د. علي فاعور… نهر من العطاء لا ينضب

كيف أعرف بالدكتور علي فاعور وهو أشهر من نار على علم، والعلم هو الجبل كما تعلمون . ولا مغالاة إن قلت إن الدكتور علي جبل من جبال لبنان الشامخة، جبل علمي، جبل عاملي أيضاً.

 نحن اليوم إزاء تكريم واحد من أهم الباحثين الجغرافيين ، فهل كان للبيئة الجغرافية التي ترعرع فيها من أثر في شخصيته؟ إن الإجابة عندي بالمطلق… نعم

 الإنسان ابن بيئته

   فهو من بلدة الخيام التي ربما سميت كذلك، لأن الأوائل من قاطنيها ضربوا أطناب خيامهم في تلك البقعة من الأرض الجنوبية المتربعة على مشارف السفوح الغربية لجبل حرمون المقدس، فأخذت منه الحماية، وأطلت في الوقت عينه على مرج للعيون دافق بالخير معطاء.

في هذه البيئة الجغرافية كان هناك ايضاً بيئة مجتمعية، تكاد تكون نموذجاً للبنان المصغر، حيث يعيش فيها المسيحيون والمسلمون بمختلف الأطياف المذهبية مع بعضهم البعض بمحبة ووئام. في هذه البيئة من العيش المشترك ، وليس من التعايش المشترك  كما يحلو للبعض ، نشأ الدكتور علي، نشأة قوامها الإلفة والمحبة والإنفتاح على الآخرين مهما تلونت معتقداتهم.

 وتشاء الجغرافية أيضاً ان تصبح بلدته في جوار دولة إسرائيل التي قامت على أرض فلسطين وسلبتها من أهلها كما سلبت قسماً من أراضي بلدات الخيام ومرجعيون والقليعة وديرميماس وكفركلا وغيرها من قرى الشريط الحدودي. ولم يقتصر الأمر على جار السوء هذا بالإستيلاء على قسم من أرض البلدة، بل ومنذ تواجده على الحدود الجنوبية في العام 1948، بدأت إعتداءاته العسكرية على المنطقة ونالت بلدة الخيام الحصة الأكبر من تلك الإعتداءات ، بلغت ذروتها في المجزرة التي ارتكبتها بحق سكانها في 17 أذار 1977، مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من أربعين شهيداً، بعدما سوت معظم بيوت البلدة في الأرض وشرد الباقي من سكانها، وكان من بين الشهداء الطبيب المسيحي شكرالله  كرم الذي قضى شهيداً للعيش المشترك .ذلك الطبيب المتقدم في السن الذي  أبى أن يغادر ويترك أبناء بلدته لمعاناتهم، رغم التهديد الذي كان يتلقاه .

 أخلص لأقول أن هذه البيئة الجغرافية والإجتماعية المنفتحة من ناحية والمأزومة من ناحية ثانية،سواءً عايش الدكتور علي قسماً منها قبل أن ينزح الى العاصمة أوعانى من اثارها هو وأهله وأبناء بلدته النازحون الى بيروت. هذه البيئة كان لها أكبر الأثرفي نفس وأفكار الدكتور علي فاعور . حيث رأيناه فيما بعد يفجر طاقانه العلمية في دراسات معظمها يتناول قضايا السكان : الهجرة والتهجير،تأثيرات الحروب على النزوح السكاني، مشاكل الإسكان، السياسات السكانية، وغيرها…….

د. علي فاعور

علي فاعور بين الدراسة والتدريس والتأليف المدرسي

قبل ان ينزح الى بيروت بدأ مشواره الدراسي في بلدته،حيث أنهى المرحلتين الإبتدائية والتكميلية، وكان دائماً من المبرزين بين أقرانه. ثم تابع مسيرنه العلمية بدخوله الى دار المعلمين الإبتدائية ومن ثم التحق في معهد التعليم العالي ليتخرج استاذاً في التعليم الثانوي.حيث بدأ بالتدريس في طرابلس ، انتقل بعدها الى ثانوية الأشرفية في بيروت , وخلال هذه الفترة تسلم رئاسة لجنة التصحيح لمادة الجغرافية في الإمتحانات الرسمية طيلة أكثر من عشر سنوات.لتبدأ مسيرته في عالم التأليف.

كما أن وجوده في بيروت سمح له بمتابعة دراسته الجامعية في قسم الجغرافيا. ولما تلمس فيه رئيس قسم الجغرافيا آنذاك، تميزه، ،شجعه على متابعة دراسته ، فنال ديبلوماً في الدراسات العليا ..

