الأب د. نجيب بعقليني
(نائب رئيس جمعيّة عدل ورحمة)
تناقش لجنة مناهضة التعذيب، لدى الأمم المتّحدة، في جنيف (سويسرا في 20 و21 نيسان/ابريل الجاري)، تقرير لبنان الأوّليّ، الذي يتعلّق بمناهضة التعذيب في السجون اللبنانيّة، الذي أرسلته الحكومة اللبنانيّة في 19 آذار 2016، بعد أكثر من خمسة عشرة سنة من التأخير.
بالرغم من هذا التأخير الفادح، من قبل الحكومة اللبنانيّة، إلاّ أنّه يبقى الأمل كبيرًا بالنهوض للحدّ من التعذيب النفسيّ والجسديّ، وممارسة العنف، والتعدّي على حقوق الإنسان وكرامته.
هل سنوفّق يومًا إلى تحقيق السلام ووضع حدٍّ للتعذيب والعنف؟ هل سنحقّق الآمال ونتمكّن من احترام جميع حقوق الإنسان والمحافظة على كرامته؟ أم أنّ الأمر سيبقى متعثّرًا وحلمًا لن يتحقّق؟ كم يرتكب الإنسان بحقّ أخيه الإنسان، عن قصد أو عن غير قصد، أخطاء جسيمة ومعيبة بحقّ الإنسانيّة وبحقّ الله الخالق؟
بالرغم من تقدّم الحضارة والعلوم الاجتماعيّة وحركة الدفاع عن حقوق الإنسان، لا يزال إنسان عصرنا يُعامل “الآخر” في السّجن معاملة سيّئة، أي معاملة لا إنسانيّة، قاسية، مهينة ومسيئة لآدميته، تطال كرامة الشخص البشريّ، من خلال التعذيب الجسديّ والنفسيّ، وحتّى منعه أبسط حقوقه.
إنّ استعمال أساليب التّعذيب والتنكيل ضدّ الإنسان المُذنب أو المُتَّهم وحتّى البريء، عارٌّ بحقّ الإنسانيّة، لا سيّما على الذين يستعملونها، أكثر ممّا تُلحقه بضحاياها، لأنّها تتعارض مع فكر الله وعمله وحبّه للإنسان.
لا يحقّ للإنسان إذلال أخيه الإنسان المُتّهم، المُدّعى عليه أو المُشتبه به، أو الذي اقترف ذنبًا، أو الني ينفّذ محكوميّته وعقابه، تكفيرًا عن أخطائه الجسيمة وذنوبه الكبيرة.
يا أيّها الإنسان ماذا تفعل بأخيكَ الإنسان؟ ألا يكفي الدّمار والعذاب والتشرّد، والظلم والاضطهاد بسبب الحروب؟ ألا يكفي ما يسبّبه المرض الجسديّ والنفسيّ؟ ألا يكفي الحزن والألم والكآبة واليأس جرّاء الصعوبات والمشاكل التي يتعرّض لها الإنسان: بطالة، فقر، خلافات زوجيّة وعائليّة ومهنيّة؟ ألا تكفي العذابات التي تسبّبها الكوارث الطبيعيّة والحوادث اليوميّة الأليمة؟ والجرائم ضدّ الإنسانيّة؟ ألا يكفي قتل الأبرياء والعذابات من قبل الإرهاب العالمي؟ ألا يكفي عزل الآخر وتهميشه ورفضه. أَوَلَيسَت تلكَ الحالات عذابٌ وتعذيب؟
يدعونا الله إلى ممارسة الرحمة والحدّ من العنف والقهر والتعذيب، كما السيطرة على الخوف والقنوط وتخطّي الحواجز. يدعونا إلى تجديد إنسانيّتنا ببناء إنسانٍ يؤمن ويترجّى ويحبّ ويغفر ويتضامن… يدعونا الله إلى التحرّر من القيود، التي تُعيق مسيرتنا. يذكّرنا بأعمال الرحمة والمحبّة.
نعم، تتطلّب الرحمة الخروج من الذات، أي إفراغها والانطلاق نحو الآخر، لا سيّما الفقير والمحتاج والسّجين. نرفض أن يكون العنف سيّد هذا العصر، كما السلطة والمال. نعم، إنّ الرحمة هي العمل النهائيّ والأسمى، الذي من خلاله، يأتي الله إلى لقائنا. عندما تطغى الرحمة على ممارسات الإنسان، يكون الله حاضرٌ بين البشر.
نتابع اليوم (20 و21 نيسان) مناقشة تقرير لبنان الرسميّ، حول مناهضة التعذيب. بالتأكيد، إنجاح هذا المشروع الإنسانيّ للحدّ من التعذيب، يقع على عاتق الحكومة اللبنانيّة وعلى المجتمع المدنيّ. من هنا لا بدّ أن تتضافر الجهود، وتوزَّع المهام والمسؤوليات من أجل تنفيذ المواثيق وتطبيق الاتّفاقات الدوليّة، كما احترام دساتير الدول وقوانينها الداخليّة، المتعلّقة بحقوق الإنسان. أَوَلَيسَت المؤتمرات والندوات وعمل المجتمع المدنيّ، حافزًا لتأكيد ضرورة حماية حقوق الإنسان؟ يتطلّب من مجتمعنا (حكومةً وشعبًا) العمل بجهدٍ أكبر للتغلّب، على ظاهرة العنف والتعذيب، والإرهاب والترهيب، والإكراه والضغط، خارج السّجن وداخله.
تصبّ جهودنا الصادقة والصحيحة، مع جهود المجتمع الدوليّ، في مناهضة التعذيب، والحدّ من المعاملة القاسية، أو التصرّف أللإنسانيّ والمُهين، تجاه الأشخاص المحرومين من الدفاع عن أنفسهم، بسبب فقدانهم لحريّتهم، وأبسط حقوقهم الإنسانيّة (مُصلح اجتماعيّ، مكان لائق ونظيف، توكيل محامي…).
نعم، لثقافة الحياة لا الموت، نعم، لثقافة الرأفة والمعاملة الحسنة. كم نحن بحاجة إلى اتّخاذ الإجراءات، الجريئة والواضحة، لمنع أعمال التعذيب، من خلال سَنِّ تشريعات واتّخاذ الإجراءات القضائيّة والإداريّة والقانونيّة اللازمة لمكافحة الظلم. نحن بحاجة اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن نمتثل للشرعيّة الدوليّة، التي تدافع وتحافظ على حقوق الإنسان.
لننشر ثقافة الرحمة وذهنيّة الرأفة في مجتمعنا…
لِنعمل على إنشاء ثقافة استباقيّة ووقائيّة.
لِنعمل على إعادة النظر في بعض القوانين الجائرة وتحسينها.
لِنعمل يدًا بيد، حكومةً ومجتمعًا مدنيّ، من أجل خير كلِّ إنسان. نعم، معًا لمناهضة التعذيب في عالمنا.
لندعم معًا، ميثاق الأمم المتّحدة والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
لنضع حدًّا للثقافات البالية والمتحجّرة والمتشدّدة، والأعراف والتقاليد الخاطئة، المُسيئة والمُهينة للإنسان، التي تقوم على الثأر والانتقام والخوف والتسلّط.
لنربّي على الحبّ والعاطفة والحنان والرأفة والمسامحة والغفران والعدل والرحمة.