عودنا أدونيس على العيش في مضائق الرؤيا وتشكلاتها في الكتابة الشعرية والفكر العربيين، أو ليس هو من أحب الإقامة في حدودهما؛ ما دامت هويته – كما قال لابنته نينار- في تحول مستمر، وأتاح له الشعر أن يتعرف إلى حقيقة نفسه على نحو عميق جدا؛ وهذا العمق دفعه إلى الانفتاح على أراض جديدة في تربة بيروت، يمثلها هذه المرة الشعراء الشباب بمركز ألف بالحمرا، باحثًا في مملكتهم الصغيرة عن صوت الفكر والتحرر والسؤال الطري، فشكلت اللحظة استثناء في ما يتعلق بالتلقي الإيجابي لنصوصنا الحالمة، وأسئلتنا المشاكسة، وكانت الفرصة سفرًا جوانيًا مع صاحب “أغاني مهيار الدمشقي”، وهو يواصل بأفقه المعرفي غرس زهرات على الضفة الأخرى.
انطلق أدونيس في معرض حديثه من رفضه منطق الأستاذية في حواره مع الشباب، وهو درس بليغ بالنسبة إلينا، ولا سيما أننا تعودنا أن نتعرض إلى كل أشكال الهيمنة، ومحاولة محو تضاريس رؤيتنا إلى العالم. لهذا يصر على أن يقدم نفسه تلميذًا وحامل أسئلة؛ “لأنّ الشّعر تحديدًا، وهو لا يحدّد، هو نوع من طرح الأسئلة”؛ هذا القلق المتواصل في تجربته دفعني إلى طرح سؤال الحداثة الملتبسة إلى درجة اللانوعية؛ بحيث لم تعد الاختيارات الجمالية تنبثق من المعرفة الشعرية نفسها، بل أضحت مقترنة أكثر بجماليات الانصهار في الجغرافيات الشعرية المجاورة إلى حد التماهي أو التطابق مع أصواتها بدعوى التناص.
هل يعني ذلك أن زمن الاحتراقات الأولى التي أفضت إلى تفجير اللغة والأشكال والمواقف يمكن أن تتأسس عنه ضفاف شعرية أخرى هجينة في ضوء هذا الانفتاح؟ وماذا عن احتقان الفحولة داخل هذا الوعي الشعري تحديدًا؟ أثارني في ردوده عن جملة من الأسئلة التي طرحها الشعراء الشباب، عدم اطمئنانه إلى مصطلح الحداثة، وطرائق التفكير فيها، جاعلاً من التخلف شكلاً من أشكال عدم تحققها داخل البنيات الذهنية للمجتمع؛ فهل يعني هذا أن أدونيس ينظر إلى عطب الحداثة في الواقع العربي انطلاقًا من غياب السؤال نفسه، وسيادة ثقافة التعميم والتسطيح، جاعلاً من أولوية التحديد مسألة أساس في ضرورة الفكر الذي يراهن عليه؛ ذلك أنه يعترف بخصوصية الوعي الشعري عند الشعراء الشباب الذين يتابعهم مقارنة مع جيله، ليس بالمعنى الثقافي وحسب، وإنما أيضًا “بالمعنى الفنّيّ الشّعريّ”؛ حيث يرى في هذا السياق أن ثمّة “نوعاً من ردم الهوّة القديمة في الشّعر العربيّ بين الشّعور أو الحساسيّة من جهة، وبين التّأمّل والفلسفة من جهة ثانية؛ فالكتابة بالكينونة إحساس وتأمّل وفكر كوحدة تامّة وكاملة”، ملمحًا في الوقت ذاته إلى الفواصل التّقليديّة التي هيمنت على تفكير المؤسّسات وهي تميز بين كل من الشعر والفكر، وهذا ما شكل مصدر فرح بالنسبة إلى أدونيس وهو يلمس كيف تجاوز الشعراء الشباب هذه الفجوة في تجربتهم.
بهذا المعنى، يقول “لا شعر بالمطلق، وإنّما هناك شعراء. فعندما أقول (شعر)، التّشديد يجب ألّا يكون على الشّعر إنّما على الشّاعر. فالشّعراء يخلقون العالم المسمّى شعرًا. كما الحبّ ليس مطلقًا إنّما هناك تجربة معيّنة بين عاشقين؛ وهذه التّجربة الفرديّة الخاصّة حتّى يصير تداوله أكثر سهولة ويستنفذ قضايا عامّة أكثر. أمّا إذا أخذناه شعرة شعرة فالأساس هو الشّاعر وليس الشّعر، الشّعر من جهة الفرديّ، والخاصّ من جهة الجسد، وليس من جهة الرّأس، والفلسفة، والحكم، والعادات، والتّقاليد كلّها تخلق عالمًا مشتركًا والذي معظم الشّعر العربيّ القديم قائم عليه وهذا ما أسمّيه (المسبّق)”. ليتساءل عمّ يقدّمه الشّاعر للقارئ؟ إن الشّاعر- بحسب أدونيس- يعيد إنتاج المنتج بطريقة مختلفة؛ لأن التراث قائم على المجتمع العامّ، ومن ثمة يهيمن عليه المديح، والهجاء، والغزل، والفخر، والحماسة. ويعمل بموجبه على “إعادة إنتاج المشترك العامّ؛ لأن الشّاعر الآخر معني بتخطّي المشترك، والتركيز على بنيته الشّخصيّة الحاصلة المنتجة لشبكة من العلاقات الجديدة”.