وفي عام 1971 نال منحة من الجامعة اللبنانية لمتابعة دراسة الدكتوراه، فترك التدريس ليساقر الى بلجيكا، ويلتحق بجامعة بروكسل الحرة ، حيث اعد أطرووحة عن مدينة طرابلس، وبعدما أنهى هذه المرحلة في عام 1975، عاد الى لبنان، بالرغم من العروض التي قدمت له لتعيينه مدرساً في جامعة بروكسل. وفي عام 1976 بدا مشواره مع التعليم الجامعي في كلية الأداب- قسم الجغرافيا في الجامعة اللبنانية، ثم تسلم رئاسة القسم إثر مغادرة رئيس القسم السابق جاك بيزانسون الى فرنسا، مع بداية الحرب الأهلية المؤلمة.

وفي العام 1982،وبعد ترقيته لرتبة أستاذ،بدأ يعد لتطوير القسم اكاديمياً، فاستحدث شهادة الماجستر، بدعم من رئيس الجامعة اللبنانية في حينه الدكتور جورج طعمة، الذي أمن له التجهيزات اللازمة للقسم، ووفر له منحاً للطلاب المتفوقين لكي يسافروا الى فرنسا لمتابعة دراساتهم العليا. وخلال تدريسه في الجامعة كان يحاضر أيضاً في المدرسة الحربية وكلية القيادة والأركان للجيش اللبناني، واستمر بذلك حتى تاريخ تقاعده في عام 2009

مراكز تبوأها خارج الجامعة:

 باحث وخبير ومستشار لدى الهيئات الدولية والعربية.

عيًن عضواً في مؤسسة أطلس الوطن العربي( إتحاد الجامعات العربية، وعضواً في إتحاد الديمغرافيين العرب-

– عضو الهيئة الدولية لجغرافية السكان- الإتحاد الجغرافي الدولي.

– خبير ومستشار في اللجنة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا في هيئة الأمم المتحدة( الإسكوا)

خبير وباحث في مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية ( الهابيتات)، وبرنامج الأمم المتحدةالإنمائي.وصندوق الأمم المتحدة للسكان،حيث كان لي شرف المشاركة معه ومجموعة من الباحثين والخبراء في تحليل نتائج المسح السكاني الذي قام به الصندوق المذكور في عام 1996

عمل خبيراً مع إتحاد الوالدية العالمي لتنظيم الأسرة بالتعاون مع جمعية الديموغرافيين العرب

– أما في لبنان فقد عيًن في عام 1993،عضواً في مجلس إدارة المجلس الوطني للبحوث العلمية، وممثلاً لوزارة التعليم العالي فيه، ولا يزال في مهامه حتى تاريخه. كما تم تكليفه بمهام مستشار لدى وزارة الشؤون الإجتماعية عام 1997، حيث شارك في إعداد خريطة الفقر في لبنان.. وتحليل الدراسات الإحصائية..

 كما هو عضو مجلس الأمناء في الجامعة الإسلامية    

علي فاعور العميد : من تأسيس كلية السياحة والفنادق إلى كلية الآداب

إن المشاغل الكثيرة التي وضع الدكتور علي نفسه في خضمها، لم تحل دونه والتفكير بما هو أبعد من إهتماماته الشخصية ،إذ كانت لديه نظرة ثاقبةهدفت لتطوير القطاع التعليمي في الجامعة اللبنانية. فقد استطاع إقناع المعنيين بالأمر بضرورة إنشاء كلية السياحة، لما لهذه الكلية من أهمية في تفعيل وتنشيط القطاع السياحي الذي يعد من أهم القطاعات الإقتصادية في لبنان، فضلا عن كون هذه الكلية وقع على عاتقهاإعداد كوادر طلابية على مستوىً عالٍ من المعرفة في الفنون السياحية والفندقية، وتراهم اليوم يمسكون بزمام القطاع السياحي في لبنان وكثير من المؤسسات السياحية في البلدان العربية والعالمية.

