الإقامة العربية المديدة في مربّع الهزيمة

نصف قرن مضى على هزيمة حزيران (يونيو) 1967 ولم تكن المدة هذه كافية للخروج من الهزيمة والنهوض مجدداً. لا يحصل مثل ذلك في معظم المجتمعات التي تعرضت لما أصاب عالمنا العربي. المفارقة المؤلمة أننا لا نزال نتجرع كأس الهزيمة على امتداد العقود الماضية، بل ما نشهده اليوم هو أعلى ذراها من خلال الحروب الأهلية الطائفية المذهبية المندلعة في أكثر من مكان عربياً.

لم تكن هزيمة حزيران هزيمة عسكرية الطابع فقط، فعلى رغم هول ما حصل تلك الأيام وتحطيم القوة العسكرية العربية بسرعة قصوى، إلا أن الهزيمة كانت متعددة الأبعاد، هزيمة مجتمعية طاولت السياسة والثقافة والاقتصاد، أي هزيمة مشروع قومي نهض منذ الخمسينات، لكنه راوح مكانه بعد عقدين من الزمن ليدخل مساراً انحدارياً أتت الهزيمة لتكشف مآله. كانت هزيمة أنظمة استبدادية صادرت السياسة وقمعت الحريات وأبادت قوى المعارضة، بنفيها أو سجنها أو قتلها. أطعمت هذه الأنظمة شعوبها أوهاماً وآمالاً بنهوض اقتصادي وتحسين أوضاع المعيشة واستعادة الكرامة القومية بالتهيؤ لاستعادة فلسطين من المغتصب الصهيوني. تكشف كل ذلك عن خواء سرعان ما تساقطت تلك الأوهام أمام ضربات العدو الإسرائيلي، لتكتشف الشعوب العربية حجم الكذبة الكبرى التي ظلت أنظمة الديكتاتورية تلقنها للشعوب العربية.

أظهرت الهزيمة وبصورة لا لبس فيها فشل مشروع الدولة التي سعت إلى بنائه مع صعود مشروعها القومي. لا شك في أن وجود الدولة هو واحد من تجليات دخول المجتمع في الحداثة، حيث تقوم الدولة على حساب العصبيات الفئوية التي تتكون منها المجتمعات العربية، من طائفية ومذهبية وقبلية وعشائرية. فتحت الهزيمة أبواب الجحيم من خلال دخول هذه المجتمعات في مرحلة انحلال الدولة لمصلحة عودة العصبيات وبناها إلى الصعود. بدأ الولاء يتحول إلى هذه العصبيات سواء، في السياسة والأمن والاقتصاد. اكتسحت هذه العصبيات في بعض الدول المشترك الذي كانت الدولة تمثله، إذ باتت الدولة بمنظومتها العنصر الأضعف. كشف هذا الجانب استعصاء دخول مجتمعاتنا في الحداثة، وأنها لم تعرف منها سوى قشرة سرعان ما تلاشت تحت وطاة تبدل موقع الدولة. ما شهدته مجتمعاتنا من مظاهر تحديثية في العمران والبناء ودخول التكنولوجيا، ومحاولات الاستيراد من الغرب، لم يكن مترافقاً مع نقل الفكر والفلسفة التي كانت وراء هذه التطورات التحديثية في الغرب. لذا أتت مظاهر التحديث شكلية في الظاهر، فيما بقيت العقلية التقليدية تتحكم في إدارتها.

ولما كانت الهزيمة تجسيداً لفشل المشروع القومي وانهياره، ومعه المنظومة الأيديولوجية التي قام عليها، نشأ فراغ على هذا المستوى، لم يكن بإمكان قوى متقدمة أن تملأه بعد أن أبيدت، فتصدى الإسلام السياسي لملء هذا الفراغ. طرح مشروعه القديم– الجديد أن الإسلام هو الحل، وأن الفشل والهزيمة ناتجان عن التخلي عن المبادئ التي يدعو إليها الإسلام. لكن هذا الإسلام السياسي سرعان ما تكشف مشروعه عن أوهام أكبر، بل خرافيته في أن يكون مشروع بناء دولة وتطوير مجتمع. بدا التفكك من داخله عبر تفريخ تنظيمات اتخذ معظمها طابعاً عنفياً وإرهابياً، وذلك في سعيه للسيطرة على الدولة والمجتمع. بتنا أمام «إسلامات» لا حدود لها، كل واحد يدعي تمثيل الدين الحق، ويتهم الآخرين بالارتداد والكفر، بما يهدر دماؤهم. لعل ما نشهده اليوم عبر الحروب الأهلية المندلعة خير تجسيد لممارسة هذه التنظيمات، وما سيصيب الشعوب العربية إذا ما قدر لها أن تتحكم برقابنا وبحياتنا.

لسنوات خلت، تنسمت الشعوب العربية شيئاً من الأمل عندما اندلعت الانتفاضات العربية، ورأت فيها إمكان الخلاص من الأنظمة الديكتاتورية من جهة، وتحقيق الديموقراطية من جهة أخرى. لم يطل الزمن على تكشف المآل الذي تسير فيه هذه الانتفاضات. لقد سقطت على مجتمعات باتت بناها مخلّعة، العنصر الأضعف فيها هو الدولة، وفي غياب قوى مؤطرة في تنظيمات تقود الحراك وتوظف الحشود الجماهيرية، كان لا بد أن تسقط في شباك صراعات هذه البنى، فتحولت إلى حروب مذهبية وطائفية. لا يمكن تبرئة التدخلات الخارجية، العربية والإقليمية والدولية، من تسعير نار هذه الحروب. لكن يبقى العنصر الداخلي وطبيعة تكون المجتمعات العربية وهشاشة بناها وبالتالي انفجارها، الأساس في اندلاعها واتخاذها المسار الذي تسلكه اليوم.

ما تعيشه الشعوب العربية اليوم هو واحد من الارتدادات الكبرى لهزيمة حزيران، تلك الهزيمة التي لا تزال تحفر عميقاً في البنى العربية وفي الوجدان العربي. من المؤسف القول إن الخروج من نفقها يبدو اليوم بعيداً، بل إن ما تعد به الهزيمة هو، على الأرجح المزيد من الحروب والدمار والتذرر.

اترك رد