وتكمن مهمّة الشّعر في نظره عندما “يخرج الشاعر عن المشترك العامّ بطريقته الخاصة المميزة”؛ بحيث “يصبح القارئ نفسه شاعرًا قارئًا خلّاقًا وليس قارئاً متلقّياً. قارئ الشّعر هو شاعر آخر وخلّاق آخر، وإلّا يصبح الشّعر جزءًا من الحياة الاجتماعيّة ويذوب في الثّقافة العامّة، ويصير يفقد معناه وخصوصيّته”، ويظنّ أدونيس أن هذه معركة قويّة جدًّا؛ فـ “المشترك ليس هو الّذي يخلق مجد الشّعراء، وإنّما الفرادات هي الّتي خلقته. طبعًا هذا توكيد على المشترك العامّ، وهذا صراع بين الرّؤية الدّينيّة للإنسان والعالم، والرؤية الشّعريّة للإنسان والعالم”. إن المتأمل في رؤى أدونيس يربكه الخطاب الذي لا يتجه نحو شرعنة ما هو كائن، بقدر ما يصبو إلى تفجيره وزعزعة ثوابته نحو أفق آخر بديل، وهذه الرغبة الجامحة المحتقنة بالفحولة تجعله يربكنا من الداخل، وهو يعترف وجهًا لوجه بصعوبة تحديد الشعر. كيف لا ونحن نتسابق نحو التحديدات الجاهزة من خارج الشعر نفسه؟
لذلك فالشعر كما يقول صاحب “الثابت والمتحول”: “الشّعر مثل الحبّ، وكلّ شاعر يمكن أن يعيد النّظر في تحديد الشّعر. إن الشّعر هو ابتكار علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة والكلمة والشّيء، وبين الإنسان والشّيء. وبما أّنّنا نتساوى بالمشترك، لكن لا أحد يحلم الحلم ذاته، كلّ واحد يحلم بطريقة مختلفة؛ لأن عالم الشّعر هو هذا وليس العالم المشترك”. دفعتنا أطروحات أدونيس إلى تبني مفهومه في جعل “الشّعر طاقة مفتوحة إلى ما لا نهاية”، ويستحيل تحديدها ما دام “الإنسان يختلف عن الآخر والأفق مفتوح أمام الشّعر؛ حيث يتجوّل في تحوّل مستمرّ. لذلك مال العرب القدامى إلى التّوضيح، والتّحديد النّهائيّ بتأثير الدّين: الشّعر هو الكلام الموزون المقفّى الدّالّ على معنى. هذا التّحديد للشّعر اليوم من الممكن أن يكون ضدّ الشّعر”.
ما هو المعنى؟ قلنا لا معنى مسبّقاً إلّا في عالمين: عالم الدّين وعالم الإيديولوجيا، ومهمّتكم أن تكملوا ما بدأناه وقد نجحنا جزئيًّا وفشلنا كثيرًا. أدعوكم إلى الخروج ممّا هو جاهز وممّا هو حقيقيّ ومطلق إلى التّجريب المتواصل، إلى الانفتاح المتواصل وستكتشفون كلّما تقدّمتم أنّكم لم تفعلوا شيئًا. وهذا من حسن حظّ الشّعر ومن حسن حظّ الإنسان. تخيّلوا أن يصل شخص إلى حصر العالم بكلماته ضمن كتاب واحد، هل يعقل هذا؟ أنا أتحدّث عنه لأنّه موجود عندنا ونفكّر به. عندما نخرج فرديًّا منه نتحمّل مشاكل كتابة القصيدة فالشاعر يتصارع مع اللّغة والعالم والأفكار والإنسان، لأنّ المؤسّسة لا تزال هي السّائدة والأفكار لن تتغيّر إلّا إذا تغيّرت المؤسّسة ولا يقاس التّقدّم في المجتمع إلّا بعدد الأفراد المتفوّقين فيه. لا أحد يستطيع تعليم الآخر إلّا بنوع من العنف والهيمنة لسبب سياسيّ أو إيديولوجيّ أو دينيّ.
خرجنا بانطباع آخر من أدونيس وهو أنّ الّذي قرأ التّفعيلة لا يجوز الكتابة بشكل إذا ما كان مسيطرًا على الوزن سيطرة كاملة، إذا كان سيّد القاعدة والوزن. فبالنّسبة إليه، إنّ إهمال الوزن وعدم الاكتراث ليس خروجًا. فالخروج هو أن تستوعبه وتفهمه وتسيطر عليه كلّيًّا حتّى تستطيع أن تخرج. كذلك الكتابة بالنّثر لا تعني الخروج على روح التّفعيلة فهناك كتّاب أكثر تقليديّة بعقلهم ونظرتهم إلى الأشياء والعلاقات بين الكلمات من أيّ شاعر تقليديّ. هذا الأمر بالنّسبة إليه مهمّ وقد عايشه وعاينه وما زال يعانيه حتّى الآن.
*****
(*) موقع العربي الجديد.