ولا أنسى كيف كان يشتغل ليل نهار، لكي ينجز مهمة إستحداث الكلية حاملاً مستندات إنشائها من قوانين وأنظمة من دائرة الى أخرى ومن مسؤول الى آخر. وقد استطاع بإصراره أن يستصدر مراسيمها التنظيمية في فترة وجيزة جداً ، ورغم انقضاء معظم العام الجامعي في حينه، إلا أنه أجرى إمتحانات الدخول وابتدأ السنة الدراسية في شهر نيسان 1997، مع فريق من المدرسين والإختصاصيين في المجال الساحي والفندقي ، أفتخر بأنني كنت واحداً منهم. وفي بداية العام الجامعي الجديد كان الطلاب قد أنهوا السنة الأولى، وقد ظل عميداً لهذه الكلية منذ تأسيسها حتى العام 2003، وفي عهده أصبحت الكلية على درجة من الشهرة جعلت العديد من الجامعات في الدول العربية تطلب التنسيق معها للإستفادة من نظمها وطرق التدريس فيها. وفي عام 2008 تم تكليفه عميداً لكلية الآداب حيث أشرف على (LMD)      تطبيق نظام ال

وكثيراً ماكان رئيس الجامعة يكلفه بحل المشاكل الإدارية وأحياناً الفردية، التي كانت تحصل في فروع الكلية، وذلك بسبب الحظوة والإحترام اللذين كان يحظى بهما من جميع أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة     ،       .

علي فاعور مؤلف وباحث غزير العطاء

  إضافة الى ىترؤسه اللجان الفاحصة لمادة الجغرافيا في الإمتحانات الرسمية، عيًن عضواً في لجنة دراسة الكتب المدرسية لمادة الجغرافيا. ومنذ ذلك الحين بدأت مسيرته في عالم التأليف،. فألف ونشر عدة كتب جغرافية للمراحل التعليمية الثلاث، نذكر منها: وسلسلة الجغرافية العلمية للمرحلة المتوسطة، وسلسلة الجغرافية للمراحل الثلاث: الإبتدائية، ولمتوسطة،و الثانوية.ومجموعة من الأطالس، منها:أطلس العالم الجديد، وأطلس الكويت والعالم، وكانت أهم محطة في مسيرته البحثية في عام 1990 عندما أسس دار المؤسسة الجغرافية وبدأ ينشر من خلالها كتبه وأبحاثه القيمة ودراساته المعمقة.

 لذلك لانبالغ إذا قلنا أن  بين الدكتور علي وبين البحث والغوص في كنه القضايا العلمية شغف منقطع النظير، وذلك واضح في عطائه الغزير بين دراسات وابحاث وكتب وأطالس جغرافية للبنان ولبعض البلدان العربية، لا مجال لتعدادها . وقد نشرت في اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، ولصالح منظمات عالمية وعربية ومحلية ، بعضها تناول قضايا السكان في لبنان من هجرة ونزوح ، إضافة الى القضايا الإقتصادية والإجتماعية والعمرانية، وبعضها تناول موضوعات تعنى بالشأن العربي والعالمي.كما شارك في عشرات المؤتمرات

والإجتماعات العلمية في الخارج زادت على ثلاثين مؤتمراً ومشاركة، يكفي أن أذكر منها المؤتمرات العالمية الثلاثة التي إنعقدت في نهاية القرن العشرين، ومثل فيها لبنان، وهي:

1-المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، الذي إنعقد في القاهرة عام 1994، وقد أعد الدكتور علي فاعور دراسة قدمت في المؤتمر، بعنوان:

القمة العالمية للتمية الإجتماعية (قمة الفقر)، والتي إنعقدت في كوبنهاغن عام 1995.

2- مؤتمر قمة المدن أو “الموئل الثاني” والذي إنعقد في إسطنبول عام 1996، وقد أعد الدكتور فاعور دراسة الى المؤتمر نشرت في كتابه “آفاق التحضر العربي” الصادر عن دار النهضة العربية عام 2006.

الحقيقة أن تعداد إنجازات الدكتور علي في هذا المجال لايتسع لها الوقت، ولكن لا بد من ذكر بعض من كتبه الجامعية :

*كتاب جنوب لبنان ، الطبيعة والإنسان، الذي صدر في عام 1984، وهو الكتاب الأول في إصداراته، وأول كتاب عن جنوب لبنان،يبحث في تكوين هذه المنطقة  من ناحية طبيعتها الجيولوجية والمورفولوجية والمناخية والنباتية،مع دليل جغرافي وخرائط لمدن الجنوب وقراه وعدد سكانها.

ثلاث كتب صدرت بعد الحرب اللبنانية، وهي: بيروت ( 1975-1990) التحولات الديموغرافية والإجتماعية* والإقتصادية، وجغرافية التهجير: وقائع وحلول ، والهجرة للبحث عن وطن..بعد الحرب اللبنانية عام 1993.

ثم أطلس لبنان (الحلم الذي كان يحدثنا عنه دائماً)، والصادر عن دار المؤسسة الجغرافية عام 2007،. وكذلك*كتاب “آفاق التحضر العربي” وهو يضم أكثر من 20 دراسة عن السكان والمدن، كان أعدها مع مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.

وفي رقم قياسي لما يمكن ان ينشره باحث (في فترة التقاعد)، أصدر خلال ثلاث سنوات ، من 2014 الى 2016، أربعة كتب من الحجم الكبير، بلغ عدد صفحاتها 1856 صفحة، بمتوسط 464 صفحة لكل كتاب.وهذه الكتب هي:

أربعة ملايين لاجئ، الإنفجار السكاني ، هل تبقى سورية وهل ينجو لبنان؟*

جغرافية الشتات ” الهجرة وشبكات الشتات في بلدان الإغتراب*.

الهجرات الدولية، الهجرات البشرية منذ فجر التاريخ*

السكان والهجرات الدولية ، شيخوخة أوروبا وتوسع آفاق الهجرة*.

لقد أحدثت هذه الكتب ضجة على الساحتين الثقافية والإعلامية، وبالأخص كتاب ،الإنفجار السكاني ، هل تبقى سورية وهل ينجو لبنان؟ ففي هذا الكتاب قرع الباحث ناقوس الخطر من ان لبنان قادم على أزمة ديمغرافية قد تطيح بتركيبته الهشة وإقتصاده الرازح أصلاً تحت الديون. وبخلاف التقديرات الدولية التي كانت تخفف من وطأة هذا اللجوء، برهن بالأرقام أن عدد سكان لبنان بات يزيد على ثمانية ملايين ساكن، أكثر من نصفهم من غير اللبنانيين (من النازحين واللاجئين، ومكتومي النفوس، والمهاجرين غير الشرعيين..). فلبنان الدولة الوحيدة وحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” الذي يتبع سياسة الحدود المفتوحة.

في كل مرة كان يكتب الدكتور علي، والخوف على لبنان بائن في ثنايا تفكيره وأبحاثه، لذلك كان يصبو الى معالجة المشاكل وفق حلول علمية بعيداً عن الأنانية والتحريض، ولكن على من تلقي مزاميرك ياداود.

أما في كتابه السكان والهجرات الدولية ، شيخوخة أوروبا وتوسع آفاق الهجرة.  يبين كيف أن انعدام التوازن الديمغرافي بين عالم متقدم كالإتحاد الأوروبي لايزيد النمو السكاني في معظم دوله على ال1%, بل أن بعضها يسجل نمواً سلبياً كما في هنغاريا مثلاً. حوًل هذه القارة الأوروبية الى قارة عجوز تعيش مرحلة شيخوخة سكانية، ويبين كيف أن الهجرة الدولية أصبحت تسهم بحوالى 80% من نموها السكاني، يأتي معظمها من الدول الفقيرة وبالأخص من أفريقيا،  وفي كل هذ الحراك الديمغرافي يرتبط الأمر بخريطة الجوع وبالتفاوت الإقتصادي، وأخطر مافي الأمرأن هذه الدول المتقدمة تمارس سياسة الهجرة الإنتقائية لتأخذ من الدول الفقيرة أدمغتها.حيث تبين الأرقام الى خطورة هذا النزيف على الدول النامية، فمن بلد مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي لم يصل بعد سكانها الأصليون الى المليون نسمة بينما يزيد عدد المقيمين من الأجانب فيها على السبعة ملايين نسمة،  من هذه الدولة الصغيرة الحجم السكاني هناك 4577طبياً يعمل 99% منهم في الولايات المتحدة.

دكتور أنت نهر من العطاء لا ينضب ، صلت وجلت في ضروب المعرفةتنقيباً وتأليفاً ، ونحن نقول في الجغرافيا إن الموارد منها ماهو نافد، ومنها ماهو دائم ومتجدد كنور الشمس والهواء،والدكتور علي، رغم طول مسيرته العلمية مازال يتدفق عطاء وفكراً، أنه مورد بشري وعلمي متجدد،أطال الله بعمره وعمر من يقدرون العلم والعلماءويعلون شأنهم فلا شك أنهم أيضاً على قدر من الرقي، يجعلني باسم جميع المكرمين أشكر أولئك المكرمين، فأنتم تستحقون فائق الثناء .

******

(*) ألقيت في مناسبة تكريم  د. علي فيعور ضمن أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي خلال “المهرجان اللبناني للكتاب”  في دورته السابعة والثلاثين في مارس الماضي  من تنظيم  الحركة الثقافية- أنطلياس.

اترك رد