): (كِتَابُ “مَذهَب المُوَحِّدِين “الدُّرُوز”، ص 39؛ تَألِيف عَبدَالله النَجَّار)
(4): (أَمِين نَخلَة، “في الهَواءِ الطَّلق”، ص96)