في الحبيب جورج طرابلسي

ذاتَ مبارك صبيحةٍ نيسانيّةٍ، أسَرّت إليّ أسرةُ القلوبِ، جامعة العلويّة منها، في قلبها اليَسَع نقيّات أفئدة من على الأرض وفي السماء على قاعدة قولة لي: “العالمُ أضيقُ من زاوية في صدرٍ يتعرّى من الدنيا حطاماً ويكتسي المحبة سماويَّ رداءٍ”، الدكتورة نتالي خوري غريب، قيامها ببادرة طبع فُطِرَ على مرؤاتِ نسوة “حكيمات”، أقلها الصدق، والأخلاص والوفاء، والأباء…، وهي لملمةُ هتافات أفئدة صدى لهمسات فؤادِك، أيها الحبيب، جورج طرابلسي، إضمامة تودعُها أبديٌ ذكرى، في قلبك اليُحاكي قلبها سعة، وعميق مودّات…

إضمامة تليقُ بمناسبة تكريم تقيمه لك حركةٌ مثلى، وقلْ فريدة القدرِ، من عالمنا العربيّ، الحركة الثقافية – انطلياس، نظراً لمعطيات قدرتها في شخصيتك الفذّة، ومجاني جهادِك، عبقرياً بدا في مراحل رسالتك الإنسانية، والإجتماعية، والعائلية، والمهنية، صغتها مثالاً به يقتدي هداةٌ، ورادةٌ، ومبدعون، حملة مشاعل التطوّر والتقدم… علها تفسح في المجال لمن تعرف أنهم يرقبون مناسبةً لبوحٍ بما ضيّق صدوراً، لك فيها مقامُ صدارة، وقل مقام أيقونةٍ على مذبح مقدس صداقة وودٍّ!

غَمْرٌ من الفرح، أسكر، فعكّر صفوةَ وهمِ حيرةٍ، وتردُّد في تلبية سنيِّ رغبة، حسبتُهما يعودان إلى جهل قيمة لك ومكانةٍ.. وسرعان ما ومض أخيُّ وحيٍ في ذاكرة هرمٍ يُشارف على التسعين من العمر، فاتّعظَ باثنتين، أولاها:

“قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت”.

قولةٌ أشبهُ ببعض حكمة تصيب من عقله وحسه مصابان بعلة بطءِ إدراك، وضبابيّة رؤية، وسَقَمِ خطيئةِ شكٍّ، ومثيلات…

وثانيتها:

“أفعلُ الحبِّ وأحلاه ما أوقدَ من نظرةٍ أُولى”، حبٍّ ليس من فضل نظر، إنما من فضل انعكاس ملامح حبيب على نافذة بصيرةٍ تُجسِّد خفيَّ شعور، صنوِ لا شعوريِّ إيمان بتقمّص الحبيب تقمص شمس مبهرَ أشعةٍ خارقة، جذابة، دافئة بل محرقة…

هيذي بوادر ذيّاك الوحي كانت، حين أيقظ فعلهُ من سبات، جديدُ انبعاثِ لألأةِ بسماتٍ توهّجت في قسمات وجهك لحظة عناق عيوننا البكر، وارتسام أحرف ما حدثتني به عنك، صديقة كلينا، الدكتورة نتالي، فتلاشى كل تردد في الأعراب عن مشاعر الأمين التي، في السرِّ بدا أنها أوثقت عُرى المحبة بين روحينا كما توثق الأوردة مسارب نسغ الحياة في الحيّة الأجساد… وتسلّل، من مخازن لاواع ثريٍّ، ما حدث لدى زيارتي الأولى لك في أحد مكاتب “الانوار”:

“سألتُ عنك! فأُجبتُ: أتسأل عن “ملك الأناقة”؟ فأين مغريات كون من مغريات مقدِّمة ذيّاك السؤال – الجواب!

… وراح قلبي، إثر غزوِ ماضٍ لحاضر، يروي ما طبعتْ فيه نادرُ لقاءات من لوحات لروحك البلّورية الأناءِ، المنشورية أوجه تشي بمكامن جمالات كينونة خصها “صانع” مثل هذه الآنية بنعمٍ خليقة بابراز قسمات “له” حفرها في ندرة من طينة كينوناتٍ تخيّرَ، بينها كينونة لك، ممَّن على صورته والمثال أبدع…

… فكلما عصفَ بي شوقٌ إليكَ، ونُميَ إليَّ حديثٌ عنك تطالعني صفةٌ، وقل خصلةٌ من خصالك، تجلوك، كما الضوء يجلو طبائع النور، فأحارُ أين أُمتِّعَ الوجد وقل الذائقة؟ أفي تسريحة شعر، أم في حدائق وجنتين، أم من شاهق جبين، أم في مشارق بسمات، أم في أناقة هندام، أم في وشي ربطة عنق… وكلها والأخيّات تعرب عن ذوق يجهر بأسرار أناقة طباع ما أبعدها عن التكلف… وتكمل ما حباك خالقُك به من مفاتن تُفكِّه بصر من يراك، وسرعان ما تغربُ في حظيِّ ذاكرة، لانشغال البصيرة بأُنسِ الحديث وشاعرية الألفة، وغنى مقولات يعذوذب وقعها في مرهف سمع، فتملأ حواسَّ خُلّص صحبٍ بالمتعة، وبشكر الله على هبة دون منّة… ويبقى أفصحَ من كل المزيات تلك، حديثُ صمتك اليسحرُ بلاغةً في اللفتة والإيماءة، والحركة تأتيها يدان وانحناءةُ عنق يخشع أمام فادٍ يُحيل من به يقتدي منارةً تَهدي… تقي من ضلال في مجاهل عتمات سيِّء الأخلاق…

وتندرُ بيننا لقاءات زادتك في خاطري تقديراً وعلوَّ مقام يثبتُ جدارةً بك وأهلية له، يُثبتهُما هذا التكريم، تحمل عليه أسبابٌ لائحته تطول… فمنها أنتقي سبب “أنوار” الصحيفة التي بها تُكنى، والتي على باب ثقافتها تشرف، فتزيدها شعّا بباقات من أشعة عقلك والقلب، ومن مواقد حسِّك الصائغها معرض حُليِّ شعرٍ ونثرٍ، يقصدها جياعٌ وعطاشٌ من روّاد المعارف، تزوُّداً بمنِّ الكلمة ونمير الحروف…

وصه! أيها القلمُ! نهمك الى المزيد قد يودي بك إلى غلوٍّ فضحتَ كنهه في برعم من براعم خريف عمرك، يحلّل الظن بأنك تهجو. ألم تقل:

“الغلوّ في الامتداح ضربٌ. من هجاءِ مَن لا يستحقّ المديح…

“والمبالغة في المديح ضربٌ من استخفافٍ بمن يُنسبَ إليه ما هو منه براء؟

” ويبقى سؤالٌ: بأيِّ كلام يمدح من خصاله على الكلام تعصى؟!
“بفن الكلام، ولا يوفّى سائرٌ على خطى يسوع قبساً من حقٍ”!!

فاتحة نوّار 20177

اترك